الهوس بالنظافة قد يصنف كمرض
تخيل أنك مُغطى بالجراثيم التي يُمكن أن تقتلك في كل مرة تعود فيها إلى المنزل بعد تواجدك في الأماكن العامة. وقبل الاستحمام، تشعر أنه ينبغي عليك الدخول إلى المنزل بعد التخلص من أي شيء قد لامس العالم الخارجي. يُعبر ذلك عن واقع حياة المصابين باضطراب الوسواس القهري والتي يُمكن أن تكون مُرهقة، ومختلفة تمامًا عما يعنيه الناس عادةً عندما يُشيرون إلى أنفسهم على أنهم مصابون بالقليل من "اضطراب الوسواس القهري".
ومن المثير للقلق بشكلٍ خاصٍ أن نرى الأطفال والمراهقين الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري، والذي غالبًا ما يكون مزمنًا، وعادةً ما يستمر حتى مرحلة البلوغ. ولقد اكتشفنا الآن أن إصابة صغار السن باضطراب الوسواس القهري تؤثر في الواقع بشكلٍ كبيرٍ على كل من الذاكرة والقدرة على التعلم.
يؤثر اضطراب الوسواس القهري على ما يقرب من 2-3 في المئة من الناس في مرحلة ما من حياتهم، وينطوي على القيام ببعض التصرفات الطقوسية (الشعائرية) مثل التدقيق باستمرار في الأمور، ووضع الأشياء وفق ترتيب معين أو غسل اليدين مرارًا وتكرارًا. وقد يساعد ذلك في تخفيف الأفكار الدخيلة أو الاقتحامية على المدى القصير، مثل الهوس بجعل الأشياء دائمًا في الوضع الصحيح أو الخوف الشديد من الأوساخ أو التلوث. ويمكن أن تؤدي هذه الحالة في بعض المرضى إلى عدم قدرتهم على تناول الطعام أو مغادرة المنزل أو بطرق أخرى يستمرون في ممارسة حياتهم اليومية، ولكن كثيرًا ما يقودهم ذلك للانعزال والاكتئاب.
ومن السهل أن نرى كيف يُمكن أن تكون أعراض اضطراب الوسواس القهري مُزعجةً ومُحرجةً عندما يبدأ الطفل في الذهاب إلى المدرسة. ويُمكن للتدقيق الاعتيادي المتكرر أن يؤخر إلى حدٍ كبيرٍ من مقدار الوقت اللازم لإكمال الواجبات في المدرسة أو في المنزل. وحتى الأشياء التي من المفترض أن تكون مُمتعة، مثل اللعب مع الأصدقاء، قد تصبح مُجهدةً إذا كنت قلقًا باستمرار من أن تتسخ قليلًا أو كنت خائفًا من لمس أدوات اللعب في الأماكن العامة.
يواجه ما يقرب من 90 في المئة من الأطفال والمراهقين الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري، مشاكل في المدرسة أو المنزل أو المجتمع - وتُعتبر الصعوبات في أداء الواجبات المنزلية والتركيز أكثر المشاكل شيوعًا.
الذاكرة والتعلم
في دراسة أجريناها حديثًا، نشرت في مجلة الطب النفسي (Psychological Medicine)، طلبنا من مجموعة مكونة من 36 مراهقًا مصابين باضطراب الوسواس القهري ومجموعة المقارنة المكونة من 36 مراهقًا مُعافًا، استكمال مهمتين لاختبار الذاكرة وقياس القدرة على التعلم والمرونة المعرفية. أظهر المراهقون المصابون باضطراب الوسواس القهري ضعف كبير في كل من القدرة على التعلم والذاكرة.
كما طُلب من المشاركين استكمال مهمة لتقييم القدرة على "السيطرة على الأهداف الموجهة"، وهي تلك القدرة التي تُساعدنا على أن نكون مرنين في تفكيرنا وفي حلولنا للمشاكل. إذ تسمح لنا العادات بأن نقوم تلقائيًا بالتصرفات التي لا تتطلب التخطيط أو التنظيم، مثل عملية تغيير السرعات أثناء قيادة السيارة. غير أنه، عندما توجد معلومات هامة جديدة أو تغييرات سريعة في البيئة، نعتمد على قدرة السيطرة على الأهداف الموجهة بدلًا من ذلك. ومرة أخرى، أظهر المراهقون المصابون باضطراب الوسواس القهري ضعفًا كبيرًا في هذه القدرة.
ويدعم ذلك التصوير العصبي للمرضى الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري الذي أظهر زيادة النشاط فيما يُعرف بالدوائر العصبية القشرية المهادية في المخ والمعروفة باسم " cortico-striato-thalamo-cortical circuits " والتي يُعتقد أنها تشارك في القدرة على السيطرة.
وللأسف، فإن المشاكل التي حددناها قد تؤدي إلى إصابة الطفل بالتوتر والقلق، والمعروف بالفعل بأنها تعزز من السلوك الاعتيادي الذي يُعتبر شائعًا بدرجة كبيرة لدى المرضى المصابين باضطراب الوسواس القهري، الأمر الذي يؤدي إلى التدهور السريع لحالتهم. ومن المعروف أيضًا أن الإجهاد يُضعف الذاكرة. ونعلم أن مستويات الهرمونات التي تسبب التوتر تزداد عندما يلتحق الأطفال بالمدارس.
بل ما هو أكثر من ذلك، أن وجود مشاكل في القدرة على التعلم وضعف الذاكرة في مرحلة الطفولة يُمكن أن يقلل من الثقة بالنفس ويؤثر على تقدير الذات، الأمر الذي يرتبط بدوره بأعراض اضطراب الوسواس القهري، ولا سيما التحقق والتدقيق. في حين يختلف اضطراب الوسواس القهري قليلًا في البالغين عن الأطفال والمراهقين، وجدنا أن حتى البالغين المصابين باضطراب الوسواس القهري لديهم مشاكل في الانتباه.
خيارات العلاج
نحن ندرك أن مشاكل الذاكرة يُمكن أن تؤثر على فعالية العلاج النفسي بما في ذلك العلاج السلوكي المعرفي، والذي يُعتبر في الوقت الحالي أفضل وسيلة لعلاج الوسواس القهري. والذي ينطوي على تغيير الطريقة التي تُفكر بها وتتصرف من خلالها في خطوات صغيرة. ومع ذلك، إذا كان هذا لا يُخفف بشكلٍ كافٍ من الأعراض، يُمكن أن يقدم تناول نوع من مضادات الاكتئاب المعروفة باسم (مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية) بعض المساعدة.
في الواقع، يمكن أن تساهم معالجة مشاكل التعلم والذاكرة أيضًا في تحسين الأداء المدرسي، فضلًا عن الثقة بالنفس. وقد أظهرنا مؤخرًا أن التدريب المعرفي باستخدام لعبة على جهاز آي باد يُمكن أن يُحسن مشاكل الذاكرة لدى المرضى المصابون بالفصام. ومع ذلك، هناك حاجة إلى دراسات مستقبلية لتحديد العلاقة الدقيقة بين مشاكل الذاكرة المرتبطة بمرض اضطراب الوسواس القهري وتلك الأعراض.
ولكن ماذا يُمكن أن تقدم المدارس فعليًا لمساعدة الطلاب الذين يعانون من الوسواس القهري؟ تعاونت آنا كونواي موريس، وهي استشارية في الطب النفسي في كامبريدجشاير المعروفة بـ (مقاطعة كامبردج) ومؤلفة مساعدة في الدراسة، مؤخرًا مع المدارس لدعم المراهقين المصابين باضطراب الوسواس القهري.
ووجدت أن الأطفال الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري غالبًا ما يكتبون ببطء شديد أو يحاولون تصحيح بعض الأخطاء (لمجرد إتمامها بطريقة صحيحة). ولذا ينبغي قياس مقدار سرعة الكتابة اليدوية لديهم، وإذا لزم الأمر، ينبغي منحهم وقتًا إضافيًا في الامتحانات أو الواجبات المدرسية. ويرتبط الوسواس القهري أيضًا بانخفاض سرعة فهم ومعالجة الأشياء - مما يعني أنه ينبغي إعطاء الأطفال مزيدًا من الوقت للإجابة عن الأسئلة شفهيًا. وغالبًا ما يجدون أنفسهم عاجزين عند القيام ببعض المهام (الواجبات) وقد يحتاجون إلى بعض المساعدة للانتقال إلى المهمة التالية.
وينبغي التأكيد على أن الأطفال الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري يُمكن أن يكونوا أيضًا متفوقين بصورة كبيرة إذا قدم لهم الدعم اللازم للتغلب على أعراض الوسواس القهري. كما يُعد العلاج في المراحل المبكرة للحالة في غاية الأهمية. وكثيرًا ما تتحسن حالة المصابين باضطراب الوسواس القهري في مرحلة البلوغ، وحتى أولئك الذين لم يؤدوا بصورة جيدة في المدرسة غالبًا ما يكونون أحسن حالًا في مرحلة الجامعة حال حصولهم على الدعم المناسب.
وهذا يعني أنه إذا تمكنا من توعية المعلمين بتلك المشاكل المتعلقة بالقدرة على التعلم وضعف الذاكرة، فبإمكانهم مساعدة الطلاب المصابين باضطراب الوسواس القهري لتحقيق أقصى إمكانياتهم في التعلم. ومع الأسف، يستغرق تشخيص المصابين باضطراب الوسواس القهري -في الوقت الحاضر- 11 عامًا في المتوسط، ويبدأ العلاج بعد ذلك. من يمكن أن يجد ذلك مقبولًا في الأمراض العضوية مثل أمراض القلب أو السرطان؟ كمجتمع، نحن بحاجة إلى الاهتمام بالصحة النفسية كما نهتم بصحتنا البدنية (الجسدية.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة