البدايات المتواضعة.. كيف تصعد من الصفر إلى المليار؟
من أكثر الأمور المثيرة للدهشة تلك الحالة الدائمة لانبهار الناس بفكـرة "البدايات المتواضعة" واعتبارها خرقاً للطبيـعة أو شيئاً استثنائياً، أو دليلا على عبقـرية الأشخاص الذين وصلوا إلى مرتبة مرموقة، بعد أن كانوا يوماً من الأيام في مرحلة الصفـر..
مفهوم البداية المتواضعـة في حد ذاته ليس مفهوماً خارقاً للمعتاد على الإطلاق، بل هو الأساس في كل شيء في الوجود.. الكون الهائل المحيط بنا والذي يصل قطـره المنظور إلى قرابة الـ 90 مليار سنة ضوئية، كان في الواقع مجرد مفرّدة (Singularity) لا تكاد تُذكر أصلاً.. الشجرة العملاقة كانت في يوم ما مجرّد بذرة صغيرة، الشيخ الكبير الهرم كـان في لحظة ما مجرّد حيوان منوي يسعى ليصل إلى البويضة..
البداية المتواضعة ليست أمراً طارئاً أو شاذاً، بل هي أساس قانون الوجود نفسه.. أن تبدأ من الصفــر، هذا ليس أمراً جديداً أو مدهشاً أو جيداً أو مأساويا، بقدر ما هو متسق مع طبيعـة الحياة ذاتها.. وهذا القانون ينطبق تماماً على عالم الأعمال، كأي شيء آخر.. الكثيرون جداً ممن تراهم تقـرأ عنهم طوال الوقت بدأوا من الصفر.. والصفر هنا يأخذ أشكـالاً عديدة.. إما صفر مالي، أو صفــر في التعليم أو صفـر في الوضع الاجتماعي.. أو صفر في كل ما سبق..
فيليكس دينيس.. كمثال
جاء إلى الدنيا ليجد نفسه في أسرة غير مستقرة نهائياً، شديدة الفقر.. منذ لحظة مولده، تركه أبوه برفقة أمه، فنشأ في بيئة شديدة العشوائية والفقـر في ضواحي لندن، وأصبح من الـ (هيبز).، شاب طويل الشعر يفترش الطرقات، ولا يكف عن شرب الخمـر، والاستدانة من أصدقاءه..
وكان يعيش في بيت متواضع جدا، كان دائماً - كما يحكي في سيرته الذاتية - يُقطع عنه الغاز والكهرباء لعدم سداده الفواتير.. لدرجة أنه كان يستخدم قطع من الخشب الذي يكسر من أثاث منزله المتهالك أساساً، للتدفئة في شهور الشتاء! باختصار، نموذج للفشـل تجسّد في شكل إنسان سكّيـر طويل الشعر لا يُتصوّر أن يكون له أي مستقبل على الإطلاق.
ومع ظروفه السيئة، اضطر الفتــى للبحث عن وظيفة، فبدأ حياته العمليــة في تسويق المجلات، ولاحظ في نفسه قدرة كبيرة على إقناع الآخرين، ومن ثم انتقل بأجور زهيدة للعمـل في شركات بوسترات دعائية، وتوزيع مجالات. إلى أن جاء الوقت، في بداية السبيعنات، أن قرر العمــل على مشــروعه الخاص في نفس المجال الذي تشرّب خبرته فيه، وهو نشر وإصدار المجلات الورقيـة، فقرر إنشاء دار نشــر صغيــرة باسم (دينيس)..
ومن خلال هذه المحطة، قام بإطـلاق مجلته المميزة (The Week) التي أصبحت بمـرور الوقت واحدة من أشـر المجلات العالمية الثقافية المتنوّعة، وأصبحت تستضيف مقالات وكتّاب وحوارات مميــزة، جعلها من أفضل مجلات العالم، ومن أكثرها شهــرة حتى الآن..
ومع توسّع انتشار المجلة، قام (فيليكس دينيس) بالدخــول في الاستثمار في العديد من المشــروعات الثقافية، واستطــاع فتح فروع للمجلــة في كافة أنحاء العالم بكل اللغات، حتى أصبح من أثرى أثرياء بريطانيا في بداية الألفية.. البداية كانت فتى هيبز ضائع.. والنهاية (توفّى في العام 2014) كانت بثـروة تتجاوز الـ 400 مليون دولار.
ماذا عن سليمان الراجحي؟
ولد في البكيرية إحدى مدن (القصيم) لأسرة سعودية بسيطة للغاية، انتقلت إلى الرياض طلباً للرزق في عهــد ما قبل النفــط.. كانت الأمور صعبة لدرجة أن سليمـان لم يكمل تعليمه، وبدأ وهو ابن 10 سنوات في بيع الكيـروسين.. ثم عمل حمّــالاً للأمتعة، ثم كنّـاساً، فقهــوجياً.. ثم عمل في بيع (الطائرات الورقية)، ثم انتهى به الحال للعمـل كطبّاخ في أحد المطاعم.
هذه الأعمال منذ سن صغيرة جعلته يملك مبلغ من المال استطاع أن يفتتح به محل صغير للبقالة.. بمرور الوقت، ومع بدء تدفق النفط، وتطور حركة المواصلات، لاحظ أن الحجيج دائماً يسعون إلى الصرافات لتغيير العمـلات أثناء أداء الحج والعمرة، فقام بالدخول إلى هذا المجال ببيع وشراء العملات مع الحجاج في مكة وجدة، وكان يقوم بحمل الطرود والأمانات على ظهـره لمسافة 10 كيلومترات ليوصل إلى المطار، موفّراً أجرة الحمـل والنقل! كانت هذه (البدايات) الأولى، لميـلاد (مصـرف الراجحي) الذي ظهـر على شكل متجر صغير لتحويل العمـلات.. ثم وصل إلى ما هو عليه الآن كواحد من أشهر وأكبر المصـارف المالية في السعودية والخليج، ومن أشهرها إقليمياً وعالمياً أيضاً، يدير أصولاً مليارية ضخمة، ويعمل به آلاف الموظفين، ويشرف على آلاف المشروعات التنموية والخيرية.
أما عن الثـروة التي جناها نفس الشخص الذي بدأ حياته كبائع كيروسين وحمّال أمتعة وكنّـاس وقهوجي، فتقدر قيمتها في السنوات الأخيرة بما يزيد عن 7.5 مليار دولار، ومكانة دائمة في قائمة الفوربس لأغنى أغنياء العرب. بدأ من (تحت الصفـر) بغيـر إرادته.. وعاد إلى الصفـر مرة أخرى، ولكن بإرادته هذه المرة.. لأنه قام بالتنـازل عن كافة ثــروته للأعمال الخيـرية وهو - حتى لحظة كتابة هذه السطور - في الخامسة والتسعين من العمـر..
هاري وين.. أن تبدأ مع القمامة
بدأ حياته بمشاكل أسرية طاحنة، جعلته يترك تعليمه، ويعمل وهو ابن 15 سنة كسائق سيارات، وعامل في محطة وقود.. التحق بالجيش، ثم خرج منه ليعمـل في كل وظيفة متواضعة يمكن أن تأتي في ذهنك، حتى استقر في وظيفة مسئول مبيعات لشركة جمع قمامة.
ونجح في هذه الوظيفة تحديداً نجاحاً جيداً، فقـرر أن يشتري سيارة جمع قمامة (مستعملة)، ويقوم بتأسيس شركة صغيرة قوامها هذه السيارة.. بمرور الوقت، استطـاع أن يشتري سيارة أخرى، ثم ثالثة ثم رابعة.. ثم قام بدمج شركته مع أحد أقربـائه، وطرح أسهمها في البورصة.. ثم انتهج سياسة شراء كل شركة جمع قمامة صغيرة في أي مكان.. بعد عشر سنوات، كانت العوائد الإجمالية لشركته عشرات الملايين من الدولارات سنوياً، وتخدم آلاف العملاء.. ثم قدّم استقالته، وقرر أن يجرّب شيئاً آخر.. وهو الدخول في عالم محلات الفيديو (التي كانت منتشرة جداً في الثمانينيات)، فقام بشراء سلسلة محال انتشرت فروعها في العالم كله، تم بيعها في منتصف التسعينات بمبلغ ضخم.. ثم قدم استقالته، وقرر - أيضاً - أن يجرّب شيئاً آخر..
أسس (هاري) في التسعينات سلسلة وكالة بيع سيارات افتتح لها مئات الفروع فى أمريكا.. ثم بعدها بقليل بدأ سلسلة فنادق تضم 500 فندق، قام ببيعها في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة.. وفي طريقه، اشترى هاري بعض الأندية الرياضية كذلك، وحقق أرباحاً ممتازة من ورائها.. كم تقدّر الآن ثـروة (جامع القمـامة) الذي بدأ من تحت الصفر؟ ليس معروفاً بالضبط - كعادة المليارديرات -، ولكننا نتكلم عن ثـروة لا تقل عن 2 مليار دولار بأقل تقدير.
ولد في بريطانيا، وكانت أيامه في المدرسة عسيرة بالفعل، لدرجة أنه كان يعاني من صعوبة القراءة - مجرد قراءة المناهج الدراسية - حتى وهو في مراحل متقدمة نسبياً من التعليم الأساسي.. ناهيك عن انخفاض حاد في معدلات أي اختبار ذكاء يخوضه..
إلى جانب أنه كان ينتمي لأسرة ليست ثرية، لا يوجد ما يميزها بشكل خاص. بمعنى آخر، كل الاشارات كانت توضّح أن هذا الفتى سيلقى الكثير من المشاكل في حياته عندما يكبر. كان بداية مشواره الحقيقي عندما قام بتأسيس محل لبيع تسجيلات موسيقية، دعمه بخدمة التوصيل عبر البريد.. وأطلق عليه اسم (Virgin Records ).. بعد عدة سنوات، تحوّل هذا المحل الصغير إلى أكبر شركة تسجيل في بريطانيا في السبعينات.
ثم قام في الثمانينيات بضخ ما جمعه من أموال في مجال التسجيل والموسيقى في مجال آخر مختلف تماماً وهو مجال الطيران، وأسس شركة Virgin Atlantic التي قامت على الاهتمام المطلق بجودة خدمات الطائرات قبل أي شيء آخر، فكانت النتيجة أنه خلال سنوات كان منافساً رئيسياً للـ British airways..
لاحقاً، كانت العلامة التجارية (العذراء Virgin) متواجدة في عشرات المجالات المختلفة، وأصبحت ثـروة برانسون أكبر من ثروة ملكة بريطانيا العظمى نفسها، تزيد عن 2.8 مليار دولار بأقل التقديرات.. من الصعب تصوّر أن يصل الفتى الذي كان يعاني من صعوبة القراءة إلى هذه المرتبة من النجاح.. خصوصاً لو عرفنا أنه نفسه يحكي ذات مرة أنه حتى بعد تأسيس شركاته، كان يجد صعوبة حقيقية في فهم المصطلحات الاقتصادية، مثل مصطلحي (Gross) و (Net Profit)، ويحتاج إلى مساعدة مستشارين لفهمها!
كلمة (صفر) قد تكون مبالغة حقيقيـة بالنسبة لأوبرا، باعتبار أن أوضاعها كلها تقريباً كانت تحت الصفـر. ولدت في أسرة شديدة الفقـر، لأبوين غير متزوّجين انفصـلا لاحقاً، وانتقلت لتعيش مع جدها وجدتها في بيئة شديدة الفقـر بدورها.
في الرابعة عشر من عمرها، تعرّضت للاغتصاب على يد أحد أقاربها، نتج عنه حملها بطفل وهي في هذا السن الصغير، وطبعاً جاء المولود ميّتـا كونها كانت طفلة أصلاً، ولم تكن تتلقى رعاية طبية حقيقية، مما حرمها من نعمـة الأمومة طوال عمـرها فيما بعد. في بيئة غير مستقرة كتلك، لجأت إلى تعاطي المخدرات، وحاولت الانتحار أكثر من مرة. ومع ذلك، أكملت تعليمها وتخرجت في جامعة تينيسي وحصلت على منحة في الفنون المسرحية.
في السابعة عشر من عمرها عملت في محطة إذاعية محلية، ثم عملت في محطة تلفزيونية تم فصلها لاحقاً لأنهم لاحظوا أن أسلوبها في الحديث ودود أكثر من اللازم ولا يتناسب مع طريقة إلقاء النشرات التلفزيونية. بمرور الوقت تدرجت أوبرا في عدد من الوظائف المتفرقة، حتى بدأت في نهاية الثمانينيات موجة الـ Talk Shows التي ظهر وجهها للعالم من خلال (أوبرا شو)، الذي حقق شعبية هائلة طوال فترة التسعينات وبدايات الألفية. اليوم، تقدر ثروة وينفـري بحوالي 3 مليارات دولار، وتعتبر من أكثر النساء تأثيراً حول العالم، وتشارك في تأسيس محطات إعلامية وإذاعية، فضلاً عن أعمال خيرية ضخمة.
بعض الشباب المهتمين ببدء مشروعاتهم الخاصة دائماً يعتبرون أن ظروفهم السيئة تقف عائقاً لتحقيق طموحاتهم في هذا الطريق، بل ويتعاملون مع أمثال هذه النماذج باستخفاف. مازالت فكـرة البداية من الصفر بالنسبة لبعض الشباب أمراً ثقيلاً لا يمكن تصوّره، خصوصاً مع الوضع الحالي من الاقتصاد المتردّي في العديد من الدول العربية.
البدايات دائماً تكون من الصفر، ومن تحت الصفر أحياناً.. والظروف السيئة والذكريات المؤلمة والانطلاقات الصعبة، بالفعل تعتبـر - في مرحلة ما - طاقة وقود هائلة تدفع صاحبها لتجاوز العقبات وتحقيق ما كان يتصوّره مستحيلاً.. وربما - وهذا حدث لكل النماذج التي ذكـرناها هنا - تكون هذه الظروف والبدايات المرهقة، هي السبب بأن تدفعك لتحتل مكانك في قوائم الفوربس في يوم من الأيام.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن