الهند وإسرائيل.. تطبيع على أنقاض العروبة
على ضفاف نهر "بارفاتي" المتاخم لجبال الهيمالايا بأقصى شمال الهند، تقع قرية "كاسول" الصغيرة والنائية، والتي تعج بالعديد من الحانات والفنادق الرخيصة ومقاهي الإنترنت والمطاعم الأجنبية، بالإضافة للتداول الواسع لـ "تشاراس"؛ الاسم الشائع لواحدة من أجود أنواع "الحشيش الهندي"، لتقدِّم القرية للكثير من السائحين وعشّاق تسلق الجبال أو الطبيعة الهندية مزيجًا من الاسترخاء والتأمُّل واستنشاق الهواء النقي، الممزوج أحيانًا ببعض الحشيش.
يلحظ زوّار "كاسول" باستمرار توافر معظم اللافتات باللغتين الهندية، الغالبة بشمال الهند، والعِبرية، إذ تعجّ المدينة بنسبة كبيرة من الزوّار الإسرائيليين، نتيجة قدوم العديد من الشباب المُنتهي لتوّه من الخدمة العسكرية الإجبارية في إسرائيل، وهي ظاهرة حاضرة كذلك في ولاية "غوا" الساحلية غربي الهند؛ حيث يتوافد هؤلاء الشباب في الشتاء بعيدًا عن ثلوج الهيمالايا.
لافتات عِبرية في قرية كاسول شمالي الهند (مواقع التواصل)
يذهب هؤلاء الشباب، تحت رعاية منظمات حكومية وغير حكومية إسرائيلية1، لمعالجة آثار الضغط النفسي الواقع عليهم في صفوف الجيش الإسرائيلي، لتتحوّل حياتهم إلى النقيض تمامًا؛ حفلات مستمرة وتعاطي مُفرط للمخدرات وتعامل مفتوح مع شبكات البغاء، وهي تصرُّفات جلبت استهجانًا هنديًا محليًا وصل للكنيسة الكاثوليكية في "غوا"، والتي نشرت كُتيّبًا تحذر فيه من تجاهلهم لعادات السكان المحليين2؛ بسبب ما خاضوه أثناء خدمتهم بالجيش.
"كُل ما عليك هو اتبّاع اللافتات العبرية لتصل في النهاية إلى غليون مملوء بالحشيش"، جملة جاءت على لسان مالك إحدى الشواطئ في "غوا"3، والتي تشهد حضورًا قويًا أيضًا لرجال الأعمال الإسرائيليين؛ فشراؤهم لمساحات واسعة من الأراضي دفعت نائبًا برلمانيًا عن الولاية للتحذير من "احتلال الإسرائيليين لـغوا"، وضلوعهم في تجارة المخدرات بالمدينة وتوفير الغطاء لها عبر أملاكهم هناك.
من المجنّدين السابقين والمستشارين الزراعيين، وحتى رجال الصفقات الضبابية وتجارة المخدرات، بات التوافد الإسرائيلي ملحوظًا في بضعة ولايات رُغم بساطته في دولة كبيرة كالهند، ليعكس الشوط الكبير الذي قطعته تل أبيب في فتح أبواب العلاقات الطبيعية مع دلهي، والتي لم تؤسس لعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلا عام 1992، بعد عقود من العداء شبه التام.
"المهمة الدبلوماسية الأكثر انعزالًا في العالم"4، هكذا عُرِّفَت قبل خمسين عامًا قنصلية إسرائيل في مومباي بموظفيها الأربعة، حين كان محظورًا على تل أبيب تدشين سفارة في العاصمة دلهي، واقتصرت العلاقات، من ناحية إسرائيل فقط، على المستوى القُنصلي، بينما امتنعت الهند تمامًا عن إيفاد أي دبلوماسي إلى إسرائيل. حرصت تل أبيب على علاقاتها مع الهند آنذاك رُغم جفاء القيادة السياسية الهندية، بل ودأب أولئك الموظفون الأربعة على نشر مجلة خاصة بالقنصلية كل شهرين، والرد على استفسارات بعض الهنود ارتكزت بالأساس لتجربة إسرائيل الرائدة في الزراعة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك يلتقي وزير الخارجية الهندي جاسوانت سينغ، والذي يقوم بزيارة لإسرائيل بهدف تحسين العلاقات التجارية والعلاقات الثنائية سنة 2000 (رويترز)
انفتح باب العلاقات قبل 25 عامًا، بيد أنه ظل مواربًا من جانب الهند، إذ يقتصر الاهتمام الهندي على الاستفادة من شركات التنمية الزراعية الإسرائيلية، والتعاون في المجالات العسكرية المتميزة لدى الإسرائيليين، عدا ذلك لا يزال حماس الهند محدودًا حيال التطبيع الشامل، فشركات الطيران الهندية ممتنعة عن الرحلات المباشرة إلى تل أبيب5، تاركة الطيران الإسرائيلي "إل عال" يقدّم تلك الخدمة منفردًا لعدد محدود من السائحين الهنود لا يتجاوز 50 ألف فقط سنويًا، وهي أعداد يحاول بعضها أن يتفادى الختم الإسرائيلي على صفحات جواز سفره6، والحصول عليه في ورقة منفصلة، خوفًا من رفض دخوله فيما بعد لدول الخليج أو إيران أصحاب العلاقات المتشعبة بالهند.
مثلها مثل سائحيها، تحاول الهند باستمرار قصر علاقاتها مع إسرائيل على ما يهمّها من مجالات، مع تفادي "خِتم" العلاقات العلنية، وحفاوة الزيارات الرسمية إلى تل أبيب التي لم يقُم بها رئيس وزراء هندي حتى اليوم، أما أسباب حرجها من التطبيع، رُغم كونها بلدًا غير عربي أو مُسلم، فهي حكاية فريدة، وتأخذنا إلى صفحات مجهولة ومُهمِّة في آن من علاقات الهند والقوى السياسية فيها بالشرق الأوسط.
الباب الموصد بوجه إسرائيل: إرث نهرو وحركة الخلافة
"تعارض باكستان باستمرار مشاركتنا في الفعاليات الإسلامية، وهو أمر طبيعي لأن تأسيسها كدولة يقوم على نظرية الفصام بين شعب هندوسي -في الهند- وشعب مسلم -في باكستان-؛ نظرية لم ولن تقبلها الهند"
(جوربتشان سينغ، سفير الهند السابق بالمغرب)
في مارس من العام 1966، حطت طائرة رئيس إسرائيل زلمان شازار في العاصمة الهندية دلهي لسويعات، قبل أن تنقله إلى مدينة كالوكتّا بشرق الهند حيث أمضى ليلته على أن يصل في الصباح لوجهته الرسمية؛ العاصمة النيبالية كاتماندو7. لم يكن ثمة مسؤول هندي واحد لاستقبال الضيف الثقيل الذي حلّ على الهند رُغمًا عنه في رحلته الطويلة، على عكس العادة الدبلوماسية في مواقف كتلك، مما منح المعارضة فرصة مناسبة لمهاجمة رئيسة الوزراء إنديرا غاندي، بعد شهرين فقط من توليها المنصب، بسبب ما أسموه "سوء الضيافة".
على خُطى والدها، والذي جمعته علاقة وطيدة مع الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر، والتزم بـ "سياسة عروبية" تجاه القضية الفلسطينية، التزمت إنديرا بخط السياسة الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، بل وازدادت تعنُّتًا في مقاطعة الإسرائيليين رغبةً منها في توطيد صفوف جناحها بالحزب الحاكم "الكونغرس"، وتحالفه مع الأحزاب اليسارية الرافضة للتطبيع هي الأخرى اعتقادًا بتبعية المشروع الصهيوني للغرب، علاوة على تعزيز شعبيتها في أوساط المسلمين بما يمثلونه من خُمس السكان في الهند، وكسب ورقة تعاطفهم مع الفلسطينيين.
إنديرا غاندي وجمال عبد الناصر والرئيس اليوغوسلافي جوسيف تيتو عام 1966 في العاصمة الهندية نيودلهي (مواقع التواصل)
لم تكن سياسة الكونغرس -الهندي- تجاه إسرائيل مجرد حسبة انتخابية، بل تجلٍ لإرث طويل من الاهتمام بالعالم الإسلامي بالنظر لتعداد الهند المُسلِم الكبير، فقد كان حراك الكونغرس، بقيادة المهاتما غاندي ضد البريطانيين، كتفًا بكتف مع حركة دعم الخلافة العثمانية التي نشأت بين مسلمي الهند في مطلع القرن العشرين، وأنتجت قيادات مُسلمة عديدة منها من بقي في الهند ومنها من شارك في تأسيس دولة باكستان عام 1947، وكان الموقف الذي تأسست عليه الدولة الهندية المستقلة هو رفض الخطاب الباكستاني بـ"هندوسية الهند"، وعدم الرضوخ لمحاولتها عزل الهند عن محيطها الإسلامي في الشرق حيث إندونيسيا وماليزيا والغرب حيث إيران والخليج، بل وضرورة بلورة علاقات وطيدة مع ذلك المحيط عمومًا، ومع العرب وقضاياهم خصوصًا، كتمثيل طبيعي لدور مسلمي الهند تاريخيًا.
جرت الرياح بما تشتهِ السُفن في دلهي، إذ شكّلت حرب الأيام الستة عام 1967 سببًا إضافيًا لتمسُّك إنديرا بمقاطعة إسرائيل بوجه معارضيها، بالنظر لمخالفتها قرارات الأمم المتحدة باحتلال أراضٍ عربية جديدة، وبالمثل سرت الرياح داخل الهند حين هزم الجيش الهندي نظيره الباكستاني في معركة تحرير بنغلادش عام 1971، ليكتسح جناح إنديرا الانتخابات البرلمانية في نفس العام، ويؤكد سيطرة واستمرار إرث نهرو في الكونغرس. بيد أن الحماس الهندي للقضية الفلسطينية كان قد بدأ بالفتور على خلفية أحداث عدة، بدأها في الواقع الجانب العربي عام 1969.
في (سبتمبر/أيلول) عام 1969، تلقى جوربتشان سينغ سفير الهند في المغرب8، دعوة رسمية لحضور بلاده المؤتمر الإسلامي بالرباط، على خلفية قيام يهودي متطرف من أستراليا بإشعال حريق في المسجد الأقصى، وهو مؤتمر تمخضت عنه منظمة المؤتمر الإسلامي. جلس سينغ كرئيس للوفد الهندي بالجلسة الافتتاحية، حتى وصل في اليوم التالي وفد رسمي من دلهي بقيادة فخر الدين أحمد، وزير مُسلم بحكومة إنديرا، لكن أحد الموفَدين من جانب ملك المغرب حمل أخبارًا سيئة للوفد الواصل لتوّه؛ لقد تراجع المؤتمر عن دعوة الهند.
الأسترالي اليهودي المتطرف مايكيل دينس يشعل الحريق في المسجد الأقصى سنة 1969 (غيتي)
أتت المُعارضة كما هو متوقع من باكستان، وقيل بأن ضغوط عدد من المؤسسات الباكستانية على رئيسها يحيى خان غيّرت موقفه بعد أن وافق في البداية على حضور الهند، وسيقت الحُجج رسميًا للوفد الهندي بالإشارة لأحداث توتر طائفي جرت في إحدى الولايات الهندية، وأدت لمقتل عدد من المسلمين، باعتبارها عائقًا يحول دون استكمال الهند للمؤتمر، ومن ثُم طُلب من فخر الدين إما التنازل عن الحضور أو تغيير صفة الهند من عضو كامل إلى عضو مراقب، الأمر الذي رفضه الوزير الهندي.
حظى الموقف الباكستاني بدعم الأردن وتركيا وإيران تحت حُكم الشاه آنذاك9، وقيل إن اثنين منهم هددا بالانسحاب مع باكستان إذا حضرت الهند، مما دفع المغرب ببساطة لتفادي إعلام الهند بجدول أعمال المؤتمر، لإجبارها فعليًا على عدم الحضور والخروج من المأزق وإنجاح المؤتمر، ومن ثم عُقدت الجلسة الختامية عصر 25 سبتمبر، وحين علم الوفد الهندي وأرسل خطابًا لرئاسة المؤتمر يستفسر عن عدم دعوته، لم يتلق ردًا، ليخرج البيان الختامي مشيرًا لحضور ممثلين عن "المسلمين بالهند" فقط، دون ذكر حضور وفد عن دولة الهند في بداية المؤتمر.
أبلغت الهند احتجاجاتها رسميًا للدول المشاركة في المؤتمر على ما جرى من خرق واضح للأعراف الدبلوماسية، وقد سارع بعضها بإرسال الوفود لدلهي لتفسير موقفه ودعمه الأصلي للمشاركة الهندية، وعلى رأسهم مصر، لكن التخبُّط العربي حيال الهند وباكستان ظل يكشف عن نفسه في مواقف عديدة، لا سيّما الحروب المتكررة بين البلدين على كشمير، والتي انحاز فيها البعض مثل الخليج لباكستان، في حين حاول آخرون التزام الحياد مثل مصر.
استمر الالتزام الهندي بالقضية الفلسطينية طوال وجود إنديرا في السُلطة10، إذ مُنحَت حركة تحرير فلسطين مقرًا رسميًا في دلهي عام 1974، في الوقت الذي ظلت فيه دولة إسرائيل على قنصليتها المتواضعة خارج العاصمة، بل وتعرضت لتضيقات إضافية مثل رفض منح أية تأشيرات هندية لمواطنين إسرائيليين، وكان بعضها يُمنح عن طريق السفارة البريطانية في تل أبيب، والتي أدارت عبرها الهند تلك الملفات الأساسية في علاقاتها مع إسرائيل، إلا أن تلك الأوضاع لم تستمر طويلًا، مثلها مثل أوضاع كثيرة انقلبت رأسًا على عقب في الشرق الأوسط خلال السبعينيات.
الباب الموارب: الثمانينيات وما بعد حرب كارجيل
"هل يُعقَل أن نكون أكثر عروبةً من مصر نفسها؟"
(تشيدَمبرم سوبرَمنيام، وزير مالية ودفاع هندي سابق)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات أثناء إلقائه خطابا في الكنيست الإسرائيلي عام 1977 (مواقع التواصل)
لو كان لإسرائيل أن تحتفل بعام آخر غير العام 1948، لربما فكرت أن تحتفل بالعام 1977، إذ فتح لها ذلك العام أبوابًا عدّة وليس بابًا واحدًا فقط. كان أولها وأثمنها الباب المصري الذي انفتح على مصراعيه بزيارة الرئيس أنور السادات للكنيست الإسرائيلي، وما تبعه من طي صفحة الحروب مع مصر، أما ثانيها فكان حدوث انفراجة لأول مرة في التواصل المباشر مع الهند، بعد خروج إنديرا من السُلطة جراء سقوط شعبيتها في انتخابات 1977 على خلفية سلطويتها المتزايدة وإعلانها حالة الطوارئ.
لم تفكّر حكومة "جاناتا" الجديدة طويلًا، لا سيّما مع وجود عناصر قومية هندوسية في صفوفها ترى الاصطفاف مع إسرائيل لمواجهة باكستان، ومن ثم تقرر استقبال وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان في دلهي ولكن بشكل سرّي11، للبحث في الاستفادة من خبرات إسرائيل العسكرية، ورُغم سقوط حكومة "جاناتا" خلال عامين فقط وعودة إنديرا للسُلطة، إلا أن سياساتها الخارجية باتت أضعف آنذاك بشكل عام مع بدء تراجع حليفها السوفيتي واختفاء النظام الناصري من الساحة. لقد كانت مسألة وقت ليس إلا قبل أن يصبح الباب الموصد مواربًا، وهو ما حدث بالفعل بعد اغتيالها عام 1984 على يد متطرفين سيخيين.
عامٌ واحد فقط مرّ على اغتيالها قبل أن يقرر ابنها وخلفها في السُلطة12، "راجيف غاندي"، التقاء نظيره الإسرائيلي لأول مرة على خلفية الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة. كانت سنوات راجيف الصعبة في الثمانينيات فترة أدركت فيها المؤسسات الحاكمة في الهند الحاجة إلى تغييرات جذرية لتواكب ما يجري من حولها، بدءًا من تدهور الاتحاد السوفيتي عالميًا، وانتقال الثقل الاقتصادي في المنطقة العربية إلى الخليج بعلاقاته القوية مع باكستان، والحاجة إلى فتح السوق الهندي ومن ثم التقارب مع الولايات المتحدة، لا سيّما مع بزوغ التحدّي الصيني في آسيا.
كان ملف التطوير العسكري بشكل خاص على رأس الأجندة الهندية، فقد ظلت الصناعات العسكرية الأميركية بعيدة عن السوق الهندي، في حين أدى تراجع روسيا عالميًا، مع الحاجة لصيانة وتطوير الترسانة السوفيتية لدى الجيش الهندي، إلى الرغبة في تبلور علاقة جديدة مع طرف يملك القدرة على سد تلك الثغرة، وهي واحدة من الدوافع الرئيسية لقرار تدشين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عام 1992 تحت رئاسة وزراء "ناراسيمها راو".
استمر الهنود في منهج المواربة مع إسرائيل والمنصب على الاستفادة العسكرية والتقنية (رويترز)
أدت عوامل إضافية في نهاية التسعينيات إلى تعميق الشراكة العسكرية مع إسرائيل13، أولها الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة مؤقتًا على التعاون العسكري مع الهند نتيجة لتجاربها النووية العسكرية، والتي خرقت اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي، وثانيها وصول حزب "بهارتيا جاناتا" القومي الهندوسي للسُلطة لأول مرة، وابتعاده أكثر عن الشرائح المُسلمة داخل الهند وأحزاب اليسار، وثالثًا وقوع حرب جديدة مع باكستان عام 1999، وهي حرب "كارجيل"، تكشفّت فيها مكامن خلل عدّة عسكرية واستخباراتية في تعامل القوات الهندية مع نظيرتها الباكستانية التي ظلت على تمتُّعها بالدعم الأميركي من ناحية، وكذلك انحياز الصين لها نظرًا للتنافس التاريخي بينها وبين الهند.
في تلك الفترة لم تجد دلهي سوى أيادي إسرائيل الممدودة، والتي طالما تطلعت إلى تشكيل علاقة قوية مع الهند فيما يشبه حبًا من طرف واحد، حتى قررت الهند أخيرًا الاستجابة جزئيًا للتودد الإسرائيلي للحصول على مميزات ترسانة تل أبيب المتطورة، والتي باتت دلهي أكبر مستهلك لها في العالم، علاوة على الوصول بصورة غير مباشرة لأحدث تقنيات الغرب العسكرية من بوابة تل أبيب أيضًا.
استمر نهج الباب الموارِب، المنصب على الاستفادة العسكرية والتقنية، حين عاد حزب الكونغرس للسُلطة وظل فيها حتى عام 2014، في تجلٍ واضح لاستحالة العودة لسياسات نهرو "العروبية" إن جاز القول، لا سيّما وأن أصحاب تلك السياسات من العرب أنفسهم تخلوا عنها من أجل سياسات أكثر واقعية، ولذا لم يكن منطقيًا أن تحمل دلهي لواء معركة على بُعد آلاف الكيلومترات، ومع عدو صار يمنحها مميزات هي في أمسّ الحاجة إليها لمواجهة عدوّها المباشر.
عصر مودي: هل يُفتح الباب على مصراعيه؟
"يبدو هنالك تضليل لشعبنا بخصوص فلسطين نتيجة دعايا المسلمين. فلسطين بأكملها وطن للشعب اليهودي، وذلك قبل ألفيّ عام على الأقل من ميلاد رسول المسلمين"
(فيناياك دامودار سافاركار، أحد أعلام القومية الهندوسية)
نارندرا مودي يحيى ذكرى وفاة سافاركار في مقر البرلمان الهندي بعد توليه رئاسة الوزراء (مواقع التواصل)
في عام 2008، قام حاكم ولاية كوجرات آنذاك14، نارندرا مودي، بتخصيص جزء من ميزانية الولاية لإطلاق موقع إلكتروني باسم المفكر الهندوسي "فيناياك دامودار سافاركار"، مدافعًا عنه ضد "الدعايا الخبيثة التي نالت منه وأدت لسوء الفهم حياله لعقود طويلة" كما ذُكر. كان سافاركار جزءً من مدرسة القومية الهندوسية التي صارعت إرث المهاتما غاندي، ورأت في الهند وطنًا هندوسيًا يستند للارتباط الوثيق بين أرض الهند المقدسة والعقيدة الهندوسية، ومن ثم اعتُبر أي عنصر ديني آخر لا يقدّس أرضها دخيلًا عليها.
طوال فترة حكمه لكوجرات، شكّل نارندرا مودي عاملًا رئيسيًا في حملة الحركة القومية الهندوسية لمراجعة السرديات الرسمية لتاريخ الهند، وإعادة الاعتبار لأعلام الهندوس، علاوة على تنفيذه لتصوراته عن السياسة الخارجية من موقعه في السياسة المحلية، لا سيّما فيما يتعلق بإسرائيل والتقارب معها، في اتساق مع موقف القومية الهندوسية التاريخي بتأييد قيام دولة يهودية في فلسطين، باعتبارها أرضًا مقدسة لليهود وطأها المسلمون متأخرًا، تمامًا كما حدث مع أرض الهند «الهندوسية».
طوال حكمه للولاية بين عامي 2001 و2014، دأب "مودي" على تعزيز علاقاته مع إسرائيل، لتُرسل "كوجرات" العشرات من رجال الأعمال والمزارعين إلى هناك للحصول على أحدث تقنيات الزراعة الإسرائيلية، كما استقبلت الولاية استثمارات إسرائيلية عديدة. لم تكن مفاجئة إذن الحفاوة الإسرائيلية التي قوبل بها مودي بعد انتصاره عام 2014 في الانتخابات البرلمانية وتوليه رئاسة الوزراء، وكذا الحماس تجاه وزيرة خارجيته "سوشما سواراج"15، رئيسة المجموعة البرلمانية للصداقة الهندية الإسرائيلية سابقًا، لتتوالى شواهد عدة على انفتاح غير مسبوق تجاه تل أبيب في السنوات الثلاث لحكومته حتى الآن16، بدأ بلقائه نتنياهو خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، رُغم ما أشيع عن تردد كثيرين في الخارجية الهندية.
في أواخر عام 2014 قام وزير الداخلية "راجنات سينغ" بزيارة إسرائيل والعودة لبلاده17، في سابقة من نوعها تعاكس العُرف الدبلوماسي الهندي بعدم زيارة إسرائيل دون المرور بالسُلطة الفلسطينية في رام الله. تلى ذلك في (أكتوبر/تشرين الأول) 2015 زيارة رئيس الجمهورية ذي المنصب الشرفي "براناب موخرجي"18، ليصبح أول رئيس هندي يزور إسرائيل، ولكن مع مروره على رام الله هذه المرة.
بيد أن تلك التحوّلات لا تعني انفتاحًا كاملًا كما يرغب الإسرائيليون، بل ولا تعدو كونها خطوات رمزية من جانب مودي لإزاحة جزء ولو بسيط من إرث نهرو والكونغرس في الخارجية الهندية، وهي خطوات تُقابلها أيضًا حسابات واقعية أخرى للحكومة الحالية، إذ يُدرك الجميع فيها بأن هنالك أسبابًا عديدة تمنع فتح الباب الموارب على مصراعيه كما يفعل الأميركيون، وتجعل الغزل المُعتاد بين القومية الهندوسية والصهيونية مقصورًا على بضعة مواقف دبلوماسية ليس إلا.
"لعل الأسباب الأيديولوجية السابقة لحماسة نهرو وإنديرا تجاه العرب، وحيال مُعاداة إسرائيل، لم تعُد موجودة، في صفوف الكونغرس والقوميين الهندوس على السواء، لكن فتح الباب بين دلهي وتل أبيب على مصراعيه يظل شبه مستحيل هو الآخر كما يُدرك الحزبان"
تأتي على رأس تلك الأسباب العلاقة الإستراتيجية الوطيدة بين الهند وإيران، إذ تجمع البلدين مصلحة مشتركة باحتواء باكستان، بالإضافة لحرص مودي على عدم النظر له في النهاية كـ"حليف إسرائيلي"، فالفوز بأصوات المسلمين في الداخل ليس مستحيلًا لو قدمت حكومته أداءً اقتصاديًا جيدًا، كما أن خسارة صداقات مهمة مع شعوب بنغلادش وماليزيا وإندونيسيا والخليج من أجل إسرائيل فقط ينافي مصالح الخارجية الهندية، لا سيما مع اهتمام دلهي بالحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن19، الأمر الذي سيحتاج عددًا كبيرًا من الدول المؤيدة، تستطيع دول الخليج أن تكون لاعبًا محوريًا فيه.
رُغم حماستها لتعميق العلاقات الرسمية مع إسرائيل، والاستفادة عسكريًا وتكنولوجيًا، أبدت حكومة مودي درجة من الالتزام ببعض المواقف العربية التقليدية، منها الاستمرار في الإشارة لمحمود عباس كرئيس لفلسطين، وليس السُلطة الفلسطينية كما تفعل دول أخرى، وزيارة وزيرة الخارجية الهندية لضريح ياسر عرفات في زيارتها لفلسطين، بالإضافة لتقديم عدد من أجهزة الكمبيوتر لمركز تكنولوجي تابع لجامعة القدس برام الله، أدى تَعَنُّت إسرائيل في تمريرها لبعض التوتر بين الجانبين20، وتصويت الهند لصالح رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة.
يخطو مودي خطوات حذرة، لكنه يظل عازمًا على رفع الستار أكثر عن العلاقات الرسمية، وإجرائها بصورة علنية أكثر من سابقيه، وهو ما ستكشفه زيارته المخطط لها هذا الصيف إلى تل أبيب21، ليصبح بذلك أول رئيس وزراء هندي تطأ أقدامه إسرائيل، تمامًا كما سيطأها هنود آخرون برحلات مباشرة على طيران الهند بدءًا من (مايو/أيار) الحالي طبقًا لاتفاق تم توقيعه مؤخرًا بين الطرفين يدشن ثلاث رحلات أسبوعية من الهند لإسرائيل22.
لعل الأسباب الأيديولوجية السابقة لحماسة نهرو وإنديرا تجاه العرب، وحيال مُعاداة إسرائيل، لم تعُد موجودة، في صفوف الكونغرس والقوميين الهندوس على السواء، لكن فتح الباب بين دلهي وتل أبيب على مصراعيه يظل شبه مستحيل هو الآخر كما يُدرك الحزبان. ولربما بات الساسة الهنود أقدر على مبادلة الإسرائيليين بعض الود الذي بادلوهم إياه في الماضي، والذي تزداد حماسته مع الحكومات الهندوسية، بيد أن غالبيتهم وغالبية المسافرين على رحلات طيران الهند الجديدة كذلك تظل حريصة ألا تنطبع على وجناتهم قُبُلات إسرائيل.
على ضفاف نهر "بارفاتي" المتاخم لجبال الهيمالايا بأقصى شمال الهند، تقع قرية "كاسول" الصغيرة والنائية، والتي تعج بالعديد من الحانات والفنادق الرخيصة ومقاهي الإنترنت والمطاعم الأجنبية، بالإضافة للتداول الواسع لـ "تشاراس"؛ الاسم الشائع لواحدة من أجود أنواع "الحشيش الهندي"، لتقدِّم القرية للكثير من السائحين وعشّاق تسلق الجبال أو الطبيعة الهندية مزيجًا من الاسترخاء والتأمُّل واستنشاق الهواء النقي، الممزوج أحيانًا ببعض الحشيش.
يلحظ زوّار "كاسول" باستمرار توافر معظم اللافتات باللغتين الهندية، الغالبة بشمال الهند، والعِبرية، إذ تعجّ المدينة بنسبة كبيرة من الزوّار الإسرائيليين، نتيجة قدوم العديد من الشباب المُنتهي لتوّه من الخدمة العسكرية الإجبارية في إسرائيل، وهي ظاهرة حاضرة كذلك في ولاية "غوا" الساحلية غربي الهند؛ حيث يتوافد هؤلاء الشباب في الشتاء بعيدًا عن ثلوج الهيمالايا.
لافتات عِبرية في قرية كاسول شمالي الهند (مواقع التواصل)
يذهب هؤلاء الشباب، تحت رعاية منظمات حكومية وغير حكومية إسرائيلية1، لمعالجة آثار الضغط النفسي الواقع عليهم في صفوف الجيش الإسرائيلي، لتتحوّل حياتهم إلى النقيض تمامًا؛ حفلات مستمرة وتعاطي مُفرط للمخدرات وتعامل مفتوح مع شبكات البغاء، وهي تصرُّفات جلبت استهجانًا هنديًا محليًا وصل للكنيسة الكاثوليكية في "غوا"، والتي نشرت كُتيّبًا تحذر فيه من تجاهلهم لعادات السكان المحليين2؛ بسبب ما خاضوه أثناء خدمتهم بالجيش.
"كُل ما عليك هو اتبّاع اللافتات العبرية لتصل في النهاية إلى غليون مملوء بالحشيش"، جملة جاءت على لسان مالك إحدى الشواطئ في "غوا"3، والتي تشهد حضورًا قويًا أيضًا لرجال الأعمال الإسرائيليين؛ فشراؤهم لمساحات واسعة من الأراضي دفعت نائبًا برلمانيًا عن الولاية للتحذير من "احتلال الإسرائيليين لـغوا"، وضلوعهم في تجارة المخدرات بالمدينة وتوفير الغطاء لها عبر أملاكهم هناك.
من المجنّدين السابقين والمستشارين الزراعيين، وحتى رجال الصفقات الضبابية وتجارة المخدرات، بات التوافد الإسرائيلي ملحوظًا في بضعة ولايات رُغم بساطته في دولة كبيرة كالهند، ليعكس الشوط الكبير الذي قطعته تل أبيب في فتح أبواب العلاقات الطبيعية مع دلهي، والتي لم تؤسس لعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلا عام 1992، بعد عقود من العداء شبه التام.
"المهمة الدبلوماسية الأكثر انعزالًا في العالم"4، هكذا عُرِّفَت قبل خمسين عامًا قنصلية إسرائيل في مومباي بموظفيها الأربعة، حين كان محظورًا على تل أبيب تدشين سفارة في العاصمة دلهي، واقتصرت العلاقات، من ناحية إسرائيل فقط، على المستوى القُنصلي، بينما امتنعت الهند تمامًا عن إيفاد أي دبلوماسي إلى إسرائيل. حرصت تل أبيب على علاقاتها مع الهند آنذاك رُغم جفاء القيادة السياسية الهندية، بل ودأب أولئك الموظفون الأربعة على نشر مجلة خاصة بالقنصلية كل شهرين، والرد على استفسارات بعض الهنود ارتكزت بالأساس لتجربة إسرائيل الرائدة في الزراعة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك يلتقي وزير الخارجية الهندي جاسوانت سينغ، والذي يقوم بزيارة لإسرائيل بهدف تحسين العلاقات التجارية والعلاقات الثنائية سنة 2000 (رويترز)
انفتح باب العلاقات قبل 25 عامًا، بيد أنه ظل مواربًا من جانب الهند، إذ يقتصر الاهتمام الهندي على الاستفادة من شركات التنمية الزراعية الإسرائيلية، والتعاون في المجالات العسكرية المتميزة لدى الإسرائيليين، عدا ذلك لا يزال حماس الهند محدودًا حيال التطبيع الشامل، فشركات الطيران الهندية ممتنعة عن الرحلات المباشرة إلى تل أبيب5، تاركة الطيران الإسرائيلي "إل عال" يقدّم تلك الخدمة منفردًا لعدد محدود من السائحين الهنود لا يتجاوز 50 ألف فقط سنويًا، وهي أعداد يحاول بعضها أن يتفادى الختم الإسرائيلي على صفحات جواز سفره6، والحصول عليه في ورقة منفصلة، خوفًا من رفض دخوله فيما بعد لدول الخليج أو إيران أصحاب العلاقات المتشعبة بالهند.
مثلها مثل سائحيها، تحاول الهند باستمرار قصر علاقاتها مع إسرائيل على ما يهمّها من مجالات، مع تفادي "خِتم" العلاقات العلنية، وحفاوة الزيارات الرسمية إلى تل أبيب التي لم يقُم بها رئيس وزراء هندي حتى اليوم، أما أسباب حرجها من التطبيع، رُغم كونها بلدًا غير عربي أو مُسلم، فهي حكاية فريدة، وتأخذنا إلى صفحات مجهولة ومُهمِّة في آن من علاقات الهند والقوى السياسية فيها بالشرق الأوسط.
الباب الموصد بوجه إسرائيل: إرث نهرو وحركة الخلافة
"تعارض باكستان باستمرار مشاركتنا في الفعاليات الإسلامية، وهو أمر طبيعي لأن تأسيسها كدولة يقوم على نظرية الفصام بين شعب هندوسي -في الهند- وشعب مسلم -في باكستان-؛ نظرية لم ولن تقبلها الهند"
(جوربتشان سينغ، سفير الهند السابق بالمغرب)
في مارس من العام 1966، حطت طائرة رئيس إسرائيل زلمان شازار في العاصمة الهندية دلهي لسويعات، قبل أن تنقله إلى مدينة كالوكتّا بشرق الهند حيث أمضى ليلته على أن يصل في الصباح لوجهته الرسمية؛ العاصمة النيبالية كاتماندو7. لم يكن ثمة مسؤول هندي واحد لاستقبال الضيف الثقيل الذي حلّ على الهند رُغمًا عنه في رحلته الطويلة، على عكس العادة الدبلوماسية في مواقف كتلك، مما منح المعارضة فرصة مناسبة لمهاجمة رئيسة الوزراء إنديرا غاندي، بعد شهرين فقط من توليها المنصب، بسبب ما أسموه "سوء الضيافة".
على خُطى والدها، والذي جمعته علاقة وطيدة مع الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر، والتزم بـ "سياسة عروبية" تجاه القضية الفلسطينية، التزمت إنديرا بخط السياسة الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، بل وازدادت تعنُّتًا في مقاطعة الإسرائيليين رغبةً منها في توطيد صفوف جناحها بالحزب الحاكم "الكونغرس"، وتحالفه مع الأحزاب اليسارية الرافضة للتطبيع هي الأخرى اعتقادًا بتبعية المشروع الصهيوني للغرب، علاوة على تعزيز شعبيتها في أوساط المسلمين بما يمثلونه من خُمس السكان في الهند، وكسب ورقة تعاطفهم مع الفلسطينيين.
إنديرا غاندي وجمال عبد الناصر والرئيس اليوغوسلافي جوسيف تيتو عام 1966 في العاصمة الهندية نيودلهي (مواقع التواصل)
لم تكن سياسة الكونغرس -الهندي- تجاه إسرائيل مجرد حسبة انتخابية، بل تجلٍ لإرث طويل من الاهتمام بالعالم الإسلامي بالنظر لتعداد الهند المُسلِم الكبير، فقد كان حراك الكونغرس، بقيادة المهاتما غاندي ضد البريطانيين، كتفًا بكتف مع حركة دعم الخلافة العثمانية التي نشأت بين مسلمي الهند في مطلع القرن العشرين، وأنتجت قيادات مُسلمة عديدة منها من بقي في الهند ومنها من شارك في تأسيس دولة باكستان عام 1947، وكان الموقف الذي تأسست عليه الدولة الهندية المستقلة هو رفض الخطاب الباكستاني بـ"هندوسية الهند"، وعدم الرضوخ لمحاولتها عزل الهند عن محيطها الإسلامي في الشرق حيث إندونيسيا وماليزيا والغرب حيث إيران والخليج، بل وضرورة بلورة علاقات وطيدة مع ذلك المحيط عمومًا، ومع العرب وقضاياهم خصوصًا، كتمثيل طبيعي لدور مسلمي الهند تاريخيًا.
جرت الرياح بما تشتهِ السُفن في دلهي، إذ شكّلت حرب الأيام الستة عام 1967 سببًا إضافيًا لتمسُّك إنديرا بمقاطعة إسرائيل بوجه معارضيها، بالنظر لمخالفتها قرارات الأمم المتحدة باحتلال أراضٍ عربية جديدة، وبالمثل سرت الرياح داخل الهند حين هزم الجيش الهندي نظيره الباكستاني في معركة تحرير بنغلادش عام 1971، ليكتسح جناح إنديرا الانتخابات البرلمانية في نفس العام، ويؤكد سيطرة واستمرار إرث نهرو في الكونغرس. بيد أن الحماس الهندي للقضية الفلسطينية كان قد بدأ بالفتور على خلفية أحداث عدة، بدأها في الواقع الجانب العربي عام 1969.
في (سبتمبر/أيلول) عام 1969، تلقى جوربتشان سينغ سفير الهند في المغرب8، دعوة رسمية لحضور بلاده المؤتمر الإسلامي بالرباط، على خلفية قيام يهودي متطرف من أستراليا بإشعال حريق في المسجد الأقصى، وهو مؤتمر تمخضت عنه منظمة المؤتمر الإسلامي. جلس سينغ كرئيس للوفد الهندي بالجلسة الافتتاحية، حتى وصل في اليوم التالي وفد رسمي من دلهي بقيادة فخر الدين أحمد، وزير مُسلم بحكومة إنديرا، لكن أحد الموفَدين من جانب ملك المغرب حمل أخبارًا سيئة للوفد الواصل لتوّه؛ لقد تراجع المؤتمر عن دعوة الهند.
الأسترالي اليهودي المتطرف مايكيل دينس يشعل الحريق في المسجد الأقصى سنة 1969 (غيتي)
أتت المُعارضة كما هو متوقع من باكستان، وقيل بأن ضغوط عدد من المؤسسات الباكستانية على رئيسها يحيى خان غيّرت موقفه بعد أن وافق في البداية على حضور الهند، وسيقت الحُجج رسميًا للوفد الهندي بالإشارة لأحداث توتر طائفي جرت في إحدى الولايات الهندية، وأدت لمقتل عدد من المسلمين، باعتبارها عائقًا يحول دون استكمال الهند للمؤتمر، ومن ثُم طُلب من فخر الدين إما التنازل عن الحضور أو تغيير صفة الهند من عضو كامل إلى عضو مراقب، الأمر الذي رفضه الوزير الهندي.
حظى الموقف الباكستاني بدعم الأردن وتركيا وإيران تحت حُكم الشاه آنذاك9، وقيل إن اثنين منهم هددا بالانسحاب مع باكستان إذا حضرت الهند، مما دفع المغرب ببساطة لتفادي إعلام الهند بجدول أعمال المؤتمر، لإجبارها فعليًا على عدم الحضور والخروج من المأزق وإنجاح المؤتمر، ومن ثم عُقدت الجلسة الختامية عصر 25 سبتمبر، وحين علم الوفد الهندي وأرسل خطابًا لرئاسة المؤتمر يستفسر عن عدم دعوته، لم يتلق ردًا، ليخرج البيان الختامي مشيرًا لحضور ممثلين عن "المسلمين بالهند" فقط، دون ذكر حضور وفد عن دولة الهند في بداية المؤتمر.
أبلغت الهند احتجاجاتها رسميًا للدول المشاركة في المؤتمر على ما جرى من خرق واضح للأعراف الدبلوماسية، وقد سارع بعضها بإرسال الوفود لدلهي لتفسير موقفه ودعمه الأصلي للمشاركة الهندية، وعلى رأسهم مصر، لكن التخبُّط العربي حيال الهند وباكستان ظل يكشف عن نفسه في مواقف عديدة، لا سيّما الحروب المتكررة بين البلدين على كشمير، والتي انحاز فيها البعض مثل الخليج لباكستان، في حين حاول آخرون التزام الحياد مثل مصر.
استمر الالتزام الهندي بالقضية الفلسطينية طوال وجود إنديرا في السُلطة10، إذ مُنحَت حركة تحرير فلسطين مقرًا رسميًا في دلهي عام 1974، في الوقت الذي ظلت فيه دولة إسرائيل على قنصليتها المتواضعة خارج العاصمة، بل وتعرضت لتضيقات إضافية مثل رفض منح أية تأشيرات هندية لمواطنين إسرائيليين، وكان بعضها يُمنح عن طريق السفارة البريطانية في تل أبيب، والتي أدارت عبرها الهند تلك الملفات الأساسية في علاقاتها مع إسرائيل، إلا أن تلك الأوضاع لم تستمر طويلًا، مثلها مثل أوضاع كثيرة انقلبت رأسًا على عقب في الشرق الأوسط خلال السبعينيات.
الباب الموارب: الثمانينيات وما بعد حرب كارجيل
"هل يُعقَل أن نكون أكثر عروبةً من مصر نفسها؟"
(تشيدَمبرم سوبرَمنيام، وزير مالية ودفاع هندي سابق)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات أثناء إلقائه خطابا في الكنيست الإسرائيلي عام 1977 (مواقع التواصل)
لو كان لإسرائيل أن تحتفل بعام آخر غير العام 1948، لربما فكرت أن تحتفل بالعام 1977، إذ فتح لها ذلك العام أبوابًا عدّة وليس بابًا واحدًا فقط. كان أولها وأثمنها الباب المصري الذي انفتح على مصراعيه بزيارة الرئيس أنور السادات للكنيست الإسرائيلي، وما تبعه من طي صفحة الحروب مع مصر، أما ثانيها فكان حدوث انفراجة لأول مرة في التواصل المباشر مع الهند، بعد خروج إنديرا من السُلطة جراء سقوط شعبيتها في انتخابات 1977 على خلفية سلطويتها المتزايدة وإعلانها حالة الطوارئ.
لم تفكّر حكومة "جاناتا" الجديدة طويلًا، لا سيّما مع وجود عناصر قومية هندوسية في صفوفها ترى الاصطفاف مع إسرائيل لمواجهة باكستان، ومن ثم تقرر استقبال وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان في دلهي ولكن بشكل سرّي11، للبحث في الاستفادة من خبرات إسرائيل العسكرية، ورُغم سقوط حكومة "جاناتا" خلال عامين فقط وعودة إنديرا للسُلطة، إلا أن سياساتها الخارجية باتت أضعف آنذاك بشكل عام مع بدء تراجع حليفها السوفيتي واختفاء النظام الناصري من الساحة. لقد كانت مسألة وقت ليس إلا قبل أن يصبح الباب الموصد مواربًا، وهو ما حدث بالفعل بعد اغتيالها عام 1984 على يد متطرفين سيخيين.
عامٌ واحد فقط مرّ على اغتيالها قبل أن يقرر ابنها وخلفها في السُلطة12، "راجيف غاندي"، التقاء نظيره الإسرائيلي لأول مرة على خلفية الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة. كانت سنوات راجيف الصعبة في الثمانينيات فترة أدركت فيها المؤسسات الحاكمة في الهند الحاجة إلى تغييرات جذرية لتواكب ما يجري من حولها، بدءًا من تدهور الاتحاد السوفيتي عالميًا، وانتقال الثقل الاقتصادي في المنطقة العربية إلى الخليج بعلاقاته القوية مع باكستان، والحاجة إلى فتح السوق الهندي ومن ثم التقارب مع الولايات المتحدة، لا سيّما مع بزوغ التحدّي الصيني في آسيا.
كان ملف التطوير العسكري بشكل خاص على رأس الأجندة الهندية، فقد ظلت الصناعات العسكرية الأميركية بعيدة عن السوق الهندي، في حين أدى تراجع روسيا عالميًا، مع الحاجة لصيانة وتطوير الترسانة السوفيتية لدى الجيش الهندي، إلى الرغبة في تبلور علاقة جديدة مع طرف يملك القدرة على سد تلك الثغرة، وهي واحدة من الدوافع الرئيسية لقرار تدشين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عام 1992 تحت رئاسة وزراء "ناراسيمها راو".
استمر الهنود في منهج المواربة مع إسرائيل والمنصب على الاستفادة العسكرية والتقنية (رويترز)
أدت عوامل إضافية في نهاية التسعينيات إلى تعميق الشراكة العسكرية مع إسرائيل13، أولها الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة مؤقتًا على التعاون العسكري مع الهند نتيجة لتجاربها النووية العسكرية، والتي خرقت اتفاقية حظر انتشار السلاح النووي، وثانيها وصول حزب "بهارتيا جاناتا" القومي الهندوسي للسُلطة لأول مرة، وابتعاده أكثر عن الشرائح المُسلمة داخل الهند وأحزاب اليسار، وثالثًا وقوع حرب جديدة مع باكستان عام 1999، وهي حرب "كارجيل"، تكشفّت فيها مكامن خلل عدّة عسكرية واستخباراتية في تعامل القوات الهندية مع نظيرتها الباكستانية التي ظلت على تمتُّعها بالدعم الأميركي من ناحية، وكذلك انحياز الصين لها نظرًا للتنافس التاريخي بينها وبين الهند.
في تلك الفترة لم تجد دلهي سوى أيادي إسرائيل الممدودة، والتي طالما تطلعت إلى تشكيل علاقة قوية مع الهند فيما يشبه حبًا من طرف واحد، حتى قررت الهند أخيرًا الاستجابة جزئيًا للتودد الإسرائيلي للحصول على مميزات ترسانة تل أبيب المتطورة، والتي باتت دلهي أكبر مستهلك لها في العالم، علاوة على الوصول بصورة غير مباشرة لأحدث تقنيات الغرب العسكرية من بوابة تل أبيب أيضًا.
استمر نهج الباب الموارِب، المنصب على الاستفادة العسكرية والتقنية، حين عاد حزب الكونغرس للسُلطة وظل فيها حتى عام 2014، في تجلٍ واضح لاستحالة العودة لسياسات نهرو "العروبية" إن جاز القول، لا سيّما وأن أصحاب تلك السياسات من العرب أنفسهم تخلوا عنها من أجل سياسات أكثر واقعية، ولذا لم يكن منطقيًا أن تحمل دلهي لواء معركة على بُعد آلاف الكيلومترات، ومع عدو صار يمنحها مميزات هي في أمسّ الحاجة إليها لمواجهة عدوّها المباشر.
عصر مودي: هل يُفتح الباب على مصراعيه؟
"يبدو هنالك تضليل لشعبنا بخصوص فلسطين نتيجة دعايا المسلمين. فلسطين بأكملها وطن للشعب اليهودي، وذلك قبل ألفيّ عام على الأقل من ميلاد رسول المسلمين"
(فيناياك دامودار سافاركار، أحد أعلام القومية الهندوسية)
نارندرا مودي يحيى ذكرى وفاة سافاركار في مقر البرلمان الهندي بعد توليه رئاسة الوزراء (مواقع التواصل)
في عام 2008، قام حاكم ولاية كوجرات آنذاك14، نارندرا مودي، بتخصيص جزء من ميزانية الولاية لإطلاق موقع إلكتروني باسم المفكر الهندوسي "فيناياك دامودار سافاركار"، مدافعًا عنه ضد "الدعايا الخبيثة التي نالت منه وأدت لسوء الفهم حياله لعقود طويلة" كما ذُكر. كان سافاركار جزءً من مدرسة القومية الهندوسية التي صارعت إرث المهاتما غاندي، ورأت في الهند وطنًا هندوسيًا يستند للارتباط الوثيق بين أرض الهند المقدسة والعقيدة الهندوسية، ومن ثم اعتُبر أي عنصر ديني آخر لا يقدّس أرضها دخيلًا عليها.
طوال فترة حكمه لكوجرات، شكّل نارندرا مودي عاملًا رئيسيًا في حملة الحركة القومية الهندوسية لمراجعة السرديات الرسمية لتاريخ الهند، وإعادة الاعتبار لأعلام الهندوس، علاوة على تنفيذه لتصوراته عن السياسة الخارجية من موقعه في السياسة المحلية، لا سيّما فيما يتعلق بإسرائيل والتقارب معها، في اتساق مع موقف القومية الهندوسية التاريخي بتأييد قيام دولة يهودية في فلسطين، باعتبارها أرضًا مقدسة لليهود وطأها المسلمون متأخرًا، تمامًا كما حدث مع أرض الهند «الهندوسية».
طوال حكمه للولاية بين عامي 2001 و2014، دأب "مودي" على تعزيز علاقاته مع إسرائيل، لتُرسل "كوجرات" العشرات من رجال الأعمال والمزارعين إلى هناك للحصول على أحدث تقنيات الزراعة الإسرائيلية، كما استقبلت الولاية استثمارات إسرائيلية عديدة. لم تكن مفاجئة إذن الحفاوة الإسرائيلية التي قوبل بها مودي بعد انتصاره عام 2014 في الانتخابات البرلمانية وتوليه رئاسة الوزراء، وكذا الحماس تجاه وزيرة خارجيته "سوشما سواراج"15، رئيسة المجموعة البرلمانية للصداقة الهندية الإسرائيلية سابقًا، لتتوالى شواهد عدة على انفتاح غير مسبوق تجاه تل أبيب في السنوات الثلاث لحكومته حتى الآن16، بدأ بلقائه نتنياهو خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، رُغم ما أشيع عن تردد كثيرين في الخارجية الهندية.
في أواخر عام 2014 قام وزير الداخلية "راجنات سينغ" بزيارة إسرائيل والعودة لبلاده17، في سابقة من نوعها تعاكس العُرف الدبلوماسي الهندي بعدم زيارة إسرائيل دون المرور بالسُلطة الفلسطينية في رام الله. تلى ذلك في (أكتوبر/تشرين الأول) 2015 زيارة رئيس الجمهورية ذي المنصب الشرفي "براناب موخرجي"18، ليصبح أول رئيس هندي يزور إسرائيل، ولكن مع مروره على رام الله هذه المرة.
بيد أن تلك التحوّلات لا تعني انفتاحًا كاملًا كما يرغب الإسرائيليون، بل ولا تعدو كونها خطوات رمزية من جانب مودي لإزاحة جزء ولو بسيط من إرث نهرو والكونغرس في الخارجية الهندية، وهي خطوات تُقابلها أيضًا حسابات واقعية أخرى للحكومة الحالية، إذ يُدرك الجميع فيها بأن هنالك أسبابًا عديدة تمنع فتح الباب الموارب على مصراعيه كما يفعل الأميركيون، وتجعل الغزل المُعتاد بين القومية الهندوسية والصهيونية مقصورًا على بضعة مواقف دبلوماسية ليس إلا.
"لعل الأسباب الأيديولوجية السابقة لحماسة نهرو وإنديرا تجاه العرب، وحيال مُعاداة إسرائيل، لم تعُد موجودة، في صفوف الكونغرس والقوميين الهندوس على السواء، لكن فتح الباب بين دلهي وتل أبيب على مصراعيه يظل شبه مستحيل هو الآخر كما يُدرك الحزبان"
تأتي على رأس تلك الأسباب العلاقة الإستراتيجية الوطيدة بين الهند وإيران، إذ تجمع البلدين مصلحة مشتركة باحتواء باكستان، بالإضافة لحرص مودي على عدم النظر له في النهاية كـ"حليف إسرائيلي"، فالفوز بأصوات المسلمين في الداخل ليس مستحيلًا لو قدمت حكومته أداءً اقتصاديًا جيدًا، كما أن خسارة صداقات مهمة مع شعوب بنغلادش وماليزيا وإندونيسيا والخليج من أجل إسرائيل فقط ينافي مصالح الخارجية الهندية، لا سيما مع اهتمام دلهي بالحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن19، الأمر الذي سيحتاج عددًا كبيرًا من الدول المؤيدة، تستطيع دول الخليج أن تكون لاعبًا محوريًا فيه.
رُغم حماستها لتعميق العلاقات الرسمية مع إسرائيل، والاستفادة عسكريًا وتكنولوجيًا، أبدت حكومة مودي درجة من الالتزام ببعض المواقف العربية التقليدية، منها الاستمرار في الإشارة لمحمود عباس كرئيس لفلسطين، وليس السُلطة الفلسطينية كما تفعل دول أخرى، وزيارة وزيرة الخارجية الهندية لضريح ياسر عرفات في زيارتها لفلسطين، بالإضافة لتقديم عدد من أجهزة الكمبيوتر لمركز تكنولوجي تابع لجامعة القدس برام الله، أدى تَعَنُّت إسرائيل في تمريرها لبعض التوتر بين الجانبين20، وتصويت الهند لصالح رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة.
يخطو مودي خطوات حذرة، لكنه يظل عازمًا على رفع الستار أكثر عن العلاقات الرسمية، وإجرائها بصورة علنية أكثر من سابقيه، وهو ما ستكشفه زيارته المخطط لها هذا الصيف إلى تل أبيب21، ليصبح بذلك أول رئيس وزراء هندي تطأ أقدامه إسرائيل، تمامًا كما سيطأها هنود آخرون برحلات مباشرة على طيران الهند بدءًا من (مايو/أيار) الحالي طبقًا لاتفاق تم توقيعه مؤخرًا بين الطرفين يدشن ثلاث رحلات أسبوعية من الهند لإسرائيل22.
لعل الأسباب الأيديولوجية السابقة لحماسة نهرو وإنديرا تجاه العرب، وحيال مُعاداة إسرائيل، لم تعُد موجودة، في صفوف الكونغرس والقوميين الهندوس على السواء، لكن فتح الباب بين دلهي وتل أبيب على مصراعيه يظل شبه مستحيل هو الآخر كما يُدر
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة