وصايا الغش العشر
في كتابه (بهجة المجالس) ذكَر (ابن عبد البر) رحمه الله، أنَّ أربعةً تَقبح، وهي في أربعة أقبَح؛ أوّلها البخل في الأغنياء، ثمّ الفُحش في النّساء، والكذب في القُضاة، والظلم في الحُكم. وذلك لأنّ العقلَ يحتار والمنطقَ ينتحر؛ أمام غنيّ أفاء الله عليه وبسَط له العيْش ومع ذلك يقبض يدَه ويغلّها إلى عنقه! وأمام النساء اللائي فُطِرن على الحياء وجُبِلْن على العفاف ومع ذلك يَتفحَّشْن ويَتبذَّلن! وأمام قاضٍ مُوكَّل بالبحث عن الحقيقة ومع ذلك يكذب فيدهس الحقيقة! وأمام حاكِم ملَّكه الله البلادَ والعباد ومع ذلك يسوس بعصا البغْي وسوْط الظلم! والحقّ أن الإمام (ابن عبد البر) الذي أنار شعلة الفقه والحديث والتاريخ في دروب الأندلس قبل ألف عام تقريبا (368-463هـ)، لو أُعْطِي عُمر نوح عليه السلام؛ واطّلع على ما سأرويه، لأضاف خامسة تكتمل بها عدّة أصابع اليد، وهي الغِشّ في المُعلِّمين!
ذلك أنَّ مدْرستي الإعدادية المُوقَّرة، استضافت مدْرسةً أخرى ضمن ما يُعرف بالزيارات الطلابية، وأَعدّت لذلك برنامجا حافلا دُعِي له الأكابر من الرؤوس والأعيان، كما عُلّقت الراياتُ في الطرقات، واحتَشد الطلّابُ من كافّة الصفوف، حتى بدى الحدَث احتفاليا بامتياز، ولمَّا كانت الفقرة الرئيسة هي مسابقة بين فريقيْن يُمثلْهما أوائلُ الطلبة في كِلتي المدْرستيْن، فقد كُلِّف أحدُ مدرسينا بإعداد أسئلة المسابقة ووضْع الإجابات النموذجيّة، وهو ما قام به المعلِّم-سامحه الله- خيْر قيام، فما إنْ فرغ مِن مهمّته، حتى جمع فريقَ مدرستنا في حصّة غِشّ مِن فئة الخَمس نجوم، إذْ قام خلالها بتحفيظنا الأسئلة والأجْوبة حتى اسْتظْهرناها غيْبا أمامَه!
بل وأَسْدى إلينا نصائحَ عَشر تقضي بأن نطلب مِن المدرِّس الذي يُوجِّه إلينا الأسئلة إعادة السؤال والاستيضاح! مع التظاهر بالتشاور بين أعضاء الفريق قبل الإجابة! والتأكيد على عدم البوح بالإجابة إلّا قُبَيل انتهاء الوقت المسموح للجواب! بل وأَوصى بطلب تمديد الوقت أحيانا! كما نبّه على أن نُبالغ في إظهار الفرح والابتهاج عندما نحصل على درجةٍ نظير إجابة صحيحة! والحقّ أنّنا مثّلنا الدوْرَ كما طلَب المُخرج، فنجح الفيلمُ باقتدار، وفاز فريقُ مدرستنا فوزا ساحقا، وانْتشى الجميع على أنغام الغشّ وألحان الخداع! وصدق فينا قولُ (ابن التعاويذي):
إذا كان ربّ البيت بالدفّ ضاربًا ::: فشيمة أهل البيت كلّهم الرقصُ
وبعد التأكيد على أنّ التعميم ينمّ عن ضيق الأفق، ويفتقر إلى الإنصاف، ويضرب عميقا في أسس المحاكمة العقلية السليمة، فإنَّ مِن الإنصاف أن نعترف بأنّ ثمّة نماذج بين المعلِّمين تُثير الاستياء وتَبعث على النفور وتجلب العار، نماذج أخْلدَت إلى الأرض ولم تبرح طوْر التكسّب والارتزاق الوظيفي، فلا تدرِي مَن تكون؟ ولا كيف تكون؟ ولا إلى أين تذهب؟… وكفى بالمعلِّم ضياعا أن يَجهل هويّتَه ويَضلّ قصدُه وتَفسد وسيلتُه، حتى لَيصبح لسانُ حاله: للراتب وحدَه يعمل الأستاذ! وعن التعليم وحدَه يُسأَل المعلِّم!
فالواقع الذي يغفله البعض؛ أن التربية والتعليم يرتبطان معا برباط مقدّس يحرم فكّه، ويتّصلان سويّا عبر حبل سُريٍّ يستحيل قطعه، إذْ إنّ فكّ هذا الرباط وقطْع هذا الحبْل لا يعني إلّا الموت المحقّق لكليْهما، وكأنّ التربية التي هي وعي نفسي وروحي تتنفّس من رئة التعليم، بينما التعليم الذي هو وعْي ذهني فكري ينبض بقلب التربية ويتغذَّى من شرايينها.
ومع أنَّ الأيّام أكبر معلِّم، وكلّ مسؤول في موقعه يُعدّ معلِّما بصورة أو بأخرى؛ إلّا أنّ الدور المركَّب الذي يلعبه المعلّمُ يمنحه أبعادا أوسع مدى وأشدّ خطرا، إذْ إنّ فئات المجتمع برمّتها تمرّ مِن تحت يده وتستنشق هواءَه وتَحُوز بعضا مِن صلاحه أو طلاحه، علاوة على أنّ كلّ متعلِّم سيصبح معلّما غدا أو بعد غد في مجال من مجالات الحياة المتعدّدة، ولك أن تتخيل تَسلسل القِيم في تلك المتوالية التعليميّة إذا اختلّ أصلُها ونخر السوسُ جذعَها، وما الأصل والجذع هنا إلّا معلّم قامت على أكتافه العملية التعليمية والتربوية. فرغم أنّ البيئة التربوية تتشعّب لتشمل خماسيّة الأسرة والمدرسة والأصدقاء والإعلام والمسجد، إلّا أنّ نصيب الأسد ( 60%)محجوز للأسرة والمدرسة، وكما يقوم الآباء مقام العُمُد في الأُسَر، فإنَّ المعلِّمين هم عُمُد المدارس وأوتادها، أمّا المباني الإسمنتيّة والمناهج الورقيّة والوسائل الإيضاحيّة، فليست إلّا جوامد ساكنة وجثثا هامدة، ولا يَبعث روحَها ويُوقد فتيلَها إلّا المعلِّم…وقد قِيل للإمام (أبي حنيفة): في المسجد حلقة ينظرون في الفقه، فقال ألهم رأس(أي معلِّم)؟ قالوا: لا، قال: لا يفقه هؤلاء أبدا.
وإذا كنا نثمِّن ما يَمتاز به بعضُ المعلِّمين من خصائص معرفيّة تمكّنه من الإلمام بمادّته وتوصيلها بأنجع الطرق، إضافة إلى مهاراتٍ إداريّة تؤهّله للتحكّم في حركة الطلاب وحُسْن قيادتهم، فإننا نثمِّن أكثر تلك الخصائص الشخصيّة التي تُحدِث الأثر التربويّ لدى الطلّاب، فتحفر عميقا في بنائهم النفسي والعقلي والروحي، وتأخذ بأيديهم نحو الكمال الذي يحقّق لهم سعادة الدارَيْن، وهو ما أكَّد عليه المفكِّر(عبد الكريم بكار) صاحبُ الباع التربويّ الطويل بقوله: “التعليم المُثمِر مرتبط بالخصائص النفسية للمعلِّم أكثر من ارتباطه بالمهارات الفنية وكميات المعلومات التي لديه”، بما يَعني أنَّ المعلِّم ناقلٌ قيَمي قبل أن يكون ناقلا معلوماتيا، وصاحبُ رسالة قبل أن يكون صاحبَ شهادة، وكفاءةٌ تربوية قبل أن يكون كفاءةً عِلميةً وإداريّة.
ولأنّ صلاح الزروع مرتبط بصلاح البذور، وصحّة البنيان تعتمد على سلامة الأساس، فلا صلاح لمُجتمع إلّا بصلاح تعليمه، ولا صلاح لتعليم إلّا بصلاح معلِّم يَعي أنه وريثٌ للأنبياء فيتسلّح بالفضيلة، و يتذكّر أنَّه معلِّمٌ للخير فلا يُفوِّت الأجْر، ويدرك أنّه بانٍ للحضارة فيشمّر عن عقْل وقلب وروح. وعلى أن لا يَغيب عن ذهنه، أنّ تلك العقول التي بين يديه مازالت غضّة نديّة، لم تبرح قفص المحاكاة والتقليد، ولا زالت في طور البحث عن الأسوة لتصنع النموذج الخاص بها في مقتبل أعمارها، وبصدد التنقيب عن القدوة لتتخلّق بأخلاقها وتقبس من فيض نورها وطِيب ثمِرها. بمعنى أنَّ البضاعة التي يقلِّب فيها يديه ليل نهار، والعجينة التي يُعمِل فيها جهده على مدار الأيام؛ أطْيع من ماء وأَخْفض مِن أرض، وهو ما يجعل مسؤوليته مضاعفة وثوابه ضِعفيْن.
ولهذا أرشد (عمرو بن عتبة) معلِّمَ ولدِه قائلا: “لِيكن أوّل صلاحك لِبنيَّ إصلاحك لنفسك؛ لأنّ عيونَهم معقودة بعينك، فالحسْن عندهم ما صنعْت، والقبيح عندهم ما تركْت”، ويُعضِّد هذا روايةُ (الحسيْن بن اسماعيل) عن أبيه حين قال: “كان يجتمع في مجلس الإمام (أحمد بن حنبل) زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مائة منهم يكتبون، والباقي يتعلّمون منه حسن الأدب والسمت”، وقول (أبو بكر بن المطوعي): “اختلفتُ إلى أبي عبد الله ثنتَي عشرة سنة، وهو يقرأ (المسند) على أولاده، فما كتبتُ عنه حديثا واحدا، إنّما كنتُ أنظر إلى هدْيه وأخلاقه”، أمّا (ابن وهب) فقال: “ما نقلْنا مِن أدب الإمام مالك أكثر ممّا تعلّمنا مِن عِلمه”.
ورغم ما أسلفْتُ من رواية الغشّ التي باء بكِبْرها أحدُ المعلِّمين غفر الله له؛ فإنّ قناعتي تظلّ راسخة بأنَّ الخيرَ بين معلِّمينا لم ولن ينفَد، وأنَّ ذهبَهم أصيلٌ لا يصدأ، وأنّ ما يُلبِّد سماءَهم الصافية، ويُعكِّر نبعَهم العذب؛ ليس إلّا بيئةٌ ضاغطة ظالمة؛ أَسْهمت في تثبيط الهِمم، وقلَبت الأمورَ رأسا على عقب، وعصفَت بالتربية والتعليم معا. فالثوب الأبيض يظلّ أبيضا وإن شابَه بقعةٌ سوداء، والشمس الساطعة لا يَحجب السحابُ ضوءَها ولا يَطمس بأيّ حال وجهَها. وبهذا فإنّ في الإمكان-بإذن الله- أبدع كثيرا ممّا كان، وستبقى المدارس والجامعات تجُود بأفاضل المعلِّمين الذين يَحمون الثغور ويَرأبون الصّدوع ويَبنون الحصون.
المصدر : منبر الأمة الإسلامية
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
شكرا لكم، ويا حبذا لو تنشروا الصورة الشخصية المرفقة بالمقال لدواعي التوثيق ليس إلا، نفع الله بنا وبكم