فضيحة الفايسبوك أسوء مما تتصور
التاريخ:
فى : تحقيقات
1556 مشاهدة
فضيحة خرق بيانات مستخدمي فيسبوك من قبل شركة كامبريدج أناليتيكا في إطار حملة تأثير سياسية التي يقال إنها أدت إلى انتخاب دونالد ترمب ليست حادثة عرضية أو نتيجة لأعمال "مستخدم سيئ"، بل هي "خلل معروف" ومن عوارض نموذج أعمال فيسبوك نفسه وأعمال معظم منصات الإنترنت من غوغل إلى يوتيوب، حيث المعادلة هي تقديم خدمات مجانية مقابل بيع بيانات المستخدمين للمعلنين. لحل المشكلة، علينا إعادة التفكير بهذا النموذج نفسه.
نص التقرير
بعد خمسة أيام من التزامه الصمت، اعترف مارك زوكربيرغ أخيرا بالخرق الهائل لبيانات المستخدمين الذي سمح لشركة كامبريدج أناليتيكا للاستشارات السياسية بالحصول على معلومات حميمية ومفصّلة عن نحو 50 مليون مستخدم للفيسبوك. لكن تصريح زوكربيرغ لم يرق إلى مستوى الاعتذار، بل أقر فقط أن فيسبوك ارتكب أخطاء في الاستجابة للوضع --زوكربيرج وفيسبوك أظهروا مرارا وتكرارا أنه لا قدرة لهم على الاعتذار. إلى جانب ذلك، فلقد خلا بيان زوكربيرج من مسألة مهمّة جدا، إذ إنه تعامل مع خرق كامبريدج أناليتيكا على أنها مشكلة "مستخدم سيئ"، في حين يقول لنا الواقع إن المشكلة هي "علة معروفة" في فيسبوك نفسه.
في الجدل القائم منذ 17 شهرا حول أثر وسائل التواصل الاجتماعي على الديمقراطية، تم تحديد مجموعتين متميزتين من المشاكل: في الأولى فإن ما يحظى بالاهتمام الأكبر هي مشاكل "المستخدمين السيئين"، حيث يقوم شخص ما بتجاوز القواعد والتلاعب بمنصة التواصل الاجتماعي لتحقيق أهدافهم الخبيثة. مثلا قد يخلق مراهقون مقدونيون محتوى مثيرا ولكن كاذبا للاستفادة من مبيعات الإعلانات عبر الإنترنت. أو قد يخطط خبراء التضليل لمظاهرات ومظاهرات مضادة، ويدعون الأميركيين إلى النزول إلى الشارع لمواجهة بعضهم البعض. وقد تقوم البوتات (الحسابات الآلية الوهمية) بتضخيم المشاركات والسمات على وسائل التواصل، مما قد يعطي زخما كاذبا لبعض الحملات عبر الإنترنت. مثل هذه المشاكل هي الحالات الظاهرة من الخلل في وسائل الإعلام الاجتماعية، وهي مثيرة للاهتمام وجديرة بالمتابعة والبحث، من منا لن يهتم بمتابعة فريق من الروس في سانت بطرسبورج يتظاهرون بأنهم ناشطين من حملة (بلاك لايفز ماتر) أو (حياة السود تهم)، أو أنهم ناشطون مناهضون ضد كلينتون من أجل تشجيع الفوضى خلال الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركانية؟ ولكن في حين أن الحالات الظاهرة والكبيرة هذه تجذب الاهتمام، هناك حالات مخفية ولكن أثرها كبير بشكل قد يؤدي إلى تهديد صحة النظام بأكمله.
نعني هنا "العلل المعروفة"، وهي مجموعة من المشاكل البنيوية في وسائل التواصل الاجتماعي التي هي ليست نتيجة للمؤامرات الروسية، أو من عمل المقدونيين، أو حتى ستيف بانون، بل يبدو أنها تأتي ببساطة من ضمن بنية الشبكات الاجتماعية نفسها.
غالبا ما يكون الناس لؤماء عبر الإنترنت، وقد يجعل التنمّر، والتحرّش، والغوغائية بعض المساحات على الإنترنت غير قابلة للاستخدام لكثير من الناس. ويميل الناس إلى التقوقع في فقاعات من المعلومات التي يتفقون معها أيديولوجيا على الإنترنت، سواء كانت هذه "فقاعات مفلترة" بواسطة خوارزميات، أو ببساطة "غرف صدى" تم بناؤها من خلال السعي نحو التجانس الاجتماعي ومصادقة الناس الذين يشبهوننا. كما تزدهر نظريات المؤامرة على الإنترنت، وقد يؤدي البحث الاعتيادي عن المعلومات بسرعة إلى محتوى متطرّف ومؤذٍ.
تقع فضيحة خرق كامبردج أناليتيكا في الحقيقة في خانة "العلة المعروفة" بطريقتين أساسيتين. فألكسندر كوغان، الباحث في جامعة كامبردج الذي أنشأ برنامجا لجمع البيانات عن عشرات الملايين من الأشخاص، لم يقتحم خوادم فيسبوك لسرقة البيانات، بل استخدم واجهة برمجة التطبيقات للرسم البياني Graph API في فيسبوك، والتي سمحت حتى أبريل/نيسان 2015 للأشخاص ببناء تطبيقات تجمع البيانات من الأشخاص الذين اختاروا استخدام التطبيق ومن أصدقائهم على فيسبوك. وكما قال الباحث الإعلامي جوناثان أولبرايت: "إن القدرة على الحصول على معلومات دقيقة بشكل غير عادي عن أصدقاء المستخدمين هي نتيجة تصميم واجهة برمجة تطبيقات الرسم البياني لفيسبوك. والأهم من ذلك، إن الغالبية العظمى من المشاكل التي نشأت نتيجة لهذا كان من المفترض أن تكون "مزايا، وليس عللا".
في معرض تعليقه غير المعتذر، ادعى زوكربيرج أن فيسبوك قد اتخذ بالفعل "خطوات مهمة منذ بضع سنوات في عام 2014 لمنع الجهات السيئة من الوصول إلى معلومات الناس". لكن تغيير واجهة برمجة التطبيق التي استخدمها كوغان لجمع هذه البيانات ليس سوى جزء صغير من قصة أكبر بكثير.
كوغان تصرف بشكل غير أخلاقي عندما قام -كما يقال- بجمع هذه البيانات في المقام الأول، وتقديم هذه البيانات إلى كامبريدج أناليتيكا كان خرقا لا يغتفر لأخلاقيات البحث العلمي. لكن كوغان تمكن من فعل ذلك لأن فيسبوك جعله ممكنا، ليس فقط بالنسبة له، ولكن لأي شخص كان يقوم ببناء تطبيقات باستخدام واجهة Graph API. عندما يدّعي كوغان أنه تتم معاملته كأنه كبش فداء من قبل كامبريدج أناليتيكا وفيسبوك، فهو على حق: ففي حين إن بيع البيانات إلى كامبريدج أناليتيكا هو عمل خاطئ، فإن الفيسبوك عرف دوما أن أشخاصا مثل كوغان يمكنهم الوصول إلى بيانات ملايين المستخدمين. فهذه هي بالضبط الخاصية التي قدّمها فيسبوك ضمنا لمطوري التطبيقات.
في حديثه على قناة سي إن إن، أكد زوكربيرج أن فيسبوك سوف يحقق مع مطوري التطبيقات الآخرين لمعرفة ما إذا كانت أي جهة أخرى تقوم يبيع بيانات قاموا بجمعها من خلال واجهة برمجة التطبيقات (Graph API)، لكن زوكربيرغ لم يذكر أن نموذج أعمال فيسبوك نفسه يقوم على جمع هذه المعلومات الديموغرافية والشخصية وبيع القدرة على استهداف الأشخاص بالإعلانات المخصّصة باستخدام هذه البيانات عنهم!
هذه علة معروفة ليس فقط في فيسبوك وغيرها من الشبكات الاجتماعية، ولكن أيضا في الغالبية العظمى من منصات الإنترنت المعاصرة. فمثل فيسبوك، تجمع غوغل ملفات شخصية عن مستخدميها، من خلال معلومات من عمليات البحث الخاصة بهم والأدوات التي طورتها مثل Gmail وتطبيقات Office، لمساعدة المعلنين على توجيه الرسائل إلى المستخدمين. أنت نفسك الآن قد تراقبك أكثر من ثلاثين من متعقبات الإعلانات، فتضيف اهتمامك بهذه المقالة إلى الملف الذي تحتفظ بها حول سلوكك على الإنترنت. (إذا كنت ترغب في معرفة المزيد حول من يقوم بتعقب نشاطك، فقم بتنزيل Ghostery، وهو ملحق للمستعرض يمكنه تتبع ومنع التعقب من قبل "الأطراف الثالثة"). تعمل معظم مواقع الويب المدعومة بالإعلانات على تتبع مستخدميها، وذلك كجزء من الاتفاقيات مع المعلنين لزيادة جاذبية محتواها الإعلاني.
لقد وصفت سابقا هذه المعادلة، حيث يحصل الناس على المحتوى والخدمات المجانية في مقابل الحصول على رسائل إعلانية تستهدفهم بطريقة نفسية، على أنها "الخطيئة الأصلية" للإنترنت. فهذا نموذج أعمال خطير ومؤذٍ اجتماعيا، إذ يضع مستخدمي الإنترنت تحت المراقبة المستمرة ويستمر في جذب انتباهنا بعيدا عن المهام التي نرغب في القيام بها عبر الإنترنت تجاه الأشخاص الذين يدفعون المال مقابل خطف انتباهنا. إنه نموذج رهيب لكنه مستمر فقط لأننا لم نعثر على طريقة أخرى لدعم معظم محتوى وخدمات الإنترنت، بما في ذلك إقناع الأفراد بدفع المال مقابل الأشياء التي يدّعون أنها قيمة لهم.
لقد أدركنا مدى الأذى الذي يتسبب به هذا النموذج عندما قام ستيف بانون وكامبريدج أناليتيكا بجمع ملفات تعريف شخصية عنا لكي يتمكنوا من تخصيص الرسائل الدعائية بالاعتماد على سماتنا الشخصية المحددة، ولكن هذا بالضبط ما يفعله أي معلن، كل يوم، في كل موقع تقريبا عبر الإنترنت. إذا كان هذا يجعلك تشعر بعدم الارتياح، فهذا أمر جيد، فأنت يجب أن تقلق. لكن المشكلة أكبر من فيسبوك. هذه علة معروفة ليس فقط في الشبكات الاجتماعية، ولكن في الإنترنت المعاصرة نفسها المدعومة بالإعلانات.
من السهل نسبيا على الشبكات الاجتماعية أن تعالج مشكلة "المستخدم السيئ". فمعظم الشبكات الاجتماعية سوف تكون أفضل حالا دون بوتات تقوم بالترويج بشكل مصطنع أو نشر رسائل إخبارية زائفة لاجتذاب النقرات. أي إنه في هذه الحالة، تتماشى مصلحة هذه المنصات مع مصالح المجتمع ككل في محاربة المستخدمين السيئين.
لكن الأمر يختلف تماما بالنسبة للعلل المعروفة. فعندما تقوم المنصات بمعالجتها، فإنهم يخاطرون بتخريب نماذج أعمالهم. يصعب على يوتيوب مثلا إصلاح محرك التوصية لديه حتى عندما يقودنا نحو مشاهدة مقاطع فيديو عن نظريات المؤامرة، دون المساس بالنظام الذي يشجعنا على التصفّح من فيديو إلى آخر، والذي يؤدي إلى زيادة مشاهدات الإعلانات بالنتيجة. من الصعب -على الرغم من أنه ليس من المستحيل- التخلص من المضايقات والتنمر على تويتر عندما يكون العديد من مستخدمي تويتر الأكثر تفاعلا متغطرسين وأصحاب آراء عنيدة، وعندما تكون حججهم هي من أكثر المحتويات شعبية في هذه المنصة. ومن المستحيل على فيسبوك حمايتنا من الإعلانات المتلاعبة التي تستهدفنا بحسب سماتنا شخصيا عندما يعتمد نموذج أعمالهم بأكمله على بيع هذا الشكل المحدد من الإعلان.
هذه المنصات لن تصلح العلل المعروفة بمفردها، دون ضغوط خارجية. في مقابلته مع سي.إن.إن، أقر زوكربيرغ أنه قد يكون حان وقت قوننة فيسبوك، مقترحا معايير قد تجبر من يدفع ثمن الإعلانات على انتهاج الشفافية. يجب أن نضغط على فيسبوك، وعلى الويب ككل، لبذل المزيد من الجهد لمعالجة هذه العلل المعروفة، وغيرها.
لقد تم إجبار مستخدمي الإنترنت على تقبل معادلة لم يكن لديهم أي دور في التفاوض حولها: أنت تحصل على الخدمات التي تريدها، فيما تحصل المنصات هذه على البيانات التي تحتاجها عنك. نحتاج إلى انتزاع الحق في الانسحاب من هذه الصفقة، مثلا من خلال دفع المال مقابل خدمات مثل فيسبوك أو يوتيوب في مقابل ضمانات بأن استخدامنا لن يتم تتبعه وأنه لن يتم بيع بياناتنا السلوكية.
نحن بحاجة إلى نظام يشجع منافسي منصات وسائل التواصل الاجتماعية القائمة، مما يعني ضمان الحق في تصدير البيانات من الشبكات الاجتماعية الموجودة، وتطوير برامج جديدة تسمح لنا بتجربة الخدمات الجديدة مع الحفاظ على المعارف في الشبكات الحالية. نحن بحاجة إلى التعامل مع المعلومات الشخصية لا كموارد يجب استغلالها ولكن كمعادل للنفايات السامة، والتي يجب إدارتها بعناية (...). وقد يتطلب ذلك ما يشبه وكالة حماية البيئة للعالم الرقمي، كما قال فرانكلين فوير، بول فورد، وآخرون (...).
الأهم من ذلك، نحن نحتاج إلى العلماء وفاعلي الخير، وصانعي السياسات الذين استيقظوا أخيرا على مشاكل المستخدمين السيئين على الإنترنت لإيلاء الاهتمام بالعلل المعروفة أيضا. قد لا تكون معالجة تأثيرات غرف الصدى والاستقطاب والإقناع السيكولوجي مثيرة مثل الكشف عن البوتات الروسية، لكن البوتات ليست إلا عوارض لمشكلة أكبر بكثير!
القبلية، والتلاعب، والمعلومات الزائفة هي قوى راسخة في السياسة الأميركية، وكلها سبقت الإنترنت. لكنّ شيئا أساسيا قد تغير، لم يحدث من قبل أن كان لدينا البنية التحتية التكنولوجية لتحويل العاطفة إلى سلاح على نطاق عالمي. إن الأشخاص الذين بنوا هذه البنية التحتية لديهم واجب أخلاقي لتحمل مسؤولية ما قاموا به. على مستوى ما، بطريقة ما، فإن زوكربيرغ لا بد وأنه يعرف ذلك. وقال في بيانه: "نحن نتحمل مسؤولية حماية بياناتك، وإذا لم نستطع ذلك، فإننا لا نستحق أن نخدمك". كما أنه لا يستحق دعمنا إذا لم يتعامل هو وأقرانه مع العلل المعروفة التي تفسد الديمقراطية.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة