طالبة جامعية في كلية الطب | لبنان
إدمان خطير
كانت الشَّمس الحارقة تزيد الموقف سخونة، وكانت عيون المتفرِّجين الشَّاخصة تزيد من حدَّة توتُّري... وفي حين كنَّا في منتزهٍ تعلو فيه أصوات الأطفال اللعوبة وضحكات النساء وأحاديث المتنزِّهين طوال الوقت؛ كان الصَّمتُ يخيِّم على المكان. كان الجميع متحلِّقين حولي بينما حاولتُ أن أنقذ حياة طفلٍ صغير! أمسكتُ بالطفل وضغطتُ بكلتا يديَّ على معدته وإلى الأعلى، فانبعثتْ من فمه حبَّة فستقٍ كبيرة، واستطاع الطفل بعدها أن يلتقط أنفاسه... اقتربتْ منِّي الأم وعيناها تفيضان امتناناً وتقديراً، "لا أدري كيف أشكرك..." قالت لي بصوتٍ مرتجف. أجبتها: "لا داعي للشكر فهذا واجبي!".
غادرتُ المنتزه وقلبي يكاد يطير فرحاً، فَيوم العطلة الذي كان من المفترض أن يكون عاديّاً وهادئاً قد أصبح من أسعد أيَّام حياتي وأكثرها إثارة. يا له من شعور رائع... وهل هناك أروع من مساعدة النَّاس وقضاء حوائجهم؟ نظرات الأمِّ لا تفارق مخيِّلتي، كم كانت مشاعرَ صادقةً ونابعةً من القلب، كم أثَّرت فيَّ وأسعدتني... نظرات الأمِّ غذَّت إدماني كما تغذِّي الأخشاب اللهب، إدماني على مساعدة النَّاس...
لقد بدأ هذا الإدمان منذ صغري، فكنتُ أجد حلاوة خاصَّة عندما أُقدِّم يد العون لأهلي أو لأصدقائي. كنتُ على عكس أقراني أفرح عندما تطلب منِّي والدتي أن أساعدها، وكانت سعادتي تزداد عندما أرى فرح أمِّي بادياً. ومنذ ذلك الحين وأنا أسعى دائماً لأكون السَّبَّاق في هذا المجال. فعملتُ على إعانة كلِّ محتاجٍ، سواءً عرفته أم لم أعرفه، وسواءً طلب منِّي المساعدة أم لم يطلب. ونتيجة لسعيي أصبحتُ معروفاً بهذه الصفة بين النَّاس، وزادت محبتي في قلوبهم.
كنتُ كلَّما ساعدتُ أحداً تولَّد فيَّ شعور جميلٌ يدفعني للقيام بذات العمل من جديد. ولذلك قررتُ أن أصبحَ ممرِّضاً مُجازاً كي أغذِّي إدماني، ففي هذه المهنة مجالٌ لا حدَّ له في مساعدة النَّاس والتخفيف عنهم. عندما انخرطتُ في العمل أديتُ واجبي على أكمل وجهٍ ممكن، ولم أجد ضِيقاً من العناية بالمرضى لساعاتٍ طويلة، فمساعدة الناس هي ما أهوى فعله. ونتيجة لإخلاصي وتفانيَّ في العمل؛ نلتُ جائزة "أفضل ممرِّضٍ" مرَّاتٍ عديدة.
في ليلة من الليالي، انطلق جهاز الإنذار من إحدى غرف المرضى، كانت الممرضة الأخرى التي تشاركتُ معها المناوبة الليلية تغطُّ في سباتٍ عميق، فهرعت إلى الغرفة وحدي، فوجدتُ أن المريض الذي يرقد في غيبوبة منذ زمن طويل قد انخفض تشبُّع الأوكسجين في دمه. أمسكتُ بقناع الأوكسجين ووضعته فوق فمه وأنفه، وانتظرتُ قليلاً فرأيتُ أن تشبع الأوكسجين قد عاد إلى طبيعته، وأصبح المريض خارج دائرة الخطر.
كان الهدوء يخيِّم على الغرفة وعلى الأروقة، ولم يكن أحدٌ موجوداً في الغرفة غيري وغير ذلك المريض الغائب عن الوعي. ولأوَّل مرَّة منذ زمنٍ بعيد، لا أشعر بشعورٍ جميلٍ بعد مساعدتي لأحدٍ ما. كنتُ أشعر بالضيق لأن عملي لم يشهد عليه أحد. انتابني الرُّعب لدى إدراكي لهذه الحقيقة المُرَّة، فما كنتُ أحسبه إدماناً على مساعدة الناس لم يكن إلَّا إدماناً على الشُّكر والثناء... إدمانٌ خطيرٌ يقودني من دون أن أعلم إلى التدهور والفناء...
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة