كاتبة
التجارة الرابحة
كتب بواسطة ثناء أبو صالح
التاريخ:
فى : قصص
1988 مشاهدة
( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..)
هاتفتني كعادتها كل عدة أيام، تبثني شكوى تكتمها عن الناس، ويضيق بها صدرها .. فتلجأ إلي لأخفف عنها - بعض ما تمر به من ضيق معنوي ومادي - بكلمات ودعوات لا أملك غيرها
حروفها يومها حملت أكثر من ضيق عادي قد يخفّ بالحديث أو بكلمات المواساة، كانت نبرتها ترتجف وهي تحكي لي - بعد إلحاح مني - كيف أن إيجار البيت قد حان ولا تملك دفعه، وظلت تعتذر لأنها تحمّلنمي همّها ولكنها لا تجد من تبوح له سواي ..
هي أرملة رحل عنها زوجها وما زالت في مقتبل العمر .. تقيم في بلد غريب، بعيدة عن أهلها وقرابتها، تعيل نفسها وأطفالها من راتبها كمعلمة، لا وارد لها سواه وهو بالكاد يفي بمتطلبات الحياة، فكيف إذا أضيف أجر البيت الذي تسكنه إلى أعبائها ؟
وأنهت مكالمتها وهي ترجوني بلهفة : صدقيني لا أريد منك غير الدعاء، فأنا أعلم أن الحال من بعضه، غربة وكربة ..أسأل الله أن يفرّج عنا جميعا ما نحن فيه .
نعم .. الحال من بعضه، ولكن أنى لقلبي أن يتجاهل انكسارها البادي في نبرتها المرتجفة، وكلماتها الحزينة ؟ ورجائها لي بالدعاء الصادق ؟
يا رب .. ما من شيء آخر أملك تقديمه لها .. يا رب أنت العالم بالحال فهيئ لها من يعينها ويجبر كسرها ؟
وانطلقت إلى عمل البيت، أنظف وأطبخ .. وأدور في دوّامة الحيرة، لا أجد خلاصا منها .. كيف يمكنني أن أعينها ؟ والحال من بعضه ؟ كيف ..؟؟
شعور القهر والعجز غمر قلبي وكبّل تفكيري، ولم أجد قبسة نور تضيء سبيلا لعونها، يا رب .. يا مجيب المضطر إذا دعاه هيئ لي سببا يعينها .
بمضي اليوم شُغلت بأولادي وأعبائهم، فخفت تفكيري بها، لكنني حين وضعت رأسي على وسادتي، قفزت صورتها إلى ذهني مجددا، لابد أنها حيرى مسهدة لا تجد إلى النوم سبيلا، وعاد الضيق وشعور العجز والقهر يطفو على سطح قلبي ..
ومر يوم واثنان .. وما زالت نبرتها اليائسة تتردد في سمعي وتسكن عقلي، لمَ كل هذا التأثر الآن !! وقد اعتادت البوح كل حين ؟ أم أن الله سبحانه أراد أن يهيئ الأسباب ؟ ولو أبعدني عن التفكير فيها ربما لم أعثر على السبب .
كيف كان ذلك ؟؟
سأحكي لكم
مساء اليوم الثالث من الحديث الهاتفي، وصلتني دعوة إحدى القريبات إلى عقيقة ابنها، تلقيتُها شاكرة وفي نيتي عدم الحضور، لانشغالي بالامتحانات ووضع الأسئلة، ولكني في غمرة عملي، انبثقت من جديد صورة تلك الأخت في ذهني، ووجدتني بدون تفكير مسبق أخط كلمات على ورقة A 4أرسم فيها نواة عمل ما ..لم تكن الفكرة واضحة تماما في ذهني، لكني أذكر أني كتبتُ في الورقة شيئا عن حال تلك الأخت – دون تسميتها طبعا – بدأتُها بآية كريمة وحديث شريف عن الإنفاق، وبأسلوب ليّن دعوتُ من يمكنها التبرع لها - ولو بريالات معدودة - أن تساهم في تجارة رابحة مع الله .. هكذا وجدتُ نفسي أكتب .. التجارة مع الله، وكان أن ظهر إلى النور وعلى الورق مشروع " التجارة الرابحة " – إن صحت تسميته بالمشروع -.
نسختُ عددا من النسخ حسبته يناسب عدد المدعوات، ولففت كل نسخة بشريط حريري، وحملتُها معي إلى بيت صاحبة الدعوة . .
قد تظنون أني قد تجاوزتُ الأمر الأصعب في مهمتي، ولكنكم - إذ تظنون ذلك - تنسون أو تقللون من شأن المهمة، فالصعوبة حقا كانت تكمن في كيفية توزيع تلك النسخ على عدد النساء المدعوات، وفيهن من لا أعرفها ولا تعرفني سابقا..
كيف أبدأ الحديث ؟ ماذا أقول ؟ وهل سينصتن إليّ ومجالس النساء عادة لا تعرف لغة الصمت ؟
كنتُ أتأملهن ونحن على الطعام متسائلة في سري : ترى هل سيتقبلن الأمر؟ هل سأنجو من تعليق ما ينصب عليّ كرشاش ماء بارد، فيطفئ حماسي ويشعرني بسخافة فكرتي ؟
كانت النسوة منهمكات في أحاديث عادية، يتخللها بعض غمز ولمز، ما كنت أتركه عادة يمر دون تنبيه ما.. لكنني يومها كنت في عالم آخر، أعيد وأكرر في ذهني مشاهد العرض القادم، متخيلة ردود الأفعال السلبية أو الساخرة أو اللامبالية على أقل تقدير، وما كان في خيالي السلبي ذاك ما قد يشجعني على المضي .
وانتهى الغداء أخيرا.. وانسحبت المدعوات إلى غرفة أخرى، بعد أن تركن بضعة أطباق مليئة ببقايا طعام !! وتخيلتُ لما رأيتُها، ردود الفعل السلبية على " مشروعي " وللحظات.. كدتُ أن ألغي الفكرة
لكنني أخيرا، استعنت بالله، وقاومتُ ترددي ونطقت محاولة لفت الانتباه : " يا صبايا ممكن لحظة ؟ " وطبعا اتجهت الأنظار نحوي وما عاد الهرب مجديا، ففتحتُ حقيبتي - التي لفتت الانتباه بداية إلى حجمها وشكلها- وبدأتُ أوزع الورقات بابتسامة وديعة مرفقة بكلمات" لو سمحت تفضلي واقرئيها الآن" وحاولت قدر الإمكان تحاشي نظرات الدهشة والاستغراب التي رمتني بها بعض النسوة قبل أن يطالعن ما في الورقة .
أتممتُ مهمتي، وتراجعت إلى زاوية الغرفة أطالع الوجوه، وأرقب ردود الأفعال، وقلبي يكاد يثب بين أضلعي ..وارتفع صوت يتساءل : وكيف تكون المشاركة ؟ وحمدتُ للمتسائلة ذلك إذ أتاحت لي الفرصة لأنطلق في شرح الفكرة معتبرة أنها تتحدث بلسان الجميع .
كانت فكرة المشروع تقوم على تبرع كل منهن بمبلغ ما حسب إمكانياتها شهريا، لحديث : " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " واقترحتُ مبلغ خمسين ريالا كبداية ومن تريد التبرع بالمزيد يمكنها ذلك، شرط أن تداوم على التبرع بانتظام، لنضمن مبلغا ثابتا يمكننا من سد الحاجات شهريا، وما قد يزيد سنجد له سبيل خير آخر، وسيتم تقييد الوارد والصادر في سجل خاص موثّق، يمكن لأي مشاركة إذا أحبت الاطلاع عليه، وفي آخر كل شهر نلتقي لمعرفة كيف تم التصرف بالمال، وبالطبع استمرارية المشروع ستكون مرهونة باستمرار المشاركات فيه.
وأحمد الله أن معظم المدعوات تقبلن الفكرة، وخاصة بعدما ارتفع صوت إحداهن يشكرني لطرح الفكرة التي فتحت لهن بابا للخير سهلا وميسرا.
وهكذا وُلد " مشروع التجارة الرابحة" وكان هدفي منه أن أجمع ما يفي بإيجار بيت الأخت المحتاجة، وتمكنتُ ولله الحمد من سداد الإيجار دون زيادة ما في الصندوق،
ولكن مع توالي الأيام صارت هناك حاجات وحاجات لأسر متعففة، تأبى أن تبوح بحاجتها، لكن القريبين منها يعرفون وضعها فيلتمسون لها العون منّا .
قد تظنون أن الأمر بات ميسرا سهلا بعدها ؟
بالتأكيد لا ..إذ كنت كلما تخلت أخت عن المشروع لظرف ما، أحيا في قلق لبضعة أيام، حتى ييسر الله لنا غيرها، لأنه غالبا ما يسبق انقطاعها، التزامي بدفع إيجار أو سداد دين لمحتاج ما ، ولذا طلبتُ ممن تريد التخلي أن تهيئ بديلا عنها، أو تعلمني قبلها بوقت كافٍ .
وكان أصعب ما واجهني ألا أتمكن من توفير حاجة من تقصدني مؤملة الفرج، فأرجئها إلى وقت لا يمكن تحديده.. إلى أن يتوفر المال، وكانت خيبة أملها تبدو واضحة على وجهها، فيضيق صدري وأتمنى للحظة أني لم أبادر لهذا العمل، لكني سرعان ما أستغفره سبحانه وأرجع إليه سائلة العون السريع .
ولكن وبالمقابل كانت السعادة التي تغمر قلبي - كلما استطعنا عون محتاج أو فرجنا هما أو سددنا دينا - خير معين لي على المضي رغم القلق والمشقة .
لم أعد أذكر عدد السنوات التي استمرت بها تجارتنا الرابحة، لكني أوقفته بعدما تعذر علي الاستمرار به لظروف خاصة، ولم أجد من تقبل تحمل عبء القيام به، فكان أن التقيت بالمشاركات وأطلعتهن على الأمر، واستعرضت معهن عدد المساعدات التي قدمناها، وكان منها إيجار بيوت، ودراسة شباب، وعلاج مرضى، وكفالة أيتام، وسداد ديون، وحتى فواتير كهرباء وماء .. وكان أن تبقى معنا مبلغ يسير تبرعنا به لجهة خيرية .
ولكم أن تتخيلوا سعادة الأخوات المشاركات جميعا، حين رأين مقدار العمل الخيّر الذي نتج من تبرع بدأ بخمسين ريال فقط، كانت نواة المشروع الأولى،
أسأل الله أن يجزيهن عن كل من استفادت منه خير الجزاء في الدنيا قبل الآخرة .
وعلى نسقه أيضا أنشأت بعد فترة من الزمن "مشروع القرض الحسن".. رأسماله مبالغ بسيطة نسبيا من عدة أخوات، كنت أقرضها لصاحب الحاجة المتعفف الذي يمر بضيق مادي ولا يريد صدقة أو زكاة أو تبرعا، وكان يسدد دينه على أقساط شهرية حسب مقدرته، بشرط الالتزام بوقت السداد المذكور في ورقة الدين، إلا إذا واجه ظرفا صعبا منعه من ذلك، فكنت أمهله مصداقا لقوله تعالى : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " وأذكر أنه كان من المستفيدين منه ..طالب زواج، وسائقا يريد إصلاح سيارته التي يعمل عليها، ومعلمة تريد سداد دين متأخر عليها ..وآخرين ما عدت أذكرهم من ثمرات هذا المشروع...فقط أسأل الله الإخلاص والقبول .
ثناء أبوصالح
( يعلم الله أني ما نشرتها إلا رغبة في تحفيز غيري على المبادرة بعمل الخير، ببذل الأسباب دون خجل ولا قلق ولا وجل، شرط إخلاص النية والتوكل المطلق على الله عز وجل )
المصدر : صفحة حروف تلوّن الحياة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة