سرطان الذل والظلم!
تمدّد السرطان في جسد الدولة ووصل إلى عظامها، ولم يعد الأمل بالشفاء ممكنا، فالدولة ماتت سريريا وسياسيا واقتصاديا، وظلت على شفا حفرة من الموت اجتماعيا.. وحده المجتمع لا يزال يكابد ليحافظ على أنفاسه الأخيرة على الأقل.. أخلاقيا. مات الدماغ ولم يتبق سوى دقات قلب الجسد تصارع من أجل الاستمرار، فالسرطان قد تمرغ في كافة الأعضاء ونهش في كل الأجزاء، فلم يُبق ولم يَستبقِ.
تَلَفتْ كل الأجهزة الحساسة وتناقلتها أيدي الفاسدين، باعوا واشتروا فيها حتى صار الدم يلفُظها ولا يكاد يتعرف عليها، فمالُها مسروق وميزانيتها مهدورة، وتحكم فيها عشرات الأشخاص المعروفين والمعدودين على أصابع اليد.. وأصابع اليد مربوطة بمغذيات لا تنفع الجسد إلا قليلا. لا يؤمن الباحثون بعلاجات الكيماوي لهذا السرطان، فهو يعود بسرعة أشد مما يتخيلون، ولم تستطع الدولة التخلص منه بالأدوية ولا بالعلاجات الإشعاعية والهرمونية، فأسبابه أقوى من كل الأدوية، وسيطرته على الجسد شديدة بحيث يصعب استئصاله.
مؤخرا، وبعد عدة دراسات وأبحاثٍ شديدة الحساسية لآلاف من المرضى، اكتشفوا نوعين جديدين من السرطان: سرطان الذل وسرطان الظلم، نوعان يهاجمان الجسد معا.. سرعة انتشارهما تبدأ في الأعصاب فتنهكها وتقضي على إرادة الشعب بأي مقاومة لهما، فيعيش الشعب على أقل القليل وهو صامت ساكن، يعيش هجمات المرض بصمت وألم شديد وشعور بالقهر والعجز. وفي آخر دراسة اتضح أن مرضى سرطانات الذل والظلم قليلا ما ينفع العلاج لحالاتهم، ولا تستجيب أجسادهم للأدوية التي يصرفها الأطباء وتكلف الدولة تأمينات صحية باهظة، ولا يموتون بسرعة أو بمدة معينة يستطيع طبيب الحالة تحديدها مثلا، بل يبقون على معاناتهم سنوات طويلة بعضها يستمر لأكثر من 30 عاما، والبعض الآخر ينتقل من مرحلة إلى أخرى أشد ذلا ومهانة وقمعا من المرحلة التي قبلها.
في بلاد "المسخّمين" أبت الأيدي الخفية إلا أن يتحول مرضى السرطان إلى مستشفى "الأشقياء"، رغم معرفتهم بأن العلاج فيه ضرب من المأساة وازدياد في الهوان والذل والقهر
وقد سجلت حالات أثناء هذه الدراسة لمرضى تنقلوا من مرحلة الحكم البيروقراطي إلى الحكم الفاشي، فالسرطان له تكوينات تنتقل عبر فايروسٍ أب يعطي حالته إلى ابنه ويورثه ويعطيه نفس الصلاحيات، بل ويزيد عليها ليعيث في الجسد فسادا وظلما ويسمح للأعضاء الفاسدة بالنهب والسلب والتخريب واستنفاذ كافة الصلاحيات المنوطة بهم وبمصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية.
لم يستطع الأطباء أن يصنفوا سرطاني الذل والظلم إلا ضمن أمراض الأمة، فهو حينما يصيب الأمة لا تشفى منه إلا بقدرة قادر، ولا يدري أحد متى ستموت خلاياه السرطانية ومتى تتوقف عن النمو.. فلا ثورة نفعت وعالجته ولا استطاعت مقاومة سلمية أن تجلب العلاج المطلوب، ولا حروب آتت أكلها وخرجت بنتائج ترضي الجسد وتجمع شمله وترد أنفاسه، فقد تكالب كل الظالمين على ذلك الجسد وزادوه ذلا وقهرا وقمعا وقتلا وتشريدا وقصفا ولجوءا وتجويعا، ولم يبق هناك أملٌ بأي شفاء.. هكذا يقول الأطباء.
وفي بلاد "المُسخّمين" تفاقمت حالة سرطان الذل والظلم، وازدادت صعوبة العلاج وصارت أكثر تعقيدا، وانتشرت الأورام في أنحاء عديدة من الجسد، ووصلت الأحوال النفسية للمرضى إلى مضاعفات كبيرة بعد أن أوقفت الحكومة الرشيدة تأميناتهم في المستشفى الذي عولجوا فيه لسنوات، وعرف فيه كل الأطباء حالاتهم ودرسوها وخبروها وعرفوا أي الأدوية التي تخفف عنهم الآلام وتنسيهم، وأبت الأيدي الخفية إلا أن يتحولوا إلى مستشفى "الأشقياء" ليستكملوا العلاج فيه، رغم معرفتهم التامة بأن العلاج فيه ضرب من المأساة وازدياد في الهوان والذل والقهر.
ففي مستشفيات "البؤساء" التي تعالج الأمراض العادية بصعوبة، لا يفهمون خصوصية مرض السرطان، ولا يدركون صعوبة التعامل مع مرضاه، ولا يهتمون بتهيئة الأجواء المطلوبة للإلمام بحالته، فأي دواء سيصرفه الطبيب الذي لا يعرف الحالة؟ وفي أي سرير مُهترئ ستبدأ العلاجات الدقيقة الصعبة؟ وفي أي عُرف من أعراف الإنسانية صار المريض ذليلا مظلوما محروما من العلاج في وطنه وسكنه؟
_______________________________________________________
* من وحي خبر إيقاف علاج 1400 مريض سرطان في مركز الحسين للسرطان بالأردن، وتحويلهم إلى مستشفيات حكومية غير متخصصة.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة