الإمام محمد الغزالي في مئويته.. مواقف ومآثر
كان الإمام الشيخ محمد الغزالي واحدا من أبرز الدعاة الذين أيقظوا وعي الشباب المسلم خلال مرحلة الصحوة الإسلامية.. ومثلما كان يتصدى لتيار التغريب والتنصير والإلحاد ويكافحه بضراوة، فقد كان مهموما وبقوة بترشيد مسيرة الصحوة الإسلامية، ولجم نزوات التكفير أو التطرف والتشدد..
كان حريصا على أن تشق الحركة الإسلامية طريقها بوعي ولا تقع في شباك المتربصين..كان يبدو في نصحه لأبنائه قاسيا عنيفا.. لكنها قسوة الأب الذي يريد الخير والنجاح لإبنه. شيخنا الراحل الكبير الذي ولد في محافظة البحيرة عام 1917 ولقي ربه في عام 1996، وتحل الذكرى المئوية لميلاده.. ترك في نفسي وفي جيلي والأجيال التي سبقته الأثر الكبير..
أذكر أننا نظمنا له ندوة بمجلة "لواء الإسلام" بشارع شريف باشا بالقاهرة، وكنا نتحاور معه في مختلف القضايا، وأذكر أنني وجهت إليه سؤالا ناقلا له اتهام البعض إياه بالقسوة على الشباب الإسلامي أكثر من قسوته على الشباب غير الملتزمين، وأذكر أن الشيخ أجاب والألم يعتصره قائلا:
"أنا أقسو عليه لأنني أحبه وأخاف عليه". وعلت نبرة شيخنا وهو يبرر قسوته في النصح لهؤلاء الشباب، ثم بكى وهو يقول: "أنا أخاف على هذا الشباب من أن يستدرجه الأعداء إلى العنف أو التطرف ليجهزوا عليه.. هذا الشباب هم الأمل ليقظة هذه الأمة ونهضتها، وعندما أنصحه وأقسو عليه أحيانا فإنما أهدف إلى إيقاظه وتنبيهه لما يحاك ضده من مؤامرات تريد شغله بقضايا تهدر طاقته أو تصرف الناس عنه، أو تعطي أعداء الداخل والخارج مبرر ضربه والإجهاز عليه".. كانت دموع الشيخ وكلماته المؤثرة الصادرة من القلب تدل على صدقه وحبه للشباب، وخوفه على تلك الصحوة التي يرى فيها الأمل الكبير.
في عام 1989 نظمت دار الحكمة في القاهرة مناظرة عن "الإسلام والعلمانية" شارك فيها فضيلة الشيخ محمد الغزالي، وفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، والمفكر العلماني الدكتور فؤاد زكريا، وقد كان للشيخ الغزالي في هذه المناظرة مع الدكتور القرضاوي ردودا أفحمت معسكر العلمانية في مصر بل تجاوزتها إلى الساحتين العربية والإسلامية.
وفي 8 يناير 1992 نظمت الهيئة العامة للكتاب مناظرة على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، حول الإسلام والعلمانية، بمشاركة الشيخ محمد الغزالي والمستشار محمد المأمون الهضيبي، والدكتور محمد عمارة، ومن العلمانيين الدكتور فرج فودة والدكتور محمد أحمد خلف الله القيادي في حزب التجمع اليساري، وتغيب عن الحضور الكاتب العلماني حسين أحمد أمين، وقد حضر في هذه المناظرة أكثر من ثلاثين ألف من جماهير المعرض من مصرييين وعرب وأبناء العالم الإسلامي المبتعثين للدراسة في القاهرة.
وأذكر أنني قمت بالتعاون مع أخي الأستاذ محسن راضي - فك الله أسره وأسر إخوانه - بإدخال كاميرا تليفزيونية لتصوير المناظرة، حيث كانت إدارة المعرض تمنع التصوير لغير فريق التليفزيون الرسمي، لكننا نجحنا في تصويرها ونشرها على نطاق واسع داخل مصر وخارجها..
إذا قرأت ما يكتب الغزالي فإنك تشعر بأن كلماته قد كتبت بمداد من القلب، ما إن تقرأها حتى تنتقل إليك جذوتها فتدخل إلى عقلك وقلبك.. لأنها صدرت عن قلب صادق، وعقل مهموم بقضايا دينه وأمته
وأذكر أيضا أنني قمت بنشر النص الكامل لهذه المناظرة في كتاب صدر عن مركز الإعلام العربي، وقمت بتصدير كلمة الشيخ الغزالي في المناظرة بمجموعة من العناوين كان منها قوله:
* "لا يكتمل لنا استقلال، ولا تتضح لنا شخصية إلا إذا عدنا إلى تراثنا السماوي".
* "الشورى الغربية جعلت مجلس العموم البريطاني ومجلس اللوردات يتفقان على إباحة الزنا والشدود".
* "الحكومة الدينية تكرم عند اليهود وغيرهم فلماذا يقال: لا للإسلام بالذات؟".
* "الحكم على إرادات الشعوب بالإعدام لأنها تريد الإسلام ليس ديمقراطية ولا شورى.. ولا هو دين ولا دنيا..".
* "نطالب بحكومة إسلامية نصفها وحي من عند الله ونصفها عقل يبحث عن المصلحة ويمشي بالقياس والاستحسان".
كان شيخنا الغزالي صاحب إيمان حي ويقظ، مهموما بدينه والدفاع عن قيمه وثوابته.. كان يقول عن مسلمي اليوم "إنهم مصابون بتدين الشكل، لا تدين الموضوع، ويقول: "الدين عندما يتحول إلى طقوس ومراسم يفقد قيمته، لأن الدين قبل كل شيء قلب حي وضمير يقظ، وسريرة نظيفة" وهكذا كان تدين الغزالي رحمه الله.
لم يكتف بواجبه داخل المسجد أو ديوان وزارة الأوقاف، لكنه كان دائم السفر والتنقل والترحال لأداء واجبه.. قال عن نفسه: "كنت مسلما عن تقليد، ثم أصبحت مسلما عن اعتقاد واقتناع يقوم على البحث والموازنة والتأمل والمقارنة، وكل يوم يمر يزيدني حبا للإسلام، واحتراما لتقاليده، وثقة في صلاحيته للعالمين".
لذا كنا نجده مع الطلاب في جامعاتهم ومعسكراتهم، وفي النوادي والنقابات، وفي الإذاعة والتليفزيون.. داخل مصر وخارجها. نجده خطيبا في المسجد، محاضرا في الجامعة، كاتبا في الصحف، مؤلفا للكتب.. يوظف كل الوسائل الممكنة لإبلاغ رسالته إلى الناس. كتب آلاف المقالات منذ كان طالبا عندما طلب منه الإمام حسن البنا أن يكتب في مجلة الإخوان المسلمين، وكان له فيها مقال ثابت تحت عنوان "خواطر حية".
وبعد تخرجه في جامعة الأزهر عام 1941، ثم حصوله على درجة "العالمية" بدأ رحلته في الدعوة إلى الله في مساجد القاهرة وخارجها، وبدأ في تأليف الكتب معالجا العديد من القضايا بأسلوبه السهل، ولغته الأدبية العاطفية المؤثرة. في الثلاثين من عمره ألف الشيخ الغزالي كتابه عن: "الإسلام والأوضاع الإقتصادية"، ثم كتاب "الإسلام والمناهج الإشتراكية".
وبعدهما وعقب اعتقاله في معتقل الهاكستب وبعده في معتقل الطور بجنوب سيناء أصدر الشيخ الغزالي كتابه الهام "الإسلام والإستبداد السياسي" وكان تجميعا لمحاضراته عن الإسلام والاستبداد والتي ألقاها الشيخ الغزالي على إخوانه السجناء وكان عمره حينئذ لم يتجاوز الحادية والثلاثين. وقد اعتبر الشيخ الغزالي يوم صدور هذا الكتاب من أهم أيام حياته رحمه الله، إذ يقول: "بمجرد نزول الكتاب إلى الأسواق فوجئت بالحكومة تهتز، وتصدر قرارا بمصادرة الكتاب، وقبض علي، وقدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة، وخرجت من هذه القضية دون أن يثبت على شيء".
كان الشيخ الغزالي رحمه الله مبدعا في اختيار مواضيع كتبه وكذلك عناوينها.. ولك أن تقرأ مثلا: الحق المر - قذائف الحق - كفاح دين - هموم داعية - معركة المصحف في العالم الإسلامي - دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين - الإسلام والإستبداد السياسي - من وحي السيرة - حصاد الغرور - مع الله - موكب الدعوة - الغزو الثقافي يتمدد في فراغنا - الإسلام المفترى عليه - ظلام من الغرب - جدد حياتك - الإستعمار أحقاد وأطماع - الإيمان ميلاد جديد لحياة إنسان.. وهكذا..
أما إذا قرأت ما يكتب فإنك تشعر بأن كلماته قد كتبت بمداد من القلب، ما إن تقرأها حتى تنتقل إليك جذوتها فتدخل إلى عقلك وقلبك.. لأنها صدرت عن قلب صادق، وعقل مهموم بقضايا دينه وأمته. وإذا خطب شعرت بأن كلامه لا يخرج من حنجرته، وإنما يخرج من قلب مهموم بدعوته، مليء بالصدق الذي يصل بع إلى قلوب مستمعيه. إذا تحدث عن أساتذته ذكر فضلهم بعد الله عليه، وكان يقدر الكبار والصغار، وكل من استفاد من علمهم وفكرهم..
تحدث عن الإمام البنا وقال إنه تعرف عليه عندما كان يدرس في السنة الأخيرة بمعهد الإسكندرية الديني، ويقول: "التقيت بالأستاذ حسن البنا.. رأيت رجلا يقوم بعد الصلاة يلقي درسا جامعا يتسم بالوضوح والتأثير والصدق.. قررت يومها أن أتبعه، وأن أسير معه على درب واحد لخدمة الإسلام والمسلمين..".
عاش رحمه الله حياة كلها دعوة وجهاد.. ومات واقفا أثناء دفاعه عن الإسلام في محاضرته عن علاقة الإسلام بالغرب، وذلك في التاسع من مارس 1996 أثناء مشاركته في مهرجان الجنادرية بالرياض
وفي سياق آخر يقول: "وإني أعترف، بأني واحد من التلامذة الذين جلسوا إلى حسن البنا، وانتصحوا بأدبه، واستقاموا بتوجيهه، واستفادوا من يقظاته ولمحاته". وكتب عن الخلاف الذي حدث بينه وبين المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي فقال: ".. وانفصلت عن الإخوان.. وهاجمتهم وهاجموني لما فصلت.. وكان تظالما وخيم العقبى على مستقبل الجماعة.. يغفر الله لنا فيه ما كان مني ومنهم". ولما خرج الإمام الهضيبي من السجن في السبعينيات زاره الشيخ الغزالي في بيته وتصافيا، وعاد الشيخ للتعاون مع الإخوان من جديد. وعندما توفي الإمام حسن الهضيبي وعلم الشيخ الغزالي أن الهضيبي رحمه الله كان قد أوصى بأن يدفن في مقابر الصدقة بكى الشيخ الغزالي وتأثر بشدة، وكتب عنه ناعيا فقال:
"من أيام مات الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين وبلغتني وصيته، لقد أوصى أن يدفن خفية، وأن يوارى جثمانه في (مقابر الصدقة). فقلت: لم مقابر الصدقة؟ ولم يغب عني الجواب. لقد كان مستشارا راسخ المكانة رفيع الهامة لو اشتغل بمهاجمة الشريعة الإسلامية لنال جائزة الدولة التقديرية التي نالها غيره، ولو خدم الغزو الثقافي لعاش في بحبوحة موفور الراحة، ولكنه خدم الإسلام، فتجرع الصعاب والعلقم، طعن مع الدين الجريح، وأهين مع الدين المهان، فأراد أن تصحبه هذه المكانة في منقلبه إلى الله".
لقد جمعتني وأستاذي الكبير جلسات عديدة في منزله بالدقي، وكذلك في منزل زوج كريمته - أستاذي وصديقي العزيز - محمد عبد القدوس بالزمالك، وكنا نحاوره تارة ونناقشه أو نستنصحه تارة أخرى لنستفيد من علمه وحكمته. لقد عاش رحمه الله حياة كلها دعوة وجهاد.. ومات واقفا أثناء دفاعه عن الإسلام في محاضرته عن علاقة الإسلام بالغرب، وذلك في التاسع من مارس 1996 أثناء مشاركته في مهرجان الجنادرية بالرياض. وكأن مشيئة الله قد قدرت له هذه الخاتمة ليدفن في أطهر بقعة.. في أرض البقيع بالمدينة المنورة التي أحبها وأحب ساكنها عليه الصلاة والسلام.
وقد قدر الله لي زيارة قبره بصحبة أحد الأصدقاء المقيمين بالمدينة المنورة والذي دلني على قبره الذي يتوسط قبر الإمام مالك وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. رحم الله شيخنا الجليل، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه على ما قدم لدينه وأمته خير الجزاء.. ونسأله سبحانه أن يعوض الأمة فيه خيرا، فما أحوجها اليوم إلى أمثاله.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة