إغلاق الجزيرة إذ يقرّب 'إسرائيل' إلى عرب 'الاعتدال'!
كانت حالة تشبه تبادلاً متفقاً عليه للأدوار؛ تَصفُ صحيفة عربية رسمية حماس بالحركة الإرهابية، فيطرب لتعبيرها قادة صهاينة ويتّخذون شهادتها حجّة تؤكد صوابية تصنيفهم للحركة واستمرار ملاحقتها.. ثم تعلن الحكومة الصهيونية أنها قررت إغلاق مكتب قناة الجزيرة في القدس جرياً على التقليد ذاته التي انتهجته أنظمة عربية سبقتها للفعل نفسه، ووصفها وزير الاتصالات الصهيوني بالمعتدلة، آملاً في أن يكون القرار فاتحة للتواصل معها!
ليس صدفة هذا التآلف في الأفعال والقناعات، فالاحتلال الصهيوني التي تروج أنظمة عربية للتطبيع معه بات أقرب إليها من كل تيارات التحرر وحركات المقاومة في الأمة، والغزل المتبادل بين أنظمة (الاعتدال) وكيان الاحتلال بات حرفة لها موظّفون ومغرّدون وسوق سوداء وفضاءات إعلامية تنفث عبرها سمّها اليومي، ولن يكون مستغرباً أن تغدو إسرائيل بعد برهة من الزمن عضواً أساسياَ وفاعلاً في حلف عربي جديد يحاول استكمال مشروع الثورة المضادة وإرساء دعائم جديدة للسياسة والإعلام والاقتصاد.
لم تجد حكومة الاحتلال حرجاً هذه المرة في التأكيد على احتذائها بصنيع أنظمة عربية في حظر قناة الجزيرة، وفي إبداء رغبتها بالتعاون والتواصل مع تلك الأنظمة بغية تحقيق أهداف ومصالح مشتركة، لكنها رغم كل ذلك وارت أزمتها الحقيقية التي مسّت مفاصل كبريائها وعنجهيتها، بعد انكسارها أمام صمود المرابطين في القدس، وهي إذ فشلت في عقاب المرابطين أو الانتقام منهم، حاولت تفريغ غضبها في المنابر الإعلامية التي رعت هذا الصمود أو غطته بمهنية وتجرد ومواكبة حثيثة كما فعلت شبكة الجزيرة طيلة مدة الرباط.
وبطبيعة الحال لم تكن الجزيرة وحدها هدفاً لهذا الانتقام بل إنه طال مؤسسات إعلامية محلية أخرى داخل فلسطين، كما طال رموزاً وعناصر يعدّها الاحتلال محرضة عليه، رغم أن دور بعضها لم يتجاوز التغطية والتفاعل مع الحدث وتحليله والتركيز على معاني انكسار إرادة الاحتلال وإجباره على التراجع عن قراراته.
ويبدو أن الكيان الذي يعدّ نفسه (الدولة الديمقراطية الأولى) في الشرق الأوسط وجد أخيراً أن خير سبيل للاندماج في هذا الشرق والتآلف النفسي والعقلي مع أنظمته المستبدة هو بمحاكاة سياساتها وخصوصاً المتعلقة بحرية الإعلام، وإغلاق كل المنابر المزعجة حتى لو كانت المبررات هشة وواهية.
فلن يستقيم أن يحدث التطبيع مع هذه الأنظمة دون ممهدات تكسر الحواجز النفسية وتغري تلك الأنظمة بالاقتراب من كيان الاحتلال بعد أن تلمس حرصه على احترام سياساتها تجاه خصومها أو أعدائها الجدد، وعلى تقليدها في جنونها وهوسها غير المبرريْن، وحساسيتها من الكلمة الحرّة ذات الوقع والتأثير والقدرة على التحريك.
ومن جهة أخرى تبدو حكومة الاحتلال اليوم أكثر ميلاً للتخلي عن كثير من أقنعتها التي ظلت حريصة على ارتدائها فيما مضى، وخاصة تلك المتعلقة بادعاء سماحها بحرية الرأي والتعبير، فهي اليوم ترى أن سياسات القمع والحظر وتكميم الأفواه أكثر جدوى وفاعلية لحسم معاركها أو للتنفيس من احتقانها الناشئ عن أزماتها الأخرى، وهي ليست مضطرة لتقديم كشف حساب للعالم بشأن سلوكها الديمقراطي، لأن كل ما يلزم هو اتخاذ يافطة مضللة من طراز (الحرب على الإرهاب) أو (مكافحة التحريض) لكي تجري انتهاكات كبيرة تحتها، فيما لا يبدو العالم مكترثاً بفحص مدى دقة أو صوابية تلك الادعاءات.
أما بالنسبة للجزيرة، فما حدث يبقى جزءاً من ضريبة كبرى سيظل متعيناً عليها وعلى كل منبر حرّ أن يدفعها، جملة واحدة أو بالتقسيط، لقاء تفوّقه ومهنيته وبراعته في نقل الحقيقة دون مساحيق، ولقاء احتشاد جمهور عريض وواعٍ حوله، وقبل ذلك كله ضريبة الأصالة والانحياز للقضايا العادلة في الأمة، وفلسطين ومقدّساتها واحدة منها.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة