درس اعلام - علاقات عامة في الجامعة الإسلامية غزة Islamic University Gaza
إياك ونزع الأمل من صدر أحد
كتب بواسطة وائل موسى
التاريخ:
فى : قصص
2507 مشاهدة
بحكم عملي في قطاع الخدمات الطبية في تركيا، فإن أصعب لحظة غالباً هي اللحظة التي تكون مضطراً فيها لترجمة كلام الأطباء وتقاريرهم من اللغة التركية إلى العربية أمام المريض، لا سيما حين تكون النتائج صادمة، وتعني فقدان الأمل النهائي من العلاج، والتسليم بحد أقصى أشهر معدودة قبل وفاة المريض.. والأعمار بيد الله..
تصلني عشرات التقارير الطبية من الخارج لمرضى يرغبون في العلاج داخل تركيا، ونقوم عبر الأطباء المختصين بدراسة ملف كل حالة بحيث إذا توفّرت شروط الحد الأدنى من إمكانية الشفاء يتم إرسال دعوة طبية للمريض للقدوم إلى تركيا..
أحد التقارير الطبية التي وردتني لمريض من الجزائر يعاني من مشاكل في الأمعاء، وتم تشخيص حالته على أنه سرطان في القولون. وفق التقارير الطبية ودراسة الحالة وإمكانية العلاج فقد تم إرسال دعوة طبية لحضوره إلى تركيا..
يحتّم القانون التركي على المستشفيات إجراء الفحوصات الطبية كاملة داخل مختبراتها لضمان التشخيص الصحيح وفق تقارير طبية رسمية للمريض، مع الاسترشاد فقط بالتقارير الخارجية، مهما كان المرض كبيراً أو صغيراً، وفي رحلة التشخيص للمريض تم تشخيص السرطان على أنه سرطان في الأمعاء الدقيقة وليس سرطان في القولون كما كان التشخيص السابق، وهو أحد سرطانات الجهاز الهضمي النادرة، ومع التصوير المقطعي والرنين المغناطيسي للحوض والبطن، تم اكتشاف انتشار السرطان -للأسف- في مراحله الأخيرة..
في عالم الطب هناك تعبير طبي [حالة ميؤوس منها] تشبه مسألة الموت السريري، وهي تعني بعض الحالات المرضية التي يكون فيها اكتشاف مرض مزمن مُفضي إلى الموت بشكل متأخر، وهو ما يعني صعوبة تعاطي الجسم مع الدواء، أو أن المرض نفسه لم يُعرف له علاج بعد، أو أن هناك علاجات توقف مؤقتاً من انتشار الأعراض دون القضاء على المرض بشكل كامل..
وعلى الرغم من محاولة إظهاري لنتائج الفحوصات وقرار الأطباء بشكل لائق يبثّ روح الأمل والطمأنينة في صدر المريض وابنه، وأن الأعمار بيد الله الذي لا مستحيل عليه، وأن المرض ابتلاء من الله وله أجر الصبر، ورغم معاناة مرضى سرطانات الجهاز الهضمي تحديداً لا أود الاستفاضة في شرحها، إلا أن الرجل لم يُبدِ تأثراً كبيراً، وما كان الحمدُ لله يفارق لسانه، ولا حتى المزاح الذي لم أكن أفهم جزءاً منه إذ تتخلل تعليقاته كلمات فرنسية، ولكني كنتُ أضحك على ضحكته الجميلة وهدوئه الذي حسدته عليه في مثل هذا الموقف الذي يقترب فيه الموت من معانقتك..
وبعد أن أخبرتُ ابنه أن المريض لديه 6 أشهر كحد أقصى قبل وصول المرض إلى مراحله النهائية المؤدية للموت، أوصلتهم المطار بعد أن أخبرتهم أن مكوثهم في اسطنبول لا طائل منه، إذ أن جرعات العلاج الكيماوي ستكون بلا فائدة حرفياً، والتدخل الجراحي فات أوانه، وأي أمر طبي عدا الانتظار وبعض الحقن المسكّنة سيكون بلا فائدة طبياً، وكانت نظرات الوداع قبل 8 أشهر في مطار أتاتورك نظرات الوداع الأخيرة تقريباً..
.
.
مطلع الأسبوع الماضي تلقّيت اتصالاً من شخص يخبرني أن معه أمانة لي من الجزائر، 2 كيلو تمر جزائري جميل، وهدية أخرى لابنتيّ صبا وحبيبة..
شكرتُ الشخص الذي رفض إخباري عن مُرسل تلك الهدية.. ولأن الأحباب في الجزائر كثُر فما توقّعتُ أحداً معيناً بعينه..
تقابلنا في الفندق، وبعد دقائق رأيتُ شخصاً يدخل ردهة الاستقبال فيه ملامح كبيرة من المريض، وبنفس تلك الابتسامة الجميلة.. "سي وائل وش راك؟" الصوت نفس الصوت!!
حاولت أن أمنع نفسي من الصدمة وأنا أعانقه، لأن الأمر بدا أقرب للمستحيل.. الرجل بكامل عافيته وصحته واستعاد جزءاً لا بأس به من وزنه.. ولا يظهر عليه أي شيء من آثار المرض!!
سلّمني الهدايا والتمر بنفسه، كمفاجأة، وطلب مني أن أرتّب له موعداً في المستشفى من أجل المراجعة وإجراء التحاليل اللازمة.. كل ذلك وأنا لم أستطع أن أخفي شعور المفاجأة.. وأخبرته أن الأمر بكل الطرق المنطقية مستحيل! ضحك ضحكته الهادئة ثم أخذنا الحديث إلى مواضيع شتّى وأنا لا زلت تحت تأثير الصدمة..
لاحقاً في المستشفى فشلتُ في إقناع الأطباء أن هذا الشخص هو ذاته الذي حضر اسطنبول قبل 8 أشهر، فكان النفي سيد الموقف.. طلب البروفيسور إعادة كل التحاليل التي أجريت في السابق.. والمفاجأة أن جميعها سلبية 100%!!
التصوير مقطعي سلبي.. الرنين المغناطيسي كذلك.. وظائف الكبد أيضاً.. بل حتى تم طلب إعادة فحص CEA وهو أحد فحوصات الدم التشخيصية لهذا النوع من السرطانات وأيضاً النتائج سلبية.. فحص دم البراز كذلك.. الباريوم نيجاتيف أيضاً!!
ولسببٍ ما أيضاً فشلت في التعرف على سر الابتسامة الهادئة التي تعلو وجه الرجل كلما جئته بنتائج لفحص جديد وتكون سلبية والدهشة تعلو وجهي، وكأنه يقول لي "أنا عارف كل نتائج الفحوصات"!
حاول الأطباء سؤاله عن العلاج الذي استخدمه.. وكانت الإجابة بالنفي أنه لم يستخدم سوى الحقن التي تم وصفها له دون زيادة أو نقصان.. حاولتُ معرفة تفاصيل معينة إذا كان يشعر بالإحراج من ذكرها.. ابتسم وأخبرني لا شيء..
في ذلك اليوم ليلاً جلسنا وتحدثنا طويلاً. سأحاول أن أنقل كلامه حرفياً إلى العربية الفصحى.. ولكني لن أستطيع أن أنقل لكم الطمأنينة الرهيبة التي في نبرات حروفه.. والسكينة التي تجعلك تقترب من الشعور كما لو أنك تتكلم مع نبي لا مع بشر..
(هناك نقطة عميقة سي وائل في قلب كل إنسان، نقطة عميقة من الإيمان وضعها الله قريباً من ملامسة سطح اليأس في روحك، النقطة التي تذكّرك بنشأتك الأولى، وبأمانكَ الأول، وأُنسكَ الأوحد، مع الله..
في لحظات الألم الشديد التي كانت تعتريني وأنا أضع منشفةً بين أسناني كي لا أصرخ فأوقظ أحداً من أهل البيت ما بعد منتصف الليل.. ثمة هالة كنت أراها وسط كل ذلك الألم.. الهالة التي تستعذب من خلالها هذا الألم الجسدي أمام طمأنينة الروح.. وكأن يد الله تربّتُ على فؤادك وهي تلامس تلك النقطة العميقة في قلبك.. فتجعلني أطمئن..
المرض سي وائل هو أوضح الدلائل الفطرية التي تقودنا إلى اللجوء إلى الخالق حين تنعدم أسباب المخلوقات، الأطباء والعلاجات والأدوية والعسل والأعشاب.. الخ، وأنا والله ما كنتُ خائفاً أبداً وأنت تخبرني بقرار الأطباء، ولا بكيتُ حين رأيتُ رغبة الآخرين في إسعادي في الشهور الماضية كما لو أنها آخر أيامي، ولكني في ذلك المكان العميق من قلبي أخبرتُ الله وأنا أصعد الطائرة في مطار اسطنبول: يارب.. هؤلاء عبادك قد قطعوا الرجاء فيما ابتليتني فيه، وأنا لم ينقطع رجائي بك..
ووالله ما قلتُ ذلك خوفاً من الموت ولا رغبة في الحياة، فإني كنتُ لأرجو أن أعجَلَ إلى لقاء الله، وأرجو أن أكون مبطوناً يقع تحت حديث النبي صلى الله عليه وسلم "المبطون شهيد.."، ولكني مخلوق جُبِلَ على الضعف إلى خالقه، وطلب الرجاء والشفاء منه، وتلك عين عبودية المخلوق حاجتُك للخالق، وعين ألوهية الخالق رحمته بالمخلوق..
وإني مخبركَ أمراً وناصحكَ نصيحةً: ما تركتُ يوماً بلا صدقةٍ أو قضاء حاجة لمن أعرفه أو لا أعرفه، وعلى ذلك عاهدتُ الله ما حييت، فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وخير الناس أنفعهم للناس، وما رجوتُ من ذلك إلا دعاءً لعل الله يستجيب له، وأنا موقنٌ بذلك تمام اليقين -كما أراك الآن- بأني كنت أرى نفسي في اسطنبول مرة أخرى، وأتذكر كلامك وأنت تخبرني في المطار "رح ترجعلنا وجايب معاك تمر وهدايا لصبا وحبيبة.." ولعلك كنت تواسيني في ذلك الكلام، وأنا والله ما كنتُ أراه إلا يقيناً..
وأما نصيحتي فهي أن لا تقطع أمل الرجاء بالشفاء لأي أحد، وإن استطعت أن تخبر كل من يحضرك بذات ما فعلتَ معي، فافعل، واجمع تمراً وهدايا للجميلتين ما استطعتَ، على عين اليقين لا المواساة، فإنه ما من شيء أعظم عند الله من إحياء النفس "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، وفي لحظات الضعف التي كانت تعتريني وقت اشتداد المرض، فأنا أعلم أشد العلم ماذا تعني كلمة أمل حقيقية لشخص ميت من الداخل كما يُهيّأ له أو يخبره الآخرون..)
لم تعلمني هذه الحادثة تهافت مفهوم "المستحيل" فقط، لا، ولكنها علّمتني أيضاً أن استخدام تلك المفردة أمر يقترب من اليأس، وأنه طالما بقيت تلك النقطة العميقة مضيئة في صدر الإنسان وقلبه، فإنه لا زال على قيد الحياة..
إياكم ونزع الأمل من صدر أحد!
إياكم وقتل الناس بكلمة، بكلمة فقط!
"واعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك..
رفعت الأقلام وجفّت الصحف.."
اللهم يقيناً كيقين سي خليل.. وابتسامة واثقة كابتسامته.. وهدوءاً وقت الشدائد كهدوئه.. وصبراً على الابتلاء كصبره.. وشفاءً من عندك لأرواحنا وأجسادنا كشفائه.. ولكل البشر يارب العالمين..
وإن صبا وحبيبة بانتظار هدايا كل الذين ودّعتهم في المطار، لأراهم في اسطنبول مرّةً أخرى، على عين اليقين بإذن الله، لا على سبيل المواساة فقط.
المصدر : صفحة وائل موسى
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة