الأقصى مسرى القلوب
لا تفتر 'إسرائيل' تمتحن قوَّتها وضعفَ العرب والمسلمين على الدوام، فقد جسَّت نبضهم حين أقدمت فأغلقت أبواب المسجد الأقصى في وجه المصلين؛ الأمر الرهيب الذي لم تتجرأ على فعله منذ قرابة خمسة عقود بعد واقعة حرق المسجد التي دبَّرها 'مايكل دينس روهن' آنذاك؛ ذلك لتعرف هل الأُمَّة التي تحدَّتها في عام 1948م، وغرست في خاصرتها خنجراً، وصنعت لنفسها دولةً مشبوهة؛ لا تزال قويةً تنبض في الدقيقة سبعين نبضة؟ أم هي في مرحلة الهزال أو إنعاش ما قبل الموت؟
ولا يختلف اثنان أن الذي أغرى العدو بهذه الجرأة الوقحة الأوضاعُ العربية والإسلامية الراهنة من حوله.
دوَلٌ يحتجُّ حُكَّامها بأنهم مصفَّدون بأغلال ثِقال؛ من اتفاقية كامب ديفيد، إلى معاهدة وادي عربة. لكنهم في الواقع يحمون حدود إسرائيل من أيِّ بركانٍ شعبيٍّ متوقع، ويضحُّون بالشعب في سبيل ذلك. وحادثة الاستخفاف بدم أردنيين قَتَلهم دبلوماسيٌّ إسرائيلي في عَمَّان، والمصريون الذين تقتلهم سلطات الانقلاب في سيناء؛ خيرُ دليل على ما أقول.
ودولٌ تدور فيها رحى الموت، فلا تطحن الحبَّ والنّوى؛ بل تطحن حياتها ونفسها، يُقتل الناس فيها ويهجَّرون أفراداً وجماعات، كلُّ ذلك باسم الوطن تارةً، وباسم الأمن القومي تارةً أخرى. وما هذا ولا ذاك؛ بل من أجل تكريس النعرات الطائفية؛ حتى تضمن إسرائيل بقاءها إلى أجل بعيد، وإن كانت ضمنته أربعين عاماً تحت ممانعة الحكَّام الخونة..
ودولٌ تجتمع حكوماتها _ ليس على جدولها القدس ومحنتُه- بل من أجل محاصرة الشقيق وتمزيق العباءة التي التحفوا بها أكثر من خمس وثلاثين سنة.
وما أقدمت الصهيونية على جسِّ النبض إلَّا لأنها تعلم أن الحكومات التي تُطَبِّع معها وتمدُّ لها جسور التعاون من فوق الطاولة ومن تحتها؛ غير الشعوب التي تلعنها صباح مساء... الشعوب التي إن:
• صَحتْ مما خدَّرتها حكوماتها من انتخابات وأحزاب وبرلمانات.. وكلها خزعبلات كرتونية يقصد منها صمود الكرسي..
• أفاقتْ من دَجَل الإعلام الرسمي؛ الذي دوَّخها طويلاً بتشدد جماعات توصف إسلامية؛ مبتغياً من وراء ذلك الحملة على الإسلام نفسه..
• قرأتْ مناهج مدارسها الغثَّة؛ التي أبدلت مصطلحات الأخلاق بالدِّين، وأبدلت بآيات الجهاد والدفاع عن النَّفْس آيات التسامح والصفح..
• علمت أنَّ الذين يضحُّون بعمرهم ودمهم من أجل القدس ليسوا مؤلفِّي كُتب القومية العربية التي تدرَّس في المدارس, ولا تجّار الدِّين الذين يبيعون دينهم من أجل عين السلطان..، بل هم المؤمنون الذين صدقوا ما عاهدوا الله.
الشعوب التي إن صَحتْ وأفاقت وقرأت وعلمت؛ فإنها الهائجة العظيمة، التي لن يقف أمامها شيء.
لهذا لا لغيره أقدمت إسرائيل على منع المصلِّين من دخول المسجد الأقصى لصلاة الجمعة وانتظرت عواقب ذلك.
ولكن ليت شعري كم كان الردُّ سريعاً، انتفض ثلاثة شبّان من(آل جبّارين)، فبايعوا الله في عملية اشتباك يحضرها الموت، فقَتَلوا شرطيين إسرائيليين، واستُشهدوا ثلاثتهم فتمت البيعة بينهم وبين بارئهم بنص قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
20 / 40
ردٌّ أربَك العدو، ولقَّنه الدرسَ على هذه الطريقة: إن كان أيُّها العدو الخسيس أغراكَ تواطؤ بضعِ سلطات عربية خائنة، تضحك لك وتصفِّق لك في السَرَ, فإنَّ الظلم إذا تعاظم على الشعب يصبح الجهاد والدفاع عن النفس سجية وفطرة قبل أن يفرضه الدِّين, وقبل أن يعلن عنه الحاكم...
إننا من الطائفة التي قال فيها رسولنا محمد [: (لا تزال طائفة من أمتي على الدِّين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم مَن خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك)، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) رواه أحمد.
إن شعاع هذه الطائفة يبرق أبداً في سماء الوجود ولا يخبو على مدى الأيام، يستنفر طاقات الشباب بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
• قوَّة في الجسم؛ يدخل أصحاب هذه الطائفة دورات اللياقة وكمال الأجسام؛ ليس انتظاراً لابتسامة غيداء ولا كلمة إطراء من أحد؛ بل للاستعداد للشهادة..
• قوَّة في القلب؛ هي الإيمان الغامر الذي ما إن يسيطر على صاحبه حتى ترخص في مقابلته المُهج، الإيمان الذي قال فيه رسول الله [: (المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحَبّ لقاءَ الله وأحب الله لقاءه) رواه البخاري.
أمَّةٌ يصيبها الكسل بسبب غفلتها عن دينها، وبسبب الأدعياء والمتآمرين عليها؛ لكنها لا تموت، تنام ولكنها تستيقظ، تتعثر ولكنها تنشط وتقوم..
أمَّةٌ علَّمها نبيُّها [ أنَّ عقب كلِّ محنةٍ منحة، وعقب كل كربة متنفّس، فهو القائل - وقد أخذ الفأسَ يكسر به الصخرة أثناء حفر الخندق في غزوة الأحزاب، والمسلمون في حال شديدة من جوع شديدٍ وبردٍ قارصٍ، وعددٍ قليلٍ وأعداء كُثر-: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحُمْر من مكاني هذا.. الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر المدائن وأُبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا.. الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا) رواه أحمد.
أمَّة؛ لا تعدم تحبلُ وتلد المؤمنين الغيارى على دينهم وشعائره.. تلدُ محمد حامد جبارين الذي سرى قلبه إلى الأقصى قبل أن يعرج بروحه إلى السماء، فكتب على جدران الأقصى قبل تنفيذه العملية الاستشهادية: غداً ستكون الابتسامة أجمل!
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة