للأقصى رب يحميه ولكن..
كتب بواسطة إحسان الفقيه
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
2000 مشاهدة
لم يكن نبيا مُرسلا يُوحى إليه من السماء وهو يقول: للبيت ربٌ يحميه، بل كان عبد المطلب بن هاشم – جد النبي صلى الله عليه وسلم – فاقدا لأدوات المواجهة مع جيش أبرهة الذي استهدف بيت الله الحرام، فكان ظنه أن الله سيحمي البيت لعظمته ومكانته عند ربه وفي تراث النبوة.
كانت المعجزة، وكانت الطير الأبابيل ترمي بحجارة السجيل، فأهلكت الغزاة، وعُصِم البيت من التخريب، لكن الحكمة من انتصار المجتمع المكي الوثني حينذاك على جيش أبرهة – وهم أقرب للحق باعتبارهم أهل كتاب- كانت صيانة تلك البقعة التي سيُولد فيها نبي آخر الزمان بعد خمسين يوما، فكانت المعجزة (بحفظ الأرض الحاضنة للنبوة)، من الرق والاحتلال، إضافة إلى أن المعجزة سوف تلفت أنظار العالم، فإذا خرج منها من يقول بأنه نبي يكون ذلك مدعاة لتصديقه. استشفاف هذه الحكمة يدعمه الواقع، لأن الكعبة على شرفها ومكانتها لم تُعصم في عهد الأمويين، حيث تهدّمت أجزاء منها بسبب الصراعات الداخلية، ولم تُعصم بعد ذلك بقرون من عبث القرامطة، الذين اقتلعوا منها الحجر الأسود وحملوه إلى ديارهم 22 عاما بعد قتل الحجاج حول الكعبة.للبيت رب يحميه، ليست قاعدة مُطردة في حماية المقدسات، بما في ذلك المسجد الأقصى، الذي كلما مر الزمن اشتد عليه بأس الصهاينة، وازداد المسلمون تفريطا فيه.
في ظل الانتهاكات الإسرائيلية الحالية تجاه الأقصى بجرأة تتفق مع استخذاء حُكّام العرب، برزت تلك المقولة المُغمّسة بالاتكالية والمنطق التبريري والتهرّب من المسؤولية تجاه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: لا تقلقوا، لن يُصاب الأقصى بسوء، سيحميه ربه كما حمى البيت من أبرهة.
ذلك المُعتقد المفرط في التفاؤل صورة أخرى من صور التهاون بحق الأقصى، فليس هناك من دليل شرعي أو عقلي ينفي تعرض هذا المسجد للهدم، على عكس القرآن الكريم، فقد تكفل الله بحفظ القرآن، وورد فيه النص الصريح «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، ولم يكِل حفظه للمسلمين، فمحال أن يعتريه التحريف والتبديل مهما فرّط المسلمون، والواقع خير شاهد. أما هدم الأقصى فليس بمُمتنع قدَرًا ولا شرعًا، وعلى الأمة الإسلامية الحفاظ عليه وصيانته، والقول بغير ذلك إغراق في الأماني الزائفة، وإخماد للجذوة التي لا زال بها بقية من وهج في قلوب المسلمين. الله تعالى قادر على نصرة دينه وتحرير مسرى نبيه وأولى قبلتي المسلمين، لكنها طبيعة هذا الدين، تقوم على أكتاف معتنقيه عندما يتمثلون تعاليمه ويأخذون بأسباب النصر والتمكين. نصرة الأقصى لن تتحقق بانتظار المعجزات، بل بهمٍّ عام تصطبغ به الأمة الإسلامية، همّ كذلك الذي منع صلاح الدين من الضحك لا لشيء إلا لأن المسجد الأقصى أسير بأيدي الصليبيين. ذلك الهمّ الذي ملأ كيان السلطان نور الدين محمود زنكي، وجعله في غمرة الاحتلال الصليبي للقدس، يبني منبرا ليخطب عليه في المسجد الأقصى بعد أن يقوم بتحريره.
يا بني ديني ودمي وهمّي
أعلمُ يقينا أن حُكام وملوك الأمس ليسوا كحكام اليوم، الذين تآمر بعضهم على دم المُسلمين لمُبررات مكيافيلية مُختلفة، ونعلمُ أنهم تقاعسوا عن نُصرة الأقصى، أولئك الذين فضحتهم فلسطين، عندما باعوا الوهم إلى الشعوب باسم الدفاع عن المقدسات، وشرعنوا وجودهم بشعارات جوفاء حول القضية الفلسطينية، لكنهم اليوم يقفون عُراة حُفاة مفلسين، ليس لأحدهم ورقة توت يستر بها عورته، استنفدوا كل مبررات القعود التي تُسكّن غضب الجماهير، وغاصوا بصورة علنية في وحل التطبيع. لكن التعويل ـ بعد الله تعالى ـ على الشعب الفلسطيني ذاته، هؤلاء هم أهل الرباط، هم الذين يعيشون القضية على أرض الواقع لا صفحات الفيسبوك وتويتر، التعويل على شدة بأسهم ووعيهم المتنامي. ثم التعويل على الشعوب الإسلامية التي تتّسع الفجوة بينها وبين حُكّامها، على مدار الساعة، ممن يتم التنكيل بهم والتضييق عليهم وشيطنتهم وتشويه مقاصدهم، ومع ذلك يظلّ الأقصى في قلوبهم (بوصلة ومسطرة وخريطة طريق)، فعلى قادة الرأي والدعاة والمصلحين والرموز الدينية والسياسية والثقافية، مهمة إبقاء الوعي مُتّقدا، حتى لا تخمد القضية في النفوس، فاستهداف الأقصى يتم بصورة تدريجية لإخماد الحس الديني والشعور بالقضية عن طريق استغلال طبائع البشر في إلف العادة والصورة، على طريقة الثعالب. يقول الإمام ابن القيم: «ومن عجيب أمره (أي: الثعلب) أنه أتى إلى جزيرة فيها طير فأعْمَل الحيلة كي يأخذ منها شيئا، فلم يطق، فذهب وجاء بضغث من حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير، ففزع منه. فلما عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها، فعاد لذلك مرة ثانية وثالثة ورابعة، حتى تواظب الطير على ذلك وألفته، فعمد إلى جرزة أكبر من ذلك فدخل فيها، وعبر إلى الطير. فلم يشُك الطير أنه من جنس ما قبله، فلم تنفر منه فوثب على طائر منها وعدا به».
والواقع يقول إن التفاعل مع الانتهاكات ضد الأقصى يخفت مع مرور الوقت، فنخشى أن نفيق يوما على خبر في وسائل الإعلام يفجعنا بهدم الأقصى. نصرة الأقصى تستلزم التنسيق بين القوى الشعبية والتيارات الإسلامية والوطنية والمُحافِظة، والمؤسسات والهيئات العلمية والحقوقية المختلفة، للوصول إلى رؤية موحدة أكثر فعالية، بهدف الضغط على الدوائر الرسمية من أجل تحرك دولي دبلوماسي قوي لمنع الانتهاكات المتكررة للمسجد الأقصى. نصرة الأقصى تكون عبر تغيير عام في حياة المسلمين وفق المنهج الرباني، يرتكزعلى تحقيق العبودية لله بمعناها الشامل لا المُختزل المُجتزأ، كما يرتكز على صفاء الانتماء ووضوح الراية.
والمتأمل في النبوءة الواردة بشأن المعركة الفاصلة مع الصهاينة، التي نوقن بها كما يوقنون هم، سيرى أن الحجر والشجر سيخبر المسلمين عمّن يختبئ خلفه من بني إسرائيل، وينادي المسلم بقوله (يا مسلم، يا عبد الله). فكلمة يا مسلم تخبر عن أسلمة قضية الأقصى وتعيين الراية ووضوحها، وكلمة يا عبد الله تشير إلى أزكى وصف للمرء وهو وصف العبودية لله رب العالمين.
المصدر : القدس
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة