الأفاعي البشرية.. كيف تتعامل مع شخص 'سام' في حياتك؟
''قد تمر حياتنا دون أن نعرف أننا قضيناها قرب أشخاص سامّين، وقد نكونُ محاطين بالكثير منهم. قد يكونون أقرب الناس إلينا. لكن من هم الأشخاص السامّون في المقام الأول؟ وكيف يمكن أن تتطابق سماتهم الشخصية إلى حد كبير حول العالم، هي أسئلة يجيب عنها التقرير التالي من مجلة "علم النفس اليوم".
نص المادة
كانت كريستين بوراث رياضية بارعة، تخرجت للتو من كلية "ديفيجن آي" عندما انتهى بها المطاف في وظيفة الأحلام، حيث عملت مُساعِدة في شركة رياضية عالمية في مشروع تدشين أكاديمية رياضية. لكن الحلم سرعان ما تبدد؛ فَرئيسها كان حسب وصفها ديكتاتورًا نرجسيا زاد على تنمّره وقاحته وتصرفاته الذميمة.
وقد انسحب اعتلاله على الطاقم فيما بعد. فتقول بوراث "فرّغ العديد منا إحباطاتهِ على الآخرين، مِن صراخ على الزملاء، وإلقاء الملاحظات الوضيعة على الزبائن، حتى الوصول إلى العجز عن التعامل بالطريقة التي يتعامل فيها أفراد فريق صالحون مع بعضهم بعضا". وأهلك بعضهم الشركة عمدا، بسرقة الأدوات والمعدات، وملء تقارير ساعات العمل بساعات لم يعملوا فيها قطّ، وإضافة نفقات العديد من الأغراض الشخصية إلى حسابات المصاريف التي يتكفل بها رئيس العمل.
ترسخ لدى بوراث إحساس بالاستنزاف من دناءة مكان العمل في غضون بضعة أشهر وحسب. وتضيف "إننا سرعان ما أصبحنا مجرد قشور عن ذواتنا السابقة". تخلت بوراث أخيرًا عن الوظيفة لصالح أحد منافسيها، لكن التجربة التي مرت بها خلّفت أثرًا لا يُمحى. فبعد حصولها على دكتوراه في إدارة الأعمال وأخرى في الإدارة التنظيمية، كرست العقدين الأخيرين لِدراسة السلوكيات المسيئة في مكان العمل.
تُواصِل بوراث، بصفتها أستاذةً مشارِكة في كلية الأعمال التجارية بجامعة جورج تاون، البحث في السلوكيات التي يمكن أن تسمم الأجواء في مكتب عمل، والتكاليف الباهظة المترتبة عن السلوكيات السامّة للأفراد ضمن المنظمات، وما يتطلبه تأسيس ثقافات تتيح للجميع الازدهار فيها.
وكما تورِد، فالسّلوك السام أمر شائع في بيئة العمل. وينبع في جزء منه، من الأنانية والقسوة التي يمكن أن تنبثق عن اضطرابات شخصية معينة للشخصية لا تتضاءل بسهولة لمجردّ مرور بعض الوقت. وتكون تدميرية بالذات في العلاقة البينذاتية المقربة.
لكن السلوك السام يُعتبَر مُنتجَ أنواعٍ معينة مِنَ البيئات، ابتداءً بالسخرية وانتهاءً بدفع الناس إلى التشكيك في دوافعهم الشخصية بالتلاعب بهم، لا سيما تلك البيئات التي تكون الإنتاجية فيها معيار النجاح الوحيد أو حيث يتخلل الأجواء غياب الثقة أو الشك، وبالأخص في تلك العلاقات الحميمة، حيث يسري انعدام الأمان أو القلق بكثافة.
تلعب الفترة الزمنية دورًا كذلك؛ فالفتراتُ التي يسودها الاضطراب الثقافي، والتقلب، وعدم اليقين تميل أيضا إلى إطلاق سلوكيات عدوانية تلعب على حبال خوف الآخرين. وسواءً ظهر في غرفة الاجتماع أو غرفة المعيشة، يُعرَف السلوك السام بذبذباتهِ. إنه يُفقِد الاستقرار ويُعرَف أثرهُ العاطفي السلبي على الفور. في اللكمة الأولى فإنه سيسبّب الارتباك، أما في الثانية فإنه سيُشعرنا بانتقاص عميق واستصغار.
إنه يستنفد طاقتنا. ويُعرف عندما يشعر المتضررون منه بالإعياء بسهولة دون القدرة على تحديد السبب. ولا يقتصر أذى السلوك السام على الناحية النفسية، إذ إنه ينال من أجسادنا أيضا. حيث يولد الضغط والإحباط عند الانتقاص الحاد من قيمتنا. ويُعزى الإرهاق العميق الذي يتسبب به عندما يُزعزِع استقرارنا، إلى كونه يدفعنا للتصديق، وإن كان للحظة، بأنه يعكس الطريقة التي يرانا بها كل الناس.
لكن كوننا بالقرب من سلوك سام، دون أن نُستهدَف بالضرورة، يبعث على الإعياء أيضا كما تورِد بوراث. فهو يتصل بالتوتر العصبي، والمرض القلبي الوعائي، والأرق، والمناعةِ المنخفضة، والإفراط في تناول الطعام. الأشخاص السامّون لا يؤذون الآخرين عاطفيا وحسب، إنهم أيضا خطر على الصحة.
وكما هو حال كل الظواهر السلبية، فإن له تأثيرًا كبيرًا على العقل حتى وإن شوهِد وحسب. إذ فور رؤية أحد الموظفين رئيسه في العمل يوبّخ موظفا آخر فإنه سرعان ما سيجد نفسه يكرر ذلك السلوك. وقد يتم توارث السلوك المسيء في العائلات من جيل لآخر كما يُتوارث لون الشعر. أما في العلاقات الشخصية يكون الأمر محبوكا بصورة أشد مكرًا ضمن أواصر الارتباط.
وقد تعاظم انتشار السلوك السام، على مدار العقدين الفائتين. حيث غذاه الاضطراب الثقافي وصاحبه ارتفاع عام في الوقاحة والجلافة. وأفصحت بوراث، في الإصدار الأخير من فصلية ماكينزي، أن نصف العمال الذين اُستطلعت آراؤهم في 1998 قالوا إنه قد تمت معاملتهم بأسلوب فظ على الأقل مرة شهريا. وبحلول عام 2016 قفز الرقم إلى 62%.
يقول أولئك المشاركون في الاستبيان إن مستوى البذاءة في السياسة الأميركية قد ارتفع إلى درجات قصوى، فيرى نحو 72٪ من الأميركيين ترمب همجيا
رويترز
وقد رصدت شركة الاتصالات العالمية "ويبر شاندويك"، منذ 2010، مستويات الذوق لدى الأميركيين لتجد أنها آخذة في التناقص. في (يناير/كانون الثاني) 2017، أورد تقرير لها بأن نسبة 69% من الأميركيين قالوا بأنهم يعتقدون أن الشعب الأميركي يعاني أزمة حادة في اللُطف مقابل 65% في 2010. وخلص الغالبية بأن اللوم الأكبر في ذلك يقع على السياسيين والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
وجد واحد من بين كل أربعة أميركيين أن الانتخابات الأميركية الأخيرة كانت سامّة بشكل غير مسبوق. بينما وجد 72٪ من الأميركيين دونالد ترمب همجيا -بمن فيهم غالبية من صوتوا له والذين بلغت نسبتهم 53%- . ويقول أولئك المشاركون في الاستبيان إن مستوى البذاءة في السياسة قد ارتفع إلى درجات قصوى، بحيث حال دون انضمام أُناسٍ صالحين إلى سلك الحياة العامة.
سواءً بدرَت أزمات السلوك السامّ عن طيش محض أو خبث تام، إلا أنها دائما ما تكون جزءا من الذخيرة الإنسانية. مهما كان عدد المرات التي وجدنا فيها أننا نمر بأوقات سامة، فإننا نظل مطالبين بمعرفة طريقة تعيين الدناءة وكيفية إحباطها. قد لا يكون التعامل مع الأشخاص السامّين بالأمر السهل، إلا أنه حاسم من أجل سعادتك والصالح العام.
أصناف السُمّية
لكن من هم الأشخاص السامون وأين يمكن أن نصادفهم؟ إنه رئيس العمل الذي لا يمنح فرصة للحوار، أو ذاك الذي ينشغل بحسابه على تويتر في اللحظة التي تبدأ الحديث فيها. أو الصديق الذي يبرّئ نفسه بملاحظة ساخرة على أنها اعتذار من قبيل "عذرا لأنني تأخرت عن موعِدنا، لكنني أعلم أنك لا تقوم بشيء في ساعات الظهيرة على أي حال". أو القريب الذي دائما ما يفسد بهجتك بعبارات مثل "أخبرتني أمي أنك قد نلت منصبًا مرموقا في أطلنطا، سيكون عليك اقتناء هواتف ذكية لأبنائك فقط لكي يتذكروا من تكون". أو الشريك الذي يفتضح عيوبك أمام الآخرين فقط لكي يؤنّبك بتهمة كونك مفرطَ الحساسية عند قولك إن الأمر مهين. أو الأبوين اللذين يؤدي تجاهلهُما لابنهما لأن يشعر بأنه غير مرئي ومن ثم عديم القيمة.
إلا أن الثابت عند الأشخاص السامّين، أنه مهما كانت الإهانة، أو الارتباك أو الجراح التي ألحقوها بك فإنه إما أن يكون ذنبك أنت وإما أنك تضخم الأمر. إنهم لا يتحمّلون بتاتًا مسؤولية تصرفاتهم. حتى أنهم قد يرون أنهم كانوا يحاولون تقديم العون. إن هذه المواجهات تعطل بشكل خفي الإحساس بقيمة الذات، لكن، إلى درجة تبدأ معها بالبحث عن سبل لتفادي تلك المواجهات مع الإساءات ومرتكبيها.
ويشير "ثيو فيلدزْمان"، رئيس وحدة علم النفس الصناعي وإدارة الأفراد في جامعة جوهانسبرغ، إلى أن ثمة نوعان من الخطايا، الأولى هي خطايا التجَنّي وقد لا تتجاوز التنمر؛ لكن إذلالها المتأصّل لاذع بطريقة مؤلمة، بالأخص إن وقعت الأحداث في حضور أناس آخرين، كَالتصريح الهمجي بتفاوت القوّة الذي ترسّخه، فالتّرويع إن كان مؤذيا على كل حال في اللحظة التي يقع فيها، إلا أنه يزرع أحاسيس الذعر على المدى البعيد. أو الإهانات الصريحة التي قد تدمر صورة المَرء المشرقة عن ذاته.
لكن التصرفات المُضمرة يمكن أن تكون سامة أيضا، بالأخص عند ارتكابها بشكل منتظم. فَترويج الشائعات خبيث على نحو خاص، لأن المرء لا يعرف نوع الأكاذيب التي تقال عنه، ولِمَن، أو من ذاك الذي يقوم بالأمر. وإلقاء اللوم على الآخرين، سم مضمر أيضا، لأنه يؤذي الأشخاص بمجرّد حشرهم في خانة الضعف الأخلاقي.
أما النوع الثاني، هي خطايا الاستغفال، كاستثناء زميل عمل أو فرد في العائلة من لقاء جماعي. أو تجاهل شخص بعينه -في اجتماع أو حدث اجتماعي- وهو ما قد يكون طريقة سامة لانتقادِ شخص دون أن يعلم أو تعلم ما ارتكَبوه بالضبط. ويميل الأشخاص السامّون إلى وضع مصلحتهم الشخصية قبل أي شخص آخر، سواء تم الأمر بالقسوة المفرطة، أو الاعتداء غير المقصود، أو السلبية العدوانية، أو أي سبب آخر. إنهم يرفضون -وفي بعض الحالات يعجزون عن- الأخذ بالاعتبار منظور شخص آخر أو حالته العاطفية.
لا يأبه السامّون بالاعتراف بسمّية سلوكهم مع الآخرين، إنهم يتغافلون عن مسألة تباين الحدود الشخصية من شخص لآخر، ويتجنبون الاعتراف بها عندما يرتكبون خطأ، وغير عازمين على التغيير.
يركز فِيلدزمان، في بحثه حول أثر الأفراد السامين في بيئات العمل، على القادة السامين. ويجدُ أنهم بارعون في التحليل النفسي بعدد من الطرق. إن لديهم تركيزا حادا، لا على مصلحتهم الشخصية وحسب وإنما على نقاط ضعف الآخرين أيضا. ويعرفون بالتبعية، كيف يضغطون على كل واحدةٍ منها للانتقاص من موظفيهم. لأن هذه القدرة هي إحدى عناصر مهارات النجاة التي شحَذوها خلال ترقّيهم في سلم العمل.
ويعزي فيلدزمَان ازدياد عدد القادة السامّين إلى ثقافة الفردانية المُطلقة. لكن السلوك السام يتفاقم عندما تعرّف المنظمات الكفاءة بالمهارات التقنية على حساب القيم الإنسانية.
يقول الخبراء إن الكثير من السلوك السامّ ظرفي؛ فثمة أولئك الذين تكون لديهم سمات شخصية من قبيل، جنون العظمة، العدائية، النرجسية، السّيكوباتية، والسادية اليومية يدفعهم للاعتداء على الآخرين بأنماط متعددة من السلبية. إنهم يجلبون الخراب معهم أينما حلوا وأيا كان الشخص الذي يخاطبهم. وهناك من هم على الطرف الآخر تمامًا، لا يعرفون سوى العطف والتعاطف. لكن غالبية الناس ما بين الاثنين، يخضعون لتأثير ما يحيطهم. إنهم لا يعتبرون السلوك السام تلقائيا، فهو أمر ينخرطون فيه إن كان الوضع العام مشجعا لذلك.
في العمل
يبدو أن لِنمط العمل في سنة 2017، القدرة على إخراج السموم الكامنة في نفوس الناس، كما تقول بوراث. لقد خضعت بيئة العمل على مدار العقدين الفائتين، إلى عملية تحوّل. فبينما كان الموظفون فيما مضى يعملون كل على حدا، إلا أنهم اليوم مضطرون للعمل في فرق وتعاونيات.
لذا يكون لدى الزملاء السامّين في الفِرق فرصة أكبر لإلحاق الضرر، الذي عادة ما يكون قابلا للقياس-بالمعنويات، أو الإنتاجية - وهو السبب الذي يقف وراء تركيز الأبحاث حول السلوكيات السامة على نطاق تأثيره في العمل. لكن السلوك السام هو ذاته أينما وقع؛ ذلك أن ما يحدث في نطاق العمل، وسبب حدوثه، ينسحب على نواح أخرى في الحياة.
تجد بوراث أن السلوك السام ينبثق مبدئيا عن حمولة الضغط النفسي الثقيلة التي يحملها الناس. إذ أجرت استطلاعا شمل آلاف الموظفين من مختلف الشركات، ووجدت أن "أكثر من 60% منهم يزعمون أن السبب في انعدام لطفهم هو شعورهم بالضغط النفسي أو الهزيمة". وتعزو الباحثة الكثير من الضغط النفسي إلى الارتفاع العام في التنافس العالمي الذي يرغم الشركات على إجراء تقليص حاد في الوقت المستقطع، بالإضافة إلى ما تعتبره، اعتمادًا مفرطا على التكنولوجيا التي قد تؤخر الموظفين في العمل حال إصابتها بالعطل.
تغذي التكنولوجيا السلوك السام أيضا، لأنها تخلق فرصا وافرة لسوء الفهم واللؤم في التواصل المكتوب، فتقول الباحثة "الإهانات أسهل بكثير عندما لا تكون وجها لوجه". علاوة على ذلك، فالتّواصل بمراسَلات البريد الإلكتروني خلال محادثة واحد لواحد أو لقاء الفريق، أو أي نوع من المهام المتعددة، قد يترك الموظفين -ناهيك عن شريك الحياة والأولاد- يشعرون بأنهم غير مسموعين، وغير مكتَرث بهم وفي رغبة لردّ الإساءة.
قد يكون لتنوّع القوى العاملة العديد من المزايا، لكن إحدى سيئاته أن جسر الاختلافات -العرقية، الثقافية، الجيلية - يتطلب جهدا جهيدا، ما يجعل من الإنجاز ضمن أجواء العمل أمرا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، فقد يتميز الأشخاص السامون في المنظمات إن حازوا على الخبرة في حقل بعينه، كما يقول ديلان ماينور، وهو أستاذ مساعد في كلية كيلوغ للإدارة بوحدة الاقتصادات الإدارية وعلوم القرار في جامعة نورثوسترن.
في الحقيقة، فإن أولئك الذين يمتازون بمهارات مميزة يميلون إلى الثقة المفرطة بأنّهم فوق المحاسبة على السلوك السيء، وفي دراساته، تبين له أن الثقة المفرطة بالذات، تكون مؤشرا على السُمّية إذا ما اقترنت بتفضيل الذات على الآخرين.
إن مشكلة السلوك السام في بيئة العمل أن آثاره لا تنحصر على الشخص المستهدف، فالجميع يعاني. ويُمايز ماينور بين الموظفين صعبي المراس وبين أولئك السامّين منهم. فكلاهما يسبب الأذى، لكن سلوك الشخص السام يمتدُّ إلى الآخرين. إنه ينتشر باطراد بسبب العدوى العاطفية. و"في وسع الناس التقاطه دون أن يشعروا بالأمر حتى" كما تقول بوراث. ويبدو ذلك سمة أساسية في السلوك الهمجي.
وسواء بادر إليه أفراد سامّون بالمطلق أو أولئك الذين تصدر عنهم سلوكيات سيئة يقودها الظرف الحالي وحسب، يمكن للسلوك السام أن يصبح على الفور أسلوبًا ثابتا في التعامل، كما يشير فيلدزمَان. ويكون رد الفعل إما رد الإساءة أو الاستنتاج بأنها الطريقة المثلى للتعامل في البيئات التي يلحظ فيها الناس العدوانية والوقاحة والتنمّر أو يكونون فيها طرائد بشكل منتظم للشخصِ المسيء.
"حث السلوك المنفر -من قبل الموظفين السامين- أفضل الموظفين على الرحيل. مهما كان الموظف السامُّ موهوبًا، إلا أنه يرتطم بالحضيض عندما تتكبد الشركة خسائر تجنيد وتدريب موظفين جدد"
يشار إلى أن 80% من بين 800 عامل من شركات مختلفة في استطلاع رأي أجرته بوراث ونشرته كلية هارفارد للأعمال التجارية، أنهم قضوا وقتا لا بأس به في وظائفهم قلقين بسبب شاهدةِ عداءٍ في مكان العمل، بينما أنفق 63% منهم الوقت في محاولة تجنب الشخص المُعتدي. وأضافت "إن الأثر الانفعالي على الآخرين في المنظمة امتد إلى أن تكون الإنتاجية -ناهيك عن سعادة واستقرار الموظف- عرضة عرقلة مستمرة".
وتورد بوراث أن للسلوك السام ضريبة إدراكية أيضا، حيث تقول "إنه يضعف الذاكرة، والتركيز على المعلومات. ويحدُّ من الإبداعية وقابلية الابتكار". وكنتيجة، يتناقص الإحساس بالرضا عن الوظيفة، وتتبخر المعنويات ويتضاءل الانخراط في العمل.
وقد يؤدي الأمر إلى عواقب وخيمة، إذ يحث السلوك المنفر أفضل الموظفين على الرحيل. مهما كان الموظف السامُّ موهوبًا، إلا أنه يرتطم بالحضيض عندما تتكبد الشركة خسائر تجنيد وتدريب موظفين جدد.
لذا يستحسن عدم توظيف الأشخاص السامين في المقام الأول. بالأخص عند النظر في ورقة بحثية ألفها ماينور مؤخرا لكلّية هارفارد للأعمال التجارية، تورد أن الشركات تدفع 12,500دولار سنويا تكاليف استقالة موظفين وتدريب آخرين جدد بسبب موظف سام واحد في الفريق، وهو أكثر مما قد تجنيه الشركة بكثير من توظيف شخص سامّ بارع.
الحب في زمن السُمّية
يكون الهدف في العمل عادة الابتعاد عن الأشخاص السامّين. لكننا نميل إلى احتوائهم في حياتنا الشخصية. ويحدث هذا في أكثر المرات التي نكون فيها نبحث عن الحب.
ولا يخفى أنَّ لدى الساميّن في العادة مزايا ساحرة، كالثقة بالنفس. لكن أقصى المتلاعبين منهم لا يكشفون عن طبيعتهم الأصيلة على الفور، حيث يلجؤون عوض ذلك إلى إلقاء فيض من المجاملات والاهتمام باستعراض عمومي للعاطفة، كإرسال باقة زهور خلابة إلى مكتبك، لإثارة إعجاب زملائك بقدر ما قد يريدون إثارة إعجابك أنت. ويكون ذلك بغرض كسب إعجاب وثقة شريك آخر محتمل.
ويضاف إلى الثقة سرعة التصرف، ففي الوقت الذي يبدؤون فيه بالتصرف بطريقة غريبة، كالمطالبةِ بأمور لا منطقية، سنكون قد تعلقنا بهم. كما تشير محللة علم النفس العصبي رواندا فريمان. ويصبح من الصعب النظر في تصرفاتهم بشكل موضوعي، وتزداد صعوبة الأمر كلما توغلوا أكثر في أرواحنا. لنصفحَ عن تجاوزاتهم من انتقادات لنا لا تعد ولا تحصى، ولومِنا على مشاكلهم الخاصة، وتجاهل حاجاتنا ومطالبنا، محاولين استيعاب سلوكياتهم السيئة أو تبريرها "إنه تحت ضغط هائل في الآونة الأخيرة" أو "إنها في صميمها شخص طيب لأقصى حد".
وقد نلقي باللوم على أنفسنا: "لا بد أنني متطلب جدا" أو "إنه محق، أنا محظوظة جدا لأنني في علاقة معه هو، من ذاك الذي كان ليتحملني سواه؟" وتقول فريمان أن هذه الديناميكية توقع في شراكها بالأخص أولئك الذين عانوا الإساءة العاطفية أو الجسدية على يد شخص من أفراد العائلة أثناء نشوئِهم.
كلما ازداد قُربنا من شخص سامّ، كلما ازدادت معرفته بنا، كلّما تعلقنا به أكثر، كلما رحبنا بهم إلى حياتنا، كلما كان الضرر الذي يلحقونه بِنا أكبر. حيث يكون في أيديهم معلومات أكبر عنّا تخولهم التلاعب بنا أو التعدي علينا. وتضيف فريمان، أننا طالما ارتبَطنا بشخص، فإننا نبذل قصارى جهدنا لئلا نخوض مشاعر الفقد الأليمة التي تترتب على الانفصال.
يتعين على الشركاء في العلاقة الحميمة التفاوض دائمًا على الخط الفاصل بين السيطرة والاهتمام. إذ تقع أشد السلوكيات تدميرية في العلاقة عندما يسيء الشريك متعمدا ومعتادًا استخدام الثقة لتجاوز الحد المسموح له بغرض السيطرة على الآخر. دائما ما يكون التلاعب إساءة استخدام للقوة، لكنّ تصادم النية الخبيثة لطرف بافتراض الطرف الآخر تقديرًا إيجابيا، له وقع خاص على الاستقرار.
أحد أعظم الأشكال المفضوحة للتلاعب الرومانسي هي "الاستهداف بالحب"، وهو بديل سوداوي للطف المفرط. أطلق هذا اللقب لأول مرة في السبعينيات وانتشر على يد القسيس صن ميونغ مون لكسب المتحولين إلى كنيسة التوحيد التي أنشأها. وقد عرّفته عالمة النفس المتوفاة مارغريت سانجر، والتي ذاع صيتها لعملها في كشف تكتيكات الطوائف الدينية الاستغلالية.
وكما أوردت في كتابها "بين ثنايا الطوائف الدينية"، فإن "الاستهداف بالحب -أو عرض الصحبة الفورية- هو خدعة احتيالية تسببت بالعديد من حملات التجنيد الناجحة للطوائف، فإِمطار المجندين في الطوائف الدينية بالألفاظ التّوددية المغرية"، يستعطف التواصل و"الاهتمام الكبير بكل ما يقوله أولئك المستهدِفون".
"وإن كان التلاعب لا يقتصر على العلاقات الرومانسية، إلا أن المعرفة المقربة التي يتشاركها الحبيبان تمكّنه من أن يكون أشد أنواع السلوكيات التدميرية سمِّية. فعندما تفقد ثقتك بنفسك، تفقد معها أيضا قبضتك على الحقيقة"
الاستهداف بالحب هو تودد مكثف، مملوء بالاهتمام يمهد الطريق لاشتراط مطالب قصوى دون عناء. ويسعى المستهدِفون فيه -إما لانعدام الأمان الداخلي لدى البعض، أو الطبيعة الاستغلالية لدى البعض الآخر- لإبقاء شريكهم لأنفسهم، معزولا عن الأصدقاء والعائلة والاستقلالية التامة، ليكونوا هم وحدهم محور الاهتمام. ويبدأ الانتقاص من قبل المستهدِف، عندما يعترض المستهدَف نهاية المطاف، أو يسأم الطرف المسيطِر من اللعبة. ليكون المستهدف بالنسبة للمستهدِف، الطرف المُلام دوما.
قد يتطلب المستهدف الكثيرَ من مناسبات الانتقاصِ والاقتناص إلى أن يستوعب الأمر أخيرا ويتجه إلى إنهاء العلاقة. وقد ينجذب بعض الناس إلى الوقوع في حب المُستهدِفين بشكل خاص. ويكون أشد الناس عرضة للوقوع ضحايا تقنّعات الحب أولئك الذين يفتقرون للإحساسِ بالثقة، أو يعتريهم الشك مما هُم عليه أو ما سيكونون عليه مستقبلًا، أو أولئك الذين لا يجدون مبررات كافية للحديث عن الأمر. ومثلما يختار سلوك التنمر أولئك الذين لا يدافعون عن أنفسهم، يمكن للمستهدِف أيضا رصد المشككين بأنفسهم.
أنواع التلاعب عديدة، لكن أخبثها قد يكون "إنارة مصباح الغاز"، وإن كان التلاعب لا يقتصر على العلاقات الرومانسية، إلا أن المعرفة المقربة التي يتشاركها الحبيبان تمكّنه من أن يكون أشد أنواع السلوكيات التدميرية سمِّية. فعندما تفقد ثقتك بنفسك، تفقد معها أيضا قبضتك على الحقيقة. يقول عالم النفس روبن شتيرن، وهو مدرب مساعد في مركز ييل للذكاء العاطفي ومؤلف كتاب "تأثير مصباح الغاز"، بأن "المحاولة المنظمة من قبل شخص إلغاء حقيقة الشخص الآخر -من خلال إخباره أن ما يمرّ به ليس ما يعتقده - والاستسلام التدريجي من قبل الطرف الآخر".
تتضمن إنارة مصباح الغاز دائمًا شخصا يحتاج إلى التحكم لكي يُحس بذاته وآخر "مستعد للخضوع، ويحتاج إلى علاقةٍ لكي يحس بذاته".
تنبثق عبارة "إنارة مصباح الغاز" عن مسرحية صدرت في 1938، بنفس العنوان (Gas Lighting)، لباتريك هاميلتون، وصورت كفيلم لاحقا من بطولة إنغريد بيرغمان. وفيها يقنع زوج زوجته بأن صوت وقع الأقدام الذي تسمعُه ليلا -والذي يكون صوته هو- ونور المصباح الباهت الذي تراه ليلا في المنزل -وهو المصباح الذي يحمله في بحثه السري عن كنوز مخبأة في العلية- هي من نسج مخيلتِها.
سرعان ما يصبح أولئك الخاضعين لتحريف الحقيقة من قبل شركائهم إلى التشكيك في معتقداتهم وتصوراتهم، فضلا عن رؤيتهم أنفسهم كشركاء سيئين لمجرد التشكيك في حكمة الطرف الآخر. ويضيف شتيرن أن مشغلي إنارة المصباح عادة ما يظهرون ثقة هائلة بأنفسهم، حالهم في ذلك حال الرؤساء السامّين في مكان العمل. وهو ما يمنحهم القوة الكافية للمهاتَرة في حكم شريكهم. يُبطل تكتيك إنارة مصباح الغاز بطبيعته غرائز الشجاعة والجسارة التي يمكن أن تلحظ زيغ الحقيقة. وينحو أصحابه إلى عزل الطرف الآخر عن الأفراد المحيطين به والذين يمكنهم مساعدته في الكشف عن القسوة المُرتكَبة أو التحقق من كل المزاعم الملفقة.
لماذا يتصرفون بهذه الطريقة؟
تقول فريمان أنه من الممكن للأشخاص السامّين الإقرار أحيانا إذا ما تم تنبيههم إلى ارتكاب سلوك غير مهايئ. لكن في الكثير من الأحيان، تكون المشكلة من وجهة نظرهم في الشخص الآخر.
قد يعاني البعض اضطرابات شخصية صريحة لا يستطيع غير المختصين التعرف إليها. ويُعرَف الأفراد السامّون بسِمة شخصية أو اثنتين -ومن بينها بوادر جنون العظمة، النّرجسية، السيكوباتية- التي تستوفي المعايير التشخيصية في علم الأمراض عندما تكون في أوجها. وتزعم فريمان -التي أنشأت وحدة تثقيفية على الويب تدعى "علماء الأعصاب" (Neuroscientists) لمساعدة الناس على التعافي من العلاقات السامة- أن مرتكبي السلوك السام يفتقرون إلى مهارة الضبط العاطفي، ويعجزون عن تنظيم كثافة تعبيراتهم بحيث تلائم نطاقا واسعا من الأوضاع.
في الظروف العادية، يحول الضبط العاطفي دون الانفجار إذا ما اختلف زميل في العمل معك في الرأي، فضلا عن أنه يمكنك من تلقي الانتقادات من قبل شريكك بصدر رحب. ويتم اكتساب هذه المزية خلال التطور المبكر بالتعرض لاستراتيجياتِ ضبط الهيجان العاطفي، لا سيما السلبي منه. وكما تشير فريمان "يتيح لنا الضبط العاطفي قبول التعرض للمساءلة على سلوكياتنا، والشّعور بالتعاطف، وأن نكون ناضجين".
وتلعب بعض العيوب في التعاطف دورًا. فالحساسيّة المفرطة إزاء آلام الآخرين قد تُولِّد لديهم المزيد من السلوكيات المؤذية كالتنمّر وتلك التلاعبيّة العدوانية كِإنارة مصباح الغاز.
تُظهر الدراسات أن أولئك الذين يستوفون معايير اضطراب الشخصية الحدية -ويظهر تقلبهم العاطفي عادةً على شكل فوران غاضب أو إيذاء ذاتي- يكشفون عن عيوب في الدوائر العصبية التي تتيح التعاطف. هي ذاتها العيوب التي تصعّب عليهم التفكير في عواقب تصرفاتهم.
من المعروف أن الدوائر العصبية مسؤولة عن جزء من المشكلة، كما هو الحال في غالبية السلوكيات. وعادة ما تضطلع التنشئة في الأمر. حيث تشير وفرة من الأبحاث إلى أن استراتيجيات التربية تسهم في "استجابة الزناد"، التي تجعل بعض الناس ينفجرون غضبا. وتؤثر الطريقة التي يساعد فيها الوالدِان أبناءَهم الرضع والأكبر قليلا بالعمر في إدارة السلوكيات السلبية العارمة بشكل مباشر على مهارات ضبط العاطفة طيلة العمر. ويبقى أن نرى إذا ما كانت التصرفات السامة الموجودة سلفًا ستستمرّ في المستقبل.
البزّة الواقية النفسية
لعل الطريقة الأفضل لحماية نفسك من السلوك السام تكمن في قطع أي تواصل مع الأشخاص الذين يطلقون ذاك السلوك أو التخفيف منه. لكن هذا الأمر قلما يكون ممكنا ناهيك عن أن يكون عمليا. لذا سيكون من الجيد تزويد نفسك بعدد من المهارات الأساسية، وتقع جميعها في مربع إدارة الذات.
اضبط ظهورك
إن أهم ما يمكنك القيام به هو تقليص التواصل. إن كنت تعمل بالقرب من شخص سام، اطلب من مديرك في العمل تعديل المكاتب. إياك والجلوس قرب شخص سامّ، إنه معدٍ بحسب ديلان ماينور من كلية كيلوغ للإدارة. وإن كنت تعمل مع فريق فيه شخص سام، اطلب تحويلك إلى مشروع آخر؛ إن تعذر الأمر فاطلب من مديرك أن يعمل زميلك السامّ أكثر من المنزل، أو على الأقل أن يطلب اجتماعات فريق أقل.
إن كان رئيسك شخصًا سامًّا، فقم بالحد من المدة الزمنية التي تقضيها معه أو معها وحاول التقرب من آخرين قد يستمعون إليك في المنظمة. وإن تعذر القيام بشيء، فابدأ بالبحث عن وظيفة أخرى. إن لم يكن ذلك خيارا واردًا، فاطلب أن يشرف عليكَ شخص آخر.
وإن كانت لديك سلطة التوظيف، تعلم كيف تستفسر من المرشحين عن علامات الكفاءة العاطفية، وأوضح نظم التعامل منذ البداية، كما تقول الباحثة كريستين بوراث.
أما إن كان الشخص السام شريك حياتك، أو شريك حياة سابق لديك أطفال معه، فإنك غالبا ما ستكون بحاجة مساعدة أخصائي سلامة نفسية لتوجيه العلاقة، كما تنصح عالمة النفس رواندا فريمان.
اضبط استجابتك
إليكم مصدر السيطرة الأكبر؛ إذ يقول روبن شتيرن من جامعة ييل، إن من المهم، رسم حدود حاسمة. الرفض عندما تبدو المطالب غير منطقية من جهتك، دون الحاجة للتبرير. وتحضير عدد من الجمل القصيرة الجيدة للحظة التي يلومك فيها الشخص السام أو يتنمّر عليك كالقول "لن أستمر في هذه الملاحظات ما دمت ستنبذني"، أو "سأكون سعيدا لمناقشة هذا معك عندما تهدأ".
"قم برصد أولئك السامين المحتملين، حدد المزايا الشخصية التي تعذي السُمّية وتجاهلهم قبل أن يكون هناك أي احتكاك"
ويوصي شتيرن بتدوين ملاحظات حول شعورك قبل، وأثناء، وعقب كل تفاعل سام بهدف الصفاء من السموم. القيام بهذا الأمر سيساعدك على إبقاء الحادثة هامشية. بالإضافة إلى أهمية تقوية الأواصر مع الأصدقاء والآخرين الذين تثق بهم. لا سيما إن كان الشخص السام شريك حياتك؛ فالعلاقاتُ مع أشخاص يعاملونك باحترام تستطيع تخليصك من الضغط وتساعدك على دوزنة منظورك الجديد. وقد يعزز اتفاقهم مع وجهة نظرك من تقديرك لذاتك ويجابه الانعزال المفروض عليك من الشخص السام.
جد أنشطة تأخذك من الشخص السام أو البيئة السامّة. شارك في ناد للكتاب، أو التحق بصفوف الطهو. لأنك ستكتسب أيضا حسا أفضل بموقعك من هذا العالم.
لا تبرر
تجنب محاولة تفسير قراراتك؛ فالشخص السامُّ يرفض أن يصغي على كل حال. والمحاولات لن تفعل شيئا سوى إحباطك. لذا سيكون من الأفضل القول "إنني آسف لكنني منشغل الآن" أو "لا أستطيع القيام بذلك الآن". لا تعرض أي توضيح للآخر.
حَصِّن نفسك
قم برصد أولئك السامّين المحتملين وتجاهلهم قبل أن يكون هناك أي احتكاك. حدِّد المزايا الشخصية التي تغذّي السُمّية. كَمَلِكات الدراما؛ أولئك الذين يثيرون الشك أو لديهم عدوانية ملحوظة وأولئك الذين لا يُظهرون اهتماما كبيرا بمشاعر الآخرين.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة