الطلاب ودراسة الشريعة.. إلى أين؟
مع بدايات القرن الثامن عشر، ومع رضوخ العالم العربي للانتدابات الأجنبية، جرى تقسيم المعرفة ومنابعها كما قُسّمت البلاد الإسلامية؛ فعززوا في نفوس الناس أهمية فصل الدين عن العلم، كما تمكنت صفعات الحروب المتتالية على الأمة العربية من طَيِّ صفحة الدين كونه هدفاً أساسياً للحياة ومرافقاً للعلم، وتمكّنت من ترسيخ الفصل بينهما بشكل مدروس توارثته الأجيال حتى عصرنا الآن. فباتت الأم في منزلها تنشِّئ الطفل على هدف أساسي في الحياة وهو أن يصبح مهندساً، أو محامياً، أو طبيباً أو... والمشكلة لا تكمن بهذا، وإنما بعدم اهتمام الأهل بتوجيه أطفالهم توجيهاً يحمِّلهم مسؤولية هذا الدين. فهم إن فعلوا شيئاً ربّوه على الصلاة والصوم وقراءة القرآن، وفي بعض الحالات على تلاوته وحفظه من دون أن يحمّلونه مسؤولية هذا الدين.
مجتمعنا تحت المجهر
الآن نُسقط هذا الشرخ في بنيان المعرفة على مجتمعنا الذي يُعتبر فيه التعليم الشرعي إلى حدٍّ ما مجانياً بالمقارنة مع نظيره العلم الدنيوي الذي يكلِّف الملايين، كما أنه لا يَفرض قيوداً على دارسيه؛ فبات العلم الشرعي - نظراً لكل هذه التسهيلات - متاحاً للجميع ومقدَّماً على طبق من ذهب، على عكس الاختصاصات الدنيوية التي يُحَضِّر لها المرء منذ الصغر؛ فينجح في امتحانات الدولة الرسمية ثم يتخطى امتحان الدخول للجامعة، وبعد ذلك عليه أن يتخطى المقابلة الشخصية. فأصبح معظم الفاشلين والفاشلات والمتسرِّبين والمتسرِّبات دراسياً يتوجهون نحو دراسة العلم الشرعي!
ودعوني أخبركم عن أحد أقربائي؛ الذي رسبت ابنته في صف البريفيه، وأراد أن يُدخلها معهداً مهنياً لتكمل الدراسة فيه، ولما سأَلَ إمامَ أحد المساجد عن الموضوع قال له: أدخلها أحد المعاهد الشرعية فتتعلم ببلاش وتوفِّر.. «كلنا عم نعمل هيك»!!!
لماذا أصبح العلم الذي كان السلف الصالح يقطعون الأميال ويعانون الصِّعاب من أجل تحصيله وفهمه ومن ثم نشره يُقدَّم بهذا الشكل الغريب العجيب الهجين عن المنهج الإسلامي وما كان عليه السلف! ألا يدرك الناسُ صعوبةَ تحمل عبء دراسة هذا العلم؟ فهو يتطلب من دارسه أن يكون على قدر من الالتزام والتقوى؛ لأنه سيكون قدوةٌ للآخرين، فإن أخطأ يقول الناس: انظروا إلى علماء الشريعة كيف يخطئون! فهم تحت مراقبة شديدة من الناس؛ ومسؤوليتهم كبيرة أيضاً أمام الله عز وجل الذي قال في كتابه العزيز: {قُلْ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر:9)، تأكيد منه سبحانه على أهمية وعلوِّ شأن أهل العلم بالله، وتحميلهم لمسؤولية إضافية لأنهم مطالبون بنشر هذا العلم وتعليمه لغيرهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
قضيتنا... والمجتمع
وفي إجابة على هذا السؤال سنتوجه نحو الشارع الإسلامي لتسليط الضوء على هذه القضية.
تخبرنا سارة (ماجستير في علم الأحياء، تعمل مدرِّسة في إحدى المدارس الرسمية) أن بعض الطلاب الذين يعجزون عن تجاوز الصفوف المتوسطة لا يتجهون نحو المعاهد الفنية التي تتطلب نجاح التلميذ في امتحان الدخول، بل يذهبون مباشرة نحو معاهد العلم الشرعي التي لا تضع أي شروط ملزمة على التلميذ. كما تخبرنا أن بعض الفتيات عندما يفشلن دراسياً يتوجهن نحو معاهد العلم الشرعي لتمضية الوقت لحين اقتناص الزوج الملائم وبعدها ينسحبن من المعهد.
أما هلا (متخرجة من كلية العلم الشرعي) فتقول: إن دراسة العلم الشرعي ليست هيِّنة، بل تحتاج إلى الكثير من الذكاء والتركيز، كما أنها تقترن بمسؤولية عظيمة تقع على كاهل دارس علم الشريعة؛ فهو مسؤول أمام الله عن كل معلومة تلقاها وحفظها. وتضيف: إن هذا التوجه من المتسربين دراسياً قد يكون نابعاً من الرغبة في دراسة هذا العلم، وقد يكون مَنْفذاً سهلاً للتخلص من المدرسة ومن المواد المختلفة فيها، فيتجه نحو العلم الشرعي ويقبع فيه وقد يفشل في تحصيل الشهادة النهائية من المعهد أو الكلية، إلا أنه أمام الناس طالب شريعة فيُحيطونه بالأهمية، وينظرون له نظرة الوقار.
وتخبرنا أم عمر أن بعض الفتيات اللواتي يفشلن في التحصيل العلمي يجدن خَلاصهنّ في التعليم الشرعي؛ حيث يتخذنه حُجّة تخلِّصهن من أعباء العمل المنزلي من جهة، وتوفر لهنّ الترفيه عن أنفسهن وبعضاً من الحرية. وترى أنه يجب أن يكون هناك أقساط إضافية حتى يُعيدوا لهذا العلم قَدْره ومكانته الراقية والفريدة. وتؤيدها أم محمد بالقول: إن الأهل يوجهون أبناءهم إلى هذه الدراسة لأنها أقل كلفة من غيرها، كما أنها تستقبل المتسربين من صفوف السادس والسابع ذوي مجالات التخصص المحدودة. وتضيف: إن هؤلاء المتسربين يعتقدون أن هذه الدراسة سهلة نسبياً لأنها باللغة العربية، ولكن سرعان ما يكتشفون ما يتطلبه هذا الاختصاص من جهد ووقت وذكاء.
وتقول إسراء (متخصصة في علم الاجتماع) إن المتسرِّبين دراسياً يتّجهون إلى معاهد التعليم الشرعي لاعتقادهم بأن الدراسة فيها لا تتطلب جهداً كالمدرسة، وهذا ناجم عن جهلهم بمقررات العلم الشرعي وبالمسؤولية التي ستقع على كاهلهم متى قرروا التخصّص فيه. وتوضح أنه من واجب المعاهد أن تنبه المنتسبين الجدد إليها إلى جدية التعلم فيها، وإلى ما تتصلبه هذه الدراسة من الذكاء والتركيز والصبر، وإلى المسؤولية التي سيحملونها في كل خطوة نحو هذا العلم.
وفي هذا الصدد حاورنا الحاجّة آمنة السكافي، مديرة مركز «المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين الثقافي»، التي حدثتنا عن الشرائح المختلفة التي تلتحق بالمركز لتلقي العلم الشرعي في المركز:
1- شريحة التلاميذ الفاشلين في التحصيل العلمي، وهم على مستويين: مستوى ينجح في إكمال الدراسة ويبرع فيها، وآخر يترك المعهد بعد فترة قصيرة. وتعلِّق الحاجّة آمنة قائلة: إن التلاميذ المتسرِّبين من الدراسة لصعوبتها يتوجهون إلى العلم الشرعي نظراً لوحدة التعليم فيه؛ فهم لن يضطروا إلى دراسة الرياضيات والعلوم واللغات الأجنيبة، وطبعاً لاعتقادهم بالسهولة النوعية للعلم، فيصطدم البعض بجدية العلم الشرعي ويترك المعهد، في حين يقبل الباقون التحدي وينجحون فيه.
2- شريحة التلاميذ الذين يتركون المدرسة نتيجة رغبة ذاتية في تعلم الشريعة.
3- شريحة الفتيات المخطوبات اللواتي يتجهن لهذه الدراسة لأنها توفر لهنّ نوعاً من الحرية في التعاطي مع المناهج لا تُتيحه المدراس، وأيضاً لأنها تتيح لهنّ إكمال تحصيلهن العلمي الشرعي في الجامعة.
4- وشريحة الأمهات؛ وهي على نوعين: أمهات صغيرات في العمر يتوجهن لهذه الدراسة حتى يدعمن أمور حياتهن بالعلم والمعرفة، وأمهات كبيرات في السن يعمل بعضهن في المجال الدعوي فيتوجهن نحو العلم الشرعي من أجل دعم عملهن الدعوي وزيادة معرفتهن.
وتؤكد مديرة المركز أن الهدف من العلم الشرعي هو تهيئة الأفراد ذاتياً والعمل على إكسابهم المعرفة الدينية وهدايتهم وتتوجيههم لخدمة الدين. وتؤكد أن العلم الشرعي ليس علماً سهلاً بل هو علم يتطلب الجدية في التحصيل. وتشير إلى أن المركز يعمل على زرع بذرة العمل الدعوي في نفوس تلاميذه لأنه الهدف الأسمى من الدراسة الشرعية.
نضيف إلى ما سبق رأي الداعية الناشط عضو جمعية الاتحاد الإسلامي الشيخ يوسف القادري الذي يبلور لُب القضية، قائلاً: من كان ضعيفاً علمياً ومدرسياً ينبغي على المعهد الشرعي الذي استقبله التأكد من عدم تأثيره السلبي على مستوى الصف، وأن لا يُمنح الشهادة الشرعية، ولكن يمكنه أن يحضر الصفوف لتحصيل الفائدة العامة. كما ينبغي على المعهد الشرعي أن ينتقي الطالب القويّ الأمين، الحاد الذكاء، القويّ الشخصية، ذي الخُلُق الحسن حتى تمنحه الشهادة بعد تأهيله وتدريبه داخلياً وميدانياً.
وبعد، فلا يمكن للعلم أن يتبلور وينضج ويتحول إلى فائدة تامة للمجتمع من دون إيمان العلماء بالله ورغبتهم في خدمة دينه من خلال علومهم الدنيوية.
فالعلم والدين وجهان لعملةٍ واحدةٍ لا يفلح أحدهما بعيداً عن الآخر، ولا ينجح أحدهما في رسم معالم الحضارة من دون عون الآخر ومساندته.
وهنا تبرز ضرورة تغيير آليات التعلم الشرعي، وإعادة هيكلتها ومنحها قالباً جديداً يمسح عنها غبار الزمان ويعيد حضارتنا إلى عزها القديم. فنحن نريد شباباً مثقفاً دينياً وعلمياً، شباباً واعياً وقادراً على التفاعل والإبداع. نريد شباباً خالصاً لله، متحملاً لرسالته الدينية، قادراً على تطبيق شرع الله في أرضه.
وفي الختام، نتقدم بالشكر الجزيل لكل مَن شارك في هذا التحقيق
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن