تعقيباً على تغريدة العفاسي بحقّ المفكر الكبير والأديب الشهيد سيد قطب
غرّد الشيخ مشاري العفاسي على "تويتر" قائلاً: "اتهم الاخواني سيد قطب الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه بالكذب والخبث والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم! فكيف لا يتهموني!" اهـ.
في تعقيبي على هذه "التغريدة"؛ سأنأى بقلمي عن "شخصنة" الأمور، والتغول في المقدمات التي دفعت الشيخ العفاسي إلى كتابة هذه الكلمات الخليّة من العدل الذي أمرنا الله تعالى أن نلزمه عند القول؛ لأن غايتي في التعقيب هو الدفاع عن الشهيد سيد قطب رحمه الله، الذي تعرض لظلم بعد استشهاده؛ ربما فاق ظلمَ الحكم عليه بالإعدام، ولا يهمّني إسقاط الطرف الآخر.. ويبدو أننا نعيش في زمن كثر فيه الذين يُسقطون أنفسهم بأنفسهم!
أما كلام سيد قطب المشار إليه؛ فهو الوارد في كتابه "كتب وشخصيات"، وهو كتاب قديم، طُبع لأول مرة في عام 1946م، وهي من السنوات الأولى التي شهدت بدايات التوجه "الإسلامي" لسيد قطب رحمه الله.
يقول الأستاذ سيد المولود في عام 1906، في كتابه "العدالة الاجتماعية" (ص203 - الطبعة المنقحة) متحدثاً عن نفسه:
"إن الذي يقول هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة، كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية، ما هو من تخصصه، وما هو من هواياته الثقافية.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره، فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم -وما كان يمكن أن يكون الأمر إلا كذلك-، وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره، وإنما عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها، وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادّعائها كذلك! وعلمَ علْمَ اليقين أنه لا يمكن أن يجمع المسلمُ بين هذين المصدرين في التلقي!".
إذن؛ هو يقرر أنه خلع ثوب "الجاهلية" الذي تدثره عشرات السنين، ليكتسي حُلة لا يمكن أن تلتقي على جسده مع ذلك الثوب القديم، لأنه عرفه على حقيقته، وأدرك بشاعته، وانشرح صدرُه بجمال حلته الجديدة، واطمأن فؤاده إلى ضرورة التزامها. ثم يأتي بعد ذلك من يُحاكمه -ظلماً وزوراً- على ارتدائه الثياب التي تخلى عنها من غير رجعة!!
وما علينا الآن إلا أن نثبت أن هذا الكلام "القاسي" الذي وصف به سيد رحمه الله، معاوية وعمراً رضي الله عنهما، هو جزءٌ من ذلك الثوب المخلوع..
لسيد قطب رحمه الله؛ طبعة منقحة لكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"؛ وكان قد قال في الطبعة الأولى من هذا الكتاب كلاماً شبيهاً بما نقله الشيخ العفاسي عنه من كتاب "كتب وشخصيات"، قال رحمه الله في "العدالة الاجتماعية -الطبعة القديمة- وهو أول كتاب ألّفه بعد الالتزام:
".. وجاء معاوية، تُعاونه العصبة التي على شاكلته، وعلى رأسها عمرو بن العاص، قومٌ تجمعهم المطامع والمآرب، وتدفعهم المطامح والرغائب، ولا يُمسكهم خلُقٌ ولا دينٌ ولا ضمير".
إننا إذا استعرضنا الطبعة التي نقحها سيد قطب من هذا الكتاب؛ فإننا لن نجد أثراً لهذا الكلام، وهذا أحد الأدلة الظاهرة على تراجعه، رحمه الله.
وإليك دليلاً آخر يخبرنا عنه أحد تلاميذ سيد قطب، وهو الأستاذ يوسف العظم رحمه الله، حيث قال في كتابه "رائد الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب" (ص317) تحت عنوان "توهم البعض أن الشهيد قد تبرأ من جميع كتبه ما عدا (الظلال) و(المعالم)":
"توهمَ البعضُ أن الشهيد قد أعلن كتابةً وحديثاً فيما كان يتمّ بينه وبين أصدقائه وإخوانه من لقاءات؛ أنه يتبرأ من كل ما كتب من عطاء، وما قدم من كتب؛ باستثناء كتابيه (في ظلال القرآن) و(معالم في الطريق)..
وأحسب أن الوهم الذي أشرتُ إليه جاء من مصدرين:
الأول: من حديث الشهيد عن بعض كتبه السابقة، كقصة أشواق، وقصة المدينة المحسورة، ونقد مستقبل الثقافة في مصر، وكتب وشخصيات، وهي كتب المرحلة الزمنية الأدبية في حياة الشهيد، إذ بيّن أكثر من مرة لمن حوله من المتصلين به والمقربين إليه؛ أنها كتب مرحلة معيّنة أورد فيها الشهيد بعض الآراء والأفكار مما لم يعُدْ يؤمن به أو يراه، أو أن ما استقر عليه الشهيد من رأي وفكر قد تجاوزها وتخطاها إلى منطلق جديد، وطريق أكثر استقامة وأرحب ميداناً..".
إن حُسن الظن بالشهيد سيد رحمه الله؛ مع ما مضى؛ يكفي لرد الفرية التي تلقفها الشيخ العفاسي ونشرها على "تويتره"، لكن "هواة التجريح" يرفضون اللجوء إلى حسن الظن في هذه الحالات، إذ يحصرون ممارسة هذه العبادة بمن هم على شاكلتهم، فإليهم نسوق المزيد، لعل الله يهديهم..
بيّن سيد قطب رحمه الله في "الظلال" (4: 2192-2193) ما وصفه بالأثر القوي الذي تركه القرآن والسنة في نفس معاوية، وتقيّده بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
"ولقد ترك القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أثراً قوياً، وطابعاً عاماً في هذه الناحية، ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز.. رُوي أنه كان بين معاوية بن أبي سفيان وملك الروم أمد، فسار إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم؛ أغار عليهم وهم غازون لا يشعرون، فقال له عمرو بن عبسة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر.. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان بينه وبين قوم أجل؛ فلا يحلنّ عقده حتى ينقضي أمدُها)، فرجع معاوية بالجيش".
وقال -رحمه الله- في "الظلال" (6: 3346) مقرراً أن معاوية التزم النظام العملي للمجتمع الإسلامي:
"وقال سفيان الثوري: عن راشد بن سعد، عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها..
فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي، ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب، بل صار سياجاً حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم، فلا تمس من قريب أو بعيد، تحت أي ذريعة أو ستار".
أما عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ فقد وصفه الشهيد سيد قطب بأنه عاش في إطار العقيدة، قال في "مقومات التصور الإسلامي" (ص368 - 369):
".. هنالك نجد أبا بكر وعمر، ونجد أبا ذر وعمرو بن العاص، ونجد خالد بن الوليد وجليبيب.. وكلّها وعشرات أمثالها من الطبائع والنماذج المتقابلة، عاشت في إطار هذه العقيدة، وفي إطار هذا المجتمع، متعاونةً ذلك التعاون الفريد المجيد".
ومع ما مضى؛ فليس من التجرد ودواعي البحث العلمي؛ أن نخفي أن الأوصاف التي وجهها سيد قطب سابقاً إلى معاوية وعمْرٍ رضي الله عنهما، واردة منجمةً في الروايات التاريخية عندنا معشر أهل السنة، وهي لا شك بحاجة إلى دراسة وتمحيص، ولو كان المقام يتسع لذكرها لأوردناها، إلا أن لذلك موضعاً آخر.. والله المستعان!
وكذلك؛ فإن كثيراً من العلماء -المتقدمين والمتأخرين- يذمّون معاوية وعَمْراً رضي الله عنهما، وذلك لقتالهما علياً رضي الله عنه وغير ذلك من الأمور، فلماذا التركيز على سيد قطب رحمه الله، ولومه فيما تراجع عنه؟!
خلاصة موقف سيد من الصحابة
مر سيد قطب في موقفه من بعض الصحابة رضوان الله عليهم بثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة ما قبل التوجه "الإسلامي"، حيث كان سيد قطب متأثراً بأفكار كل من طه حسين وعباس محمود العقاد، وكلاهما -خاصة طه حسين- كانت له مواقف سلبية تجاه الصحابة، وصلت حد السب والشتم والطعن، فوقع من سيد في هذه المرحلة كلمات قاسية في حق كل من معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، وذلك في كتابه "كتب وشخصيات"، وهو عبارة عن مقالات أدبية نقدية، نشرها الشهيد في عدة مجلات ما بين عامي 1942 و1946م (انظر "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" ص531 للدكتور صلاح الخالدي).
الثانية: مرحلة بداية توجهه "الإسلامي"، وفي هذه المرحلة ألّف أول كتاب له في الفكر الإسلامي، وهو "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وذلك في عام 1948م، وفي هذا الكتاب يظهر أن سيداً ما زال متأثراً -شيئاً ما- بأفكار طه حسين والعقاد، لذا فقد صدرت منه عبارات شديدة في حق عدد من الصحابة، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتصدى للرد عليه الأستاذ محمود شاكر رحمه الله، وبيّن سيد قطب -عام 1952- في تعليقه على مقالة لشاكر؛ أنه لا يقصد الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم، وإنما غايته الدفاع عن الإسلام مما نُسب إليه في كتب التاريخ والسير.
الثالثة: مرحلة استقلاله في دراسة التاريخ، وفي هذه المرحلة أصدر طبعة منقحة من كتاب "العدالة الاجتماعية" وهي الطبعة السادسة التي أصدرتها دار "إحياء الكتب العربية" عام 1964م، وحذف منها الشهيد ما انتقده عليه الأستاذ محمود شاكر، وعدّل كثيراً من العبارات، وأضاف أموراً أخرى، تبين استقرار موقفه من الصحابة على جادة العدل والإنصاف، وظهر ذلك جلياً في "الظلال" و"هذا الدين"، حيث أثنى ثناءً طيباً على عثمان ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكذا كال المديح لأصحاب رسول الله في الجملة، وفعل ذلك في كتابه "معالم في الطريق"، حيث وصف الصحابة رضوان الله عليهم بأنهم "جيل قرآني فريد"، وقال تحت هذا العنوان (ص14):
"لقد خرّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم -، جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله، وفي تاريخ البشرية جميعه، ثم لم تعُد تخرج هذا الطراز مرةً أخرى".
مما سبق؛ نتيقن أن الذي خلص إليه الشهيد سيد قطب رحمه الله؛ هو الثناء على الصحابة رضي الله عنهم، وأن ما نسبه الشيخ العفاسي لسيد إنما هو كلام قديم تراجع عنه، وتبرأ منه، واستقر على خلافه، والله تعالى اعلم..
المصدر : مدونة إحسان الفقيه
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن