كيف نحدد ما يثير اهتمامنا في الجنس الآخر؟
كتب داروين ذات مرة أنه(1) "من المستحيل أن نجد في عقل الإنسان أي قاعدة عامة تحدد جمال الجسد البشري"، لكن فيما يبدو -بشكل بيولوجي- أن ذلك غير صحيح، بالطبع يخضع الانجذاب بين الذكور والإناث من البشر لعدة معايير ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، وحتى سياسية تتدخل بقوة في تحديد العوامل الرئيسة لتفضيل شخص على آخر، لكن رغم ذلك يمكن للتاريخ التطوري للبشر قبل خمس وثمانين ألف سنة أن يعطينا وجهة نظر مختلفة ذات علاقة بالعوامل التي تقع في خلفية ذلك كله، فمن منظور تطوري يكون تمرير الجينات والحفاظ على النوع هو الهدف الرئيس للكائن الحي.
يؤدي ذلك بنا لفكرة مفادها أن البشر في مرحلة ما لا بد وأنهم قد امتلكوا أدوات تساعد في كشف الأصلح للتزاوج من الجنس الآخر، وبما أنهم كانوا غير قادرين بحال على استكشاف الخلل في تركيب الـ "دي إن أيه" (DNA) من عدمه، إذن ربما قد تمكنوا من خلق أدوات تمكنهم من رصد جودة المحتوى الجيني عبر السلوك والشكل الخارجي للطرف الآخر، وتلك هي نقطة انطلاقنا.
هنا، وقبل البداية، سنلخص بعض المعارف السابقة(2)، يحاول علم النفس التطوري أن يعطي إجابات ممكنة لأسئلة لن يستطيع غيره إعطاء إجابة عنها، ويستند هذا العلم بجانب قواعده الرئيسة المرتبطة بعلم النفس الإدراكي وعلوم الحوسبة على فكرة مفادها أن البشر قبل مئة ألف سنة تقريبا وقبل الانتقال من مناطق السافانا صعودا إلى الشمال استطاعوا وقتها تطوير وحدات -برامج- خاصة بنقاط إدراكية محددة، فهناك وحدة للغة، لكشف الغشاشين، للتعرف على الأحاجي في سياق اجتماعي، للمحاباة... إلخ.
لذلك يتصور متخصصو علم النفس التطوري أن هناك وحدة مشابهة لاختيار الأزواج، ومن المفترض أن تكون تلك هي وحدة ذات أهمية خاصة وقدرات دقيقة، ببساطة لأن التزاوج هو نقطة مفصلية في عملية تمرير جيناتك إلى نسلك، فنحن البشر كائنات تتزاوج جنسيا ويحتاج تمرير جيناتك لنسلك طرفا آخر من نفس النوع لكي ينجح، لذلك -من وجهة نظر الجين- يكون النجاح في التزاوج هو أكبر نجاح ممكن، بالتالي تتناسب دقة قدرتنا على الاختيار مع خطورة الموقف.
رادارات الجسد
خُذ مثلا فكرة تماثل جسم الطرف الآخر، أي أن يكون جانب الجسد الأيمن مساويا كصورة مرآة للجانب الأيسر، حيث لا بد وأن الأفراد الذين تتماثل أجسادهم هم أكثر جودة في المحتوى الجيني من هؤلاء غير المتماثلين، فهم أقل عرضة للتشوه والإصابات المختلفة، لذلك ربما طوّرت الإناث معايير دقيقة لتفضيل ذلك التماثل، هنا يمكن لنا اختبار تلك الفرضية، وهو ما حدث بالفعل.
على مدى أكثر من عشرين عاما عكف كل من راندي ثورنهيل (Randy Thornhill) عالم البيولوجيا من جامعة نيوميكسيكو وستيف غانغستيد (Steve Gangsteed) متخصص علم النفس من نفس الجامعة على دراسة تلك الفرضية(3)(4) المتعلقة بالتفضيلات الخاصة بالنساء تجاه تماثل جسد، وجه(5)، أقدام، أذني، ويدي الجنس الآخر، فإذا جاءت النتائج موافقة للتنبؤ أمكن أن نضع بعض الثقة في تلك الفرضية.
جاءت نتائج دراسات غانغستيد وثورنهيل لتشير إلى أن مجموعات المتطوّعات لم تفضل فقط تلك التماثلات الواضحة في الجسد وأجزائه، بل حتى في التصميمات ثلاثية البعد أعطت السيدات ترجيحا لجاذبية أكبر ناحية نماذج لذكور أكثر تماثلا، لكن لم يظهر التماثل واضحا بالعين المجردة في النماذج، بمعنى أن قدرة السيدات على إدراك التماثل أعلى من وعيها بذلك، بل أشارت الدراسات أن ذلك الانجذاب يحصل بشكل أفضل في مرحلة التبويض الخاصة بالأنثى.
من جهة أخرى يدخل للعبة التجريبية ديفندرا سينه (Devendra Singh) متخصص علم النفس بجامعة تكساس والذي طرح في أوائل التسعينيات فكرة خطيرة عن ارتباط(6) نسبة الخصر إلى الورك (Waist-hip ratio) في البشر بالانجذاب إلى الجنس الآخر، وتعني تلك النسبة مقياس محيط منطقة الخصر من الجسم إلى محيط منطقة الورك، كلما قل الرقم الخاص بتلك النسبة ازداد انحناء تلك المنطقة.
وتعطي القيمة 0.7 عند النساء "شكل الساعة الرملية" 0.9 عند الرجال لنسبة "الخصر إلى الورك" مؤشرا على حالة صحية جيدة، ووجد العلماء ارتباطا قويا بين تلك القيم والمستوى الجيد من الخصوبة، حيث إن النساء(7) بمقدار 0.7 يمتلكن نسبا مثالية من هرمون الإستروجين وهن أقل تعرضا لأمراض بخطورة السكّر، أمراض القلب والأوعية الدموية، وسرطان المبايض، بينما تمتلك النساء بقيم أكبر من 0.8 معدلات حمل أقل، أما في الرجال فتتفق القيمة 0.9 ودرجة صحة الرجل وتقل خلالها احتمالات إصابته بسرطانات الخصية والبروستاتا.
بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن قيمة "الخصر إلى الورك" هي معيار جسدي غاية في الدقة ذو علاقة بحالة الغدد التناسلية الخاصة بالفرد، بالإضافة إلى التأثيرات على مدى زمني واسع، حتى إن البنات ذوات القيمة المنخفضة من قيمة "الخصر إلى الورك" -مع ثبات عدد من المعايير الأخرى- تُظهر علامات مبكرة على نمو الغدد الصماء الخاصة بهرمونات الخصوبة كالـ (FSH) والـ (LH)، كذلك تبيّن أن كل انخفاض لقيمة "الخصر إلى الورك" بمقدار 0.1 ترفع من إمكانية حدوث الحمل بنسبة 30%، مع عدة معايير أخرى بالطبع.
بعد سينه استمرت أبحاث "الخصر إلى الورك" في التأكيد على انجذاب(8) الرجال للنساء بقيم محددة مما يؤكد زعم علم النفس التطوري بقدرة وحدة اختيار الأزواج على تفضيل الأكثر صحة وخصوبة، فالنساء الأكثر جاذبية هن كذلك أكثر خصوبة وقدرة على الحمل، وأصحاب أقل قدر ممكن من الاضطرابات الهرمونية، والجسدية أيضا، بذلك ربما ينجح تنبؤ علم النفس التطوري الخاص بوحدة اختيار الأزواج إلى الآن، حيث ما زالت هناك نقطة مهمة.
ماذا عن الغيرة؟
كان ما سبق مرتبط بتحديد التفضيلات ذات العلاقة بالخصوبة والصحة، لكن ما يهم أيضا هو -كما تحدثنا من قبل- قدرة الإناث على ملاحظة سلوك الذكور وقياس مدى التزامهم في العلاقات، فأطفال البشر يحتاجون لنوع خاص من التربية لأنهم غير قادرين على قضاء احتياجاتهم الأساسية لمدة طويلة، بذلك تسعى الأنثى دائما لعلاقات طويلة الأمد، لذلك فهي بحاجه لبعض الوقت كي تقرر إن كان من الممكن أن تستمر في تلك العلاقة أم لا، خلال تلك الفترة سوف تحاول قراءة أية إشارات تدل على إمكانية إقامة علاقة طويلة الأمد من الذكر، هنا يمكن أن نتأمل قليلا أعمال ديفيد بوس(9) (David M. Buss) أستاذ علم النفس بجامعة تكساس.
اعتمد بوس على أداة(10) تدعى (Sociosexual Orientation Inventory) استطلاع التوج الجنس-اجتماعي كان غانغستيد وسيمبسون(11) قد طوراها قبل ذلك لكشف ميول أي من الطرفين -الذكر والأنثى- ناحية نوع التزاوج الراغبين فيه، طويل أم قصير الأمد، تلك الأداة هي عبارة عن تسعة أسئلة تتدرج الإجابة لكل منهم في تسعة اختيارات بين 1"لا أوافق نهائيا" حتى 9"أوافق بشدة".
جاءت نتائج ديفيد بوس(12) لتشير إلى أن الأفراد من الذكور ذوي التوجه قصير الأمد فضلوا بشكل (أكبر/أجسام) نماذج النساء التي عرضت عليهم في صور الاختبارات بينما فضّل الرجال ذوو التوجه المتعلق بالزواج طويل الأمل وجوه النساء، كانت تلك إضافة جديدة حقا لمدى فهمنا لطبيعة تفضيلاتنا تجاه التزاوج، هناك فعلا من لا ينظر إلى الجسم، لأن الحب -كما قلنا في مقال سابق- من وجهة نظر تطورية "منفصل عن الجنس".
من جهة مقابلة أكدت دراسات ديفيد بوس أن تفضيلات النساء تميل إلى الرجال ذوي الموارد، فهن بالطبع أكثر ميلا للتزاوج طويل الأمد، وإن ظهرت بعض الحالات التي لا تنفي تفضيل بعضهن للتزاوج قصير الأمد لأسباب عدة، بالتالي فإن أي مظهر يعبر عن قدرة الذكر على كسب الموارد يؤكد صلاحيته للزواج بشكل أفضل، في تجارب بوس بالثمانينيات والتي اشتملت على 10000 حالة من ثقافات متعددة -ذكرت المتطوعات أنهن غير راغبات في ممارسة الجنس أو الزواج من رجل ذي حالة مادية منخفضة "ذي ملبس رث"، في المقابل فضلن رجلا يرتدي ملابس غالية الثمن.
أكد ذلك وجهة نظر علم النفس التطوري لتلك النقطة، كذلك امتدت دراسات ديفيد بوس لتشير إلى أن النساء تفضل الرجل كبير العمر لأنه الأكثر قدرة على توفير الموارد، فرغم كبر السن وانخفاض إنتاج الحيوانات المنوية عند الذكور لكن تظل قدرتهم على الإخصاب قائمة، مما ينحي هذا العامل جانبا ويضع عامل الموارد في المركز، في المقابل يفضل الرجال صغيرات العمر لأن التبويض يتوقف عن النساء في مرحلة ما بين الأربعين والخمسين، لذلك سوف يفضل الرجال نساء أكثر نعومة في الجلد، وانبساطا في العضلات، ولمعانا في الشعر، وامتلاء في الشفاة كمؤشرات لمستوى الحيوية المرتفع.
من تلك النقاط ينطلق ديفيد بوس لدراسة موضوع غاية في الأهمية، وهو الغيرة(13)، فتنبؤات علم النفس التطوري هنا تفترض أن الرجال سوف يكونون أكثر اهتماما بالخيانة الجنسية في مقابل الخيانة العاطفية، لأن الخيانة الجنسية سوف تتسبب في أنه قد يربي طفلا ليس ابنه وتلك كارثة بالمعايير التطورية، حيث سوف ينفق من موارده لتمرير جينات ليست جيناته، بينما في حالة خيانة الرجل لزوجته سوف تمثل تهديدا لها في أنه قد يحوّل جزءا من الموارد إلى امرأة أخرى، لكن الأكثر أهمية بالنسبة لها سوف يكون الخيانة العاطفية لأنها تمثّل بشكل أكبر التزامه بالاستمرار في دعم العلاقة، بالطبع جاءت نتائج الاستطلاعات لتؤكد صدق تنبؤ علم النفس التطوري.
في تلك المرحلة ربما يجب علينا أن نضيف عدة ملاحظات مهمة، فالنتائج التي نتحصّل عليها من بحثنا خلف علاقة ما نسميه بـ"وحدة اختيار الأزواج" والاستجابات البيولوجية في الجسم تحتوي دائما على مشكلتين رئيستين، الأولى هي دخول العامل البشري في الموضوع مع عدة عوامل أخرى متنوعة شديدة التعقد، مما يصعّب على الباحثين فرصة الحصول على نتائج دقيقة، عوامل مثلا كالحالة الاجتماعية، السمنة، التدخين، نظام الأكل اليومي... إلخ.
حصر جميع العوامل هو عادة أمر معقد، وتنوع الحالة البشرية وتعقدها أثناء الاستطلاعات هو أيضا كذلك، أضف لذلك أن بياناتنا في تلك الحالة -وهي المشكلة الثانية- تتخذ في كل الحالات طابعا إحصائيا، مما يعبر عن تداخل كبير في درجات الأفراد من الجنسين، بالطبع تكون المتوسطات ذات دلالات إحصائية، لكن لا يمكن لها أن تحكم على فرد بعينه، وبالطبع من المهم أن توضع تلك الأبحاث والإشارات المهمة محل اهتمامنا، لكنها لا تعطي أحكاما نهائية.
هل نحب حقا؟! يلجأ البعض للعلم كي يجيب عن هذا السؤال بــ لا، ليقول إنها فقط مجموعة من التفاعلات الكيميائية غاية في التعقيد لكنها تتسم جميعا بالتزامها الصارم بقواعد الكيمياء والبيولوجيا وعلم النفس التي تعلمناها في المرحلة الثانوية، لكن ما يؤكده العلم يقع عكس ذلك الاتجاه، نحن بالفعل قد تمكنّا من رصد بيولوجيا متعلقه بذلك، لكن التعقيد هنا لا يقود للحتمية، فالوعي البشري قادر على التحكم في تلك التفاعلات كما أنها قادرة على التأثير فيه، ذلك التأثير المتبادل هو سر التعقد الواضح في مشاعرنا، أجسادنا، وكل شيء في العالم.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة