الروهينغيا.... جرحٌ ينزف
أسندتُ رأسي إلى مقعد الطائرة عائدةً إلى لبنان بعد مهمَّة إغاثية دامت عشرة أيام في مخيَّمات اللاجئين الروهينغيا في المناطق الحدودية بين ميانمار (بورما) وبنغلادش. أتأمَّل باسترخاء التلال الخضراء تبتعد عن عينيَّ من نافذة الطائرة، وخلف هذه الروابي الساحرة لبنغلادش الكثير من المشاهد المُوجعة التي هزَّتني بعنف. هناك تكمن المأساة الإنسانية بكامل مشهدها الدَّامي... والطبيعة الخلَّابة مغلَّفة بجرح عميق وأجواء قاتمة، بينما الصمت المُميت للأُمَّة يخيِّم بضجيجه عليهم.
في رحاب الفضاء الأبيض، أغمضتُ عينيَّ وعدتُ إلى هناك حيث يتواجد أكثر من مليون لاجىء من الروهينغيا.. هُم أكثر من مجرَّد أرقام تضيفها وكالة الأمم المتحدة إلى سجل إحصاءاتها للمنكوبين حول العالم.. هُم خفقات قلوب أعياها الظلم والاضطهاد.. هُم أطفال اغتيلت براءتهم.. هُم جراح تنزف وعيون تستنجد بنا جميعاً.
عدتُ بذاكرتي إلى النهر الذي وصلتُ إليه بعد أن ابتلع المئات من الروهينغيا خلال رحلة لجوئهم، كنتُ على مسافة قريبة جداً من بورما.. رغم الهدوء الذي يعمُّ المكان، إلَّا أنني شعرتُ باستغاثة المحاصرين في بورما يستنجدون العالم لإنقاذهم من المذابح في بلادهم.
كلما ابتعدتُ أكثر؛ كلما أدمع قلبي بخفقات مجنونة. عالم الروهينغيا هو عالم خارج العالم.. عالم حزين يحوي الكثير من الحكايات المُوجعة.. لا أزال أسمع صراخ النسوة يُنجبن أطفالهن في الخيم، ولا أحد يعلم إن بقيت الأم ومولودها على قيد الحياة.. كلّ يوم يدفنون العشرات! فالحزن منثور في كافة زوايا المخيم.سمعتُ الكثير عن معاناة الروهينغيا.. وشاهدتُ عشرات التقارير المتلفزة.. لكنَّ الواقع مغاير تماماً.. أتعرفون ماذا هناك؟؟ هل تعرفون معنى الموت في الحياة؟ هل تعرفون معنى أن تجدوا أطفالكم يموتون جوعاً ولا تستطيعون فعل أيّ شيء؟ هناك آلاف العيون الموجوعة تبحث عن إيواء وغذاء ودواء... بل تستغيث من أجل الحياة!
بينما أنظر إلى الأُفق البعيد، تحضر أمامي صورة المرأة المُسنَّة التي تمسَّكت بي بقوَّة.. لا أزال أشعر بارتعاش يديها.. كم كانت دافئة وطيِّبة! آهات أوجاعها اختنقت بين الدموع الحارقة.. فالفرح تلاشى من قلبها عند فقدان أولادها الأربعة في بورما.. كم هو مُوجع هذا الحنين في عينيها!
أمَّا الطفلة نور... آهٍ من تلك النظرة الحزينة في عُمق عينيها.. تلاحقني بوجهها الصغير وأنفها الأَبيِّ.. تتنقل بين الخيم باحثةً عن والدتها.. طفلة الخمس سنوات أصغر من أن تفهم أن والديها قُتلا في بورما.
قبل سفري أغدقني أصدقائي بالكثير من النصائح: لا تقتربي منهم وإلَّا ستصابين بالجَرَب... لا تدعيهم يلمسونك، فالملاريا لن ترحمك.. ابقي على مسافة بعيدة عنهم.. قد يسببون لكِ الأذى لأنَّهم شعب غاضب بسبب تجاهل العالم لمأساتهم! لكن عندما التقت عيناي بعيونهم.. رميتُ كلَّ التحذيرات... حضنتُ الأطفال.. قبَّلتُ أيادي المسنين وواسيتُ المرضى بقبلة على الجبين..
رغم المأساة التي أحاطتني على مدى عشرة أيام، إلَّا أنني عشتُ مع الأطفال لحظات من الفرح.. ما أجمل ابتساماتهم وما أعذب ضحكاتهم! هؤلاء الأطفال لم تتفتَّح أعينهم إلَّا على الغيوم القاتمة التي اغتالت براءتهم.. لم يعرفوا فرح الصغار ومشاغباتهم.. وُلدوا كباراً بهمومهم ومعاناتهم..
حطَّتِ الطائرة على أرض بيروت.. وتركتُ قلبي هناك وعيناي ترتعشان بالدمع الساخن.. لا يزالون بحاجة إليّ... ولا أزال بحاجة إليهم!
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة