باحث ومهتم بالفلسفة والادب والاجتماع والسينما، وصانع أفلام قصيرة.
'الفاشونيستا الإسلامي'.. الموضة بما لا يخالف شرع الله!
على طريقة التريند (trend) التي تصيب رياحه مواقع التواصل الاجتماعي كل فترة، كان الأمر هذه المرة يتعلق بصور فوتوغرافية عالية الجودة وهي ما تُسمى بجلسات التصوير أو "photo session"، تظهر بها فتاة منتقبة ترتدي أزياء ذات ألوان زاهية مثل الوردي والأزرق الفاتح والأحمر القاني نشرها المصور الفوتوغرافي "حسام عاطف" الشهير بـ"أنتيكا" عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك (Facebook).
الأمر الذي أثار عاصفة من الجدل والتعليقات بين المدح والذم والتشجيع والسخرية، لكن الأمر تحول إلى جدال ساخن وقضية تشغل جزءا كبيرا من مساحات مواقع التواصل الاجتماعي عندما انتشرت صورة أخرى لمنتقبة تعزف على آلة الكمان الموسيقية، حيث اشتعلت حرب من التعليقات والصياح والجدل المتبادل بين الآراء الاجتماعية والفقهية وحتى النفسية والسياسية.
وفي أول تعليق قالت "بسنت خليل" (17 سنة) بطلة جلسة التصوير: "كل اللي قادرة أقوله إني ما أسأتش للنقاب زي ما بيقولوا، وإني مش بلعب بيه، وهو مش لعبة، وأنا عارفة كده كويس وعارفة إن له احترامه، بس أنا ما عملتش حاجة من دي". أما المصور الفوتوغرافي صاحب واقعة الكمان فقال ردا على الانتقادات الموجهة إليه بتصوير منتقبة تعزف الكمان داخل المسجد: "الجلسة تمت خارج مسجد "الحاكم بأمر الله" بالقاهرة، والفتاة لا تجيد عزف الكمان ولم تستخدم الآلة، إلا أنني اقترحت التصوير بها لإيصال رسالة أن ارتداء النقاب لا يمنع الفتيات من الاستمتاع بحياتهن، وليس لهذا الزي أي علاقة بالسياسة".
بيد أن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فجزء كبير من الفتيات والفتيان من ذوي التوجه الإسلامي أصبحوا يتبعون موضة الأزياء العالمية ويواكبون العصر وينخرطون في مجتمعات ودوائر لم يدخلوها من قبل، بل أصبح بعضهم يحيا حياة النجوم، ويرتدي أزياء النجوم، ويشتري الماركات العالمية، بعد أن تخلوا تماما عن القيم القديمة المتعلقة بالزهد وترك الدنيا وطلب الآخرة والتقصد في شراء الملابس وتوفير الأموال لشيء نافع. فما الذي حدث؟ وكيف ظهر كل هؤلاء النجوم الملتزمين وعارضات الأزياء المحتشمات؟
نضال تحوّل إلى تاريخ
طرح المؤرخ والمفكر نيل فرغسون في كتابه "الحضارة: كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق والغرب؟" تساؤلا عن الأزياء حول العالم فقال: "لكني أتساءل، ما الشيء المميز في أزيائنا الذي يجعل الشعوب الأخرى غير قادرة على مقاومتها؟ هل ارتداء ملابس تماثل ملابسنا يتعلق بالرغبة في أن يكونوا مثلنا؟ يبدو واضحا أن الأمر يتجاوز الملابس فقط، إنه يتعلق باعتناق تراث شعبي ممتد من الموسيقى والأفلام وحتى الجينز والأزياء".
لكن هل الأمر حقا كما يصفه فرغسون أن العالم كله يرغب في تقليد الأزياء الغربية سواء لتمثيلها نوعا من الحرية، حرية اختيار الأزياء، أو بسبب انتشار وتضخم تجارة الأزياء حول العالم لأغراض رأسمالية. يعود فرغسون ليجادل بشأن هذا الأمر فيقول إن هناك ثقافات مختلفة عن الثقافة الغربية ما زالت تطرح أزياءها الخاصة، لكنها تطرحها بما يناسب الإطار الغربي أيضا.
في شوارع إسطنبول المدينة العالمية "وهي المدينة التي أَلِفَت شوارعها كل أنواع بهارج الحضارة الغربية منذ وقت طويل. ويكفي المرء أن يجول في طريق السوق الرئيسية، أي في شارع الاستقلال حتى يرى كل ما هو مألوف في عالم البحر المتوسط. لكن إذا جال المرء في مناطق أخرى في المدينة ذاتها، أي في منطقة الفاتح قرب السلطان أحمد على سبيل المثال، فسوف تبدو الأمور مختلفة تماما، حيث يعد المؤمنون من الإسلاميين الأزياء النسائية السائدة في الغرب غير مقبولة أبدا بالنسبة إليهم، وذلك لأنها تكشف من جسم المرأة أكثر مما يسمح به دينهم، ويفسر هذا عودة الأزياء الإسلامية مثل وشاح الرأس، والنقاب أو الخمار، والعباءة السوداء التي تغطي الجسم كله". (3)
كتب فرغسون تلك الكلمات ليقول إن ذلك "يمثل تغييرا رئيسيا في الاتجاه الذي تسير إليه تركيا التي استبعد حكامها الملابس الإسلامية وفرضوا الأزياء الغربية على الأتراك، أما الحكومة العسكرية العلمانية التي وصلت إلى الحكم في العام 1982 فقد أعادت إحياء تلك السياسة ومنعت الطالبات من ارتداء الحجاب في الجامعات. ولم يطبق هذا الحظر بحزم إلا بعد العام 1997، أي عندما أعلنت المحكمة الدستورية أن ارتداء الحجاب في الأماكن التعليمية يخالف المادة الثانية من الدستور الذي يقدس السمة العلمانية للجمهورية التركية".
لكن عندما استدعت سلطات الجامعات والمدارس شرطة مكافحة الشغب لتطبيق هذا الحكم غرقت البلاد في أزمة، "فقد تجمع نحو 140000 شخص في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1998 للاحتجاج على الحظر، وعمدوا إلى شبك أيديهم بعضها ببعض مكونين بذلك سلسلة بشرية في أكثر من خمس عشرة محافظة. أما في إسطنبول فقد فضّلت آلاف الفتيات عدم حضور صفوفهن بدلا من نزع حجابهن، كما أن بعضهن أقام سهرات ليلية خارج بوابات مدارسهن. وشهدت التظاهرة التي جرت في جامعة إينونو في شرق الأناضول بعض العنف الذي أدى إلى إلقاء القبض على 200 من المحتجات".
كما أقدمت بعض الشابات في مدينة كارز على الانتحار بسبب تلك القضية، (3) "هذا في حين أن القاضي الذي أقر قرار الحظر قُتل في المحكمة في شهر مايو/أيار من العام 2006". الأمر الذي دعا الكاتب والروائي أوهان باموك لأن يكتب: "هل سيتخذ الغرب، الذي يحترم بجدية اختراعاته العظيمة وديموقراطيته أكثر من كلام الله، ضد هذا الانقلاب الذي وضع حدا للديموقراطية في كارز أي موقف؟ أم علينا أن نستنتج أن الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان هي أمور لا أهمية لها، وأن كل ما يريده الغرب من بقية العالم هو أن يقلده مثل القرود؟ أيمكن للغرب تحمل أي ديموقراطية يتوصل إليها أعداؤه الذين لا يشبهونه بأي حال من الأحوال؟".
قبل تلك الحادثة بثلاث سنوات تسلمت حكومة رجب طيب أردوغان الحكم في عام 2003 وقد أقدمت على تعديل الدستور بغية السماح للفتيات المحجبات بدخول الجامعات، وذلك في عام 2008، وهو ما فتح الباب لرجال الاقتصاد ذوي التوجه الإسلامي الذين سيتوسعون في إنتاج وتجارة الأزياء الإسلامية المحتشمة لمنافسة الأزياء الغربية.
الاستهلاك الإسلامي المحتشم
قبل ذلك، وفي عام 1990 تجمع مجموعة من رجال الأعمال ذوي التوجه الإسلامي تحت اسم "الموصياد" اتحاد رجال الأعمال والصناعيين المستقلين الذي تأسس كاتحاد مقابل للتجمع العلماني الممثل في جمعية رجال الأعمال "توصياد"، حيث كان "الموصياد" عبارة عن مجموعة من رجال الأعمال الأتراك المنتمين إلى منطقة هضبة الأناضول معقل الطبقة المتوسطة والملتزمة والمحافظة أخلاقيا، وقد تكونت هذه المجموعة برعاية نجم الدين أربكان وشارك في إنشائها تلميذه رجب طيب أردوغان وبعض من زملائه ممن أصبحوا وزراء في حكومته بعد ذلك.
لكن هذا التحرك الاقتصادي لتلك المجموعة من رجال الأعمال ذوي التوجه الإسلامي سيفتح الباب على شكل جديد من صناعة الأزياء، وسيُحدث تغييرا كبيرا وشاملا في شكل الأزياء الإسلامية والتي سيقوم هؤلاء الرجال بتصديرها للبلاد العربية، ولأول مرة ستظهر الأزياء المحتشمة المواكبة للموضة العالمية. حيث سينتج عن الترابط بين واقع تركيا العلماني واندماجها في اقتصاد السوق من جهة، وتحركها الجديد تجاه البلاد العربية والإسلامية وظهور نخبة إسلامية تؤسس فضاء إعلاميا جديدا داخلها من جهة أخرى، تحولا في التفضيلات الشخصية وشكلا جديدا من الأزياء الإسلامية تحاول التوفيق بين مسألة التأكيد على الهوية وبين الانفتاح على الواقع الثقافي العالمي.
في تلك الأثناء، كان الجيل الأول من الحجاب يمثل "علاقة وثيقة مع تجربة الإسلام السياسي، ولم يكن الحجاب حينها استجابة لطلب السوق، فالنقاب الصارم والنماذج التي تُخفي الوجه كانت هي المهيمنة على أشكال حشمة المرأة، وهو شكل يقترن بالميل إلى حالة من التزمت لم تكن مشتركة لدى جميع النساء"، لكن سينتقل الأمر سريعا إلى الشكل الجديد والذي سيكون أكثر احترافية "حيث ستستولي مبادئ التسويق والأرباح على منطق تصنيع الأزياء، مع التخفيف من الاهتمام بإصلاح النفس مقابل تلبية رغباتها".
ويوضح باتريك هايني اعتمادا على مشاهدات ميدانية أن التجربة المصرية تطابق هذا المسار، "حيث لم يعد الحجاب رمزا للأسلمة"، وبالقرب من ضفاف النيل يمكن لأي شخص أن يرى متجر "فلاش، وهو أكبر متجر عصري لملابس المحجبات الجاهزة في القاهرة، حين يحاول استيعاب المرجعيات المتعددة التي يحويها، حيث يوجد حجاب أنيق على نموذج (فياي فرانس) وبجواره على نفس الرف شكل آخر من الحجاب على منوال قبعة (جافروش) وفي مكان آخر غطاء للرأس لامع ومزين أحيانا بحبات الخرز".
وسواء أكان الحجاب مستوردا من تركيا، أو مستوحى من الأوشحة التقليدية الباكستانية والإيرانية، "فإن قوانين ألوان الموسم التي يصدرها مصممو الأزياء في باريس أو تورينو هي المعتمدة دائما"، ويوضح الباحث باتريك هايني في كتابه "إسلام السوق" أن الأسماء التي تظهر في لافتات المتاجر ككلمات (فلاش - لامور) ليست مستوحاة من الخيال السلفي، ورغم أن هذه المتاجر تستمد علة وجودها من ارتداء الحجاب أساسا، فإنها ترتبط مباشرة بالمعايير العالمية التي تحكم موضة الأزياء النسوية، سواء كانت محجبة أم لا. ومن أنقرة إلى القاهرة تغير الحشمة اتجاها جغرافيا بحيث يبدو أن الإسلام في الغرب لن يتأخر عن الركب. لكن مع انتشار هذه الأزياء الإسلامية الجديدة والتي تواكب الموضة العالمية كيف استجاب لها الشباب الملتزم؟ وهل تخلوا عن قيمهم القديمة؟
نضال جديد أم بحث عن التفرد؟
في حوار مع عدد من الشباب عن موضوع الموضة أبدى بعضهم استياءهم من الأشكال الجديدة للموضة حتى لو كانت للمحجبات، فيما أن البعض الآخر انحاز إلى كونها حرية شخصية وشكلا من أشكال التفرد والتميز، فيقول هشام (27 سنة): "لو كنت فتاة لاخترت إحدى الطريقين، إما أن أتبع الموضة بحذافيرها، وإما أن ألتزم في طريقة لباسي، لا وجود لحل وسط، لأننا في هذه الحالة نحصل على ما يمكن تسميته بالدارجة "شلاطة"، يعني تشوه يجمع بين الموضة والالتزام". أما بثينة فتقول: "أظن أن هذه الملابس مستجدة وتزيل الروتين عن الحجاب، فيبدو شبابيا أكثر و"كول"، وأعتقد أنه حان الوقت للرقي بهذا النوع من اللباس".
وعن بصمات اللباس الإسلامي في الموضة الأوروبية تقول ماهيكا التي تعيش في باريس وتبلغ 24 عاما: "إتش آند إم وكل المتاجر الفرنسية أخذت خطوط أزيائنا". فهي ترى أن التأثير الإسلامي يظهر أيضا في الاتجاه الحالي لارتداء الأثواب على سراويل الجينز وارتداء أكثر من طبقة من الملبوسات النسائية. لكن ما يعتبره بعضهم تأثير موضتهم وطريقة لباسهم في البلدان الأوروبية التي يقطنون بها تنفيه جهات أخرى. لذا قالت المتحدثة باسم شركة "هينيس آند موريتس" إن مجموعات أزياء الموسم الحالي لم تستلهم خطوط الأزياء الإسلامية على وجه خاص.
أما سعاد فتربط سبب اختيار هذا الأسلوب بالحرية الشخصية، قائلة: "كل شخص حر فيما يرتديه، فلا أحب أن يكون الحجاب شيئا تقليديا. أحب أن أظهر جمالي وأنوثتي، وأحب أن أظهر الحجاب في أبهى حلة". (8) حيث يمثل عالم "الفاشونيستا الإسلامية" شكلا جديدا من أشكال النجومية والبطولة تعيشها فتيات ينشرن صور أزيائهن وقصص نجاحهن، بل ينشرن كل شيء وكل موقف يتعلق بحياتهن الشخصية كما لو أنهن يفرضن أنفسهن كشخصيات عامة مثالية، أو مناضلات في غمار الحياة يجب أن تسمع آراءهم.
وهو الأمر الذي يوضحه البروفيسور كارين باين، من جامعة هيرتفوردشاير، عن أثر ارتداء الملابس والأزياء على الشخصية، حيث يضرب مثلا بقميص الرجل الخارق أو "سوبر مان" فيقول: "عندما يرتدي الطلاب قميص سوبر مان فإنهم يصنفون أنفسهم باعتبارهم محبوبين بشكل أكبر ومتفوقين على بقية الطلاب، فالطلاب الذين يرتدون قميص سوبر مان يشعرون أنهم أقوى من زملائهم".
لكن الأمر لم يتوقف عند الشعور، بل تطور إلى الأداء، فخلال اختبار للقدرات العقلية سجل المشاركون الذين يرتدون قمصان "سوبر مان" نسبة 72% في المتوسط، في حين أن من يرتدون قمصان عادية سجلوا 64% فقط، ويصف "باين" ذلك التأثير بـ "الانطباع الأولي" حيث تتأثر عملياتنا الذهنية وتصوراتنا من خلال استلهام المعنى الرمزي لملابسنا، وفي دراسة أجريت عام 2012 في جامعة نورث وسترن، أجرى الباحثون ثلاث تجارب للكشف عن آثار الملابس على الأداء، وقد أخبروا بعض المشاركين أن المعاطف البيضاء المقدمة لهم كانت تخص معاطف أطباء، بينما أخبروا البعض الآخر أن المعاطف البيضاء المقدمة لهم معاطف رسامين، ووجد الباحثون أن أداء المجموعة يرتفع عندما يرتدون معاطف يظنون أنها لأطباء.
وهو الأمر نفسه الذي يحدث مع الشباب "الملتزم"، والذي أصبح يهتم جدا بأناقة الزي أكثر من تعبير ذلك الزي عن قيمة الاحتشام المرتبطة بإخفاء الأنوثة أو الجمال أو المفاتن، وهو ما عبرت عنه بسنت خليل بطلة جلسة التصوير بالنقاب عندما قالت: "أنا كنت منتقبة ولظروف حصلت قلعته، وبعدها بنات كتير زعلت وقالت لي إحنا كنا بنتقوى بيكي وأنتِ قلعتيه، فحبيت أثبتهم وأشجعهم مش أكتر، مش قصدي أعمل فتنة ولا أي حاجة من دي، وفوجئت بالهجوم عليا، والناس تقول إني نامصة وإني لابسة "جيبة جيل" وراسمة عينى، وأنا معملتش أي حاجة من دي".
يوضح الباحث الراحل حسام تمام ذلك الأمر عندما يؤكد في كتابه "تحولات الإخوان المسلمين" أن الإسلاميين انتقلوا من "حقبة الحلم" -كما يسميها تمام- التي كان الشباب الملتزم تستغرقه فيها روح زهد وتقشف وانصراف عن زينة الدنيا ومتاعها، "وكانت روح الجد حد الصرامة والتجهّم سمتًا يعرفون به، حتى في أوقات الفرح والسرور كانت تستغرقهم حالة الصرامة، فيستحضرون وصية الإمام الشهيد حسن البنا التي تقول: "لا تكثر من الضحك فإن الأمة المجاهدة لا تعرف المزاح" إلى حالة أخرى تغير فيها النموذج الذي يلهب "الشاب الإخواني/الإسلامي" من نموذج "رهبان بالليل فرسان بالنهار" الذين كانت تتغنى لهم الأنشودة الإخوانية: "إذا جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا"! إلى نموذج "الجنتلمان الإسلامي" الذي يرتدي أبهى الحلل ويقتني أفخم السيارات ويعتلي أهم المناصب ولكنه يسخّر ذلك كله في سبيل الله!".
ففي هذه الحالة الجديدة "لم تعد الدنيا دار الابتلاء والشرور، ولم تعد "جحيم المؤمن" أو مجرد "شجرة" يستظل بها ثم يغادرها إلى الآخرة، بل صارت مرغوبة ومقصودة، والنجاح فيها معيار للإيمان الديني ومؤشر على النجاح في الآخرة، إنه عضو إسلامي راغب في الدنيا بعد أن كان راغبا عنها، همّه أن يبني ذاته ويتعلم إدارتها ليستعد لمواجهة متطلبات الحياة أكثر مما يستعد لسؤال الآخرة، فحظه في الدنيا هو عنوان حظه من الآخرة، ولديه من التراث ما يدعم رؤيته الجديدة، فالمشروع الإسلامي يقوم به أمثال عثمان بن عفان والزبير بن العوام -رمزا لليسر والغنى- وليس أهل الصُفّة من فقراء المهاجرين!".
الملابس وتبدل الثقافة
كان هذا الانفتاح للشباب الملتزم على الثقافة العالمية والتي وفرت له الأزياء المحتشمة بشكلها الذي يبرز المفاتن، وألوانها الزاهية، ليس فقط شكلا جديدا وعصريا من الأزياء، بل أطلقت صافرة السباق بين الأزياء، حتى بات الآن من الصعب أن يكون أحد خارج دائرة الموضة، ويوضح الفيلسوف جيل ليبوفيتسكي ذلك حين يقول: "حين أصبحت جميع الأطوال والاتساعات مسموحة وتعددت الأساليب، وعندما بات التبادل ممكنا، بات من الصعب أن تكون خارج الموضة... وبما أننا لم نعد نسخر من زي الآخر، ولم نعد نضحك على الثياب ذات الموديلات القديمة، ها هو ذا تيار تهدئة للموضة التي تشكل جزءا من التسامح المتزايد للأخلاقيات. إنها الموضة المرنة"
لكن ليبوفيسكي يذهب أبعد من ذلك بكثير، حيث يوضح أن ظاهرة الموضة بكل أشكالها وتمظهراتها تعبر عن تشويه للمقدس وللقيم جميعا فيقول: "إن الإعلاء من ممارسات الطيش وموضة الأزياء لا يمكن أن يتفعل إلا بسبب فرض معايير جديدة تشوه التقديس البطولي للأخلاق وتعاليم المسيحية التقليدية التي تعتبر الطيش من علامات الخطيئة الكبرى، ولا ينفصل ذلك عن ضياع الشعور التدريجي بالقيم البطولية وبالأخلاق الدينية، فإعلاء الموضة يعني انتصار التمتع الشخصي وانتصار ذوق الغواية على المجد"
حين تجعل الموضة من النساء مجردَ سلع، وشكلا موحدا مشوها من الجمال الحديث الذي تنتمي معاييره إلى بيوت الأزياء في أوروبا وأميركا، ويتحكم بتلك المعايير مصممون طائشو الأهواء، يشوهون الجمال الإنساني فيجعلونه نمطا واحدا، فيختفي جوهر الإنسان وحقيقته وإنسانيته تحت ركام من الملابس اللامعة وطبقات من المساحيق الملونة، حين يؤكد ليبوفيسكي أن الموضة تسحق الإنسان وتلغي قيمته وتجعله شيئا ملحقا بمجموعة من الماركات التجارية.
حيث "ينبع التقديس الحديث للموضة من هذا الانتقاص لفكرة القيم الإنسانية رغم كونها أحد مظاهره، إن الولع بالسعادة والبحث عما هو جميل، والتطلع لحياة أكثر حرية وأكثر سعادة وأكثر سهولة، وبدلا من الشكل المتعارف عليه في الجمال يحتفي النموذج الجديد الفرداني بتشويه قيم الجمال والإعلاء من قيم الغواية".
وهكذا يستمر الجدل حول الأزياء الإسلامية الجديدة أو ما يطلق عليها "موضة الاحتشام أو موضة المحجبات" حيث يذهب فريق إلى أنها تعبر عن الثقافة والقيم الإسلامية داخل الساحة العالمية، ويقف له بالمرصاد فريق آخر يرى أن هذه الأشكال الجديدة من الأزياء تبتعد عن قيم الاحتشام في الإسلام وتُعلي من قيم الغواية والتقليد الغربي، بيد أن هؤلاء وهؤلاء لا يستطيعون الخروج من دائرة الأزياء العصرية الحالية والتي تطرحها الشركات العالمية المتحكمة في الأسواق حول العالم.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
جزاكم الله خيرا للنشر .. ما الذي يريد الكاتب أن يوصله بالضبط ؟! غلب على ظني أنه ينتقد ذلك .. أظن الأنسب أنه يبين ما هو الصواب برأيه . هل يعقل أن يكتب كاتبٌ هكذا الأفكار فكرة من هنا وفكرة من هناك ويحشر آراء متضاربة كحال البرامج السياسية في قنوات الرأي والرأي الآخر ..؟ لعل الكاتب أراد خيرا ، لكني أرى والله أعلم أن هذا الأسلوب يُضيّع الفكرة المقصودة ، ويَضيع القارئ بين الحروف فلا يعرف هدف الكاتب البتّة .