أينا أحق بالشكوى إلى الله؟
إضاءة: أورد الطَّبراني عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصَّامت، وكان به لمم، فقال في بعْض هجراته: أنتِ عليَّ كظهْر أمِّي، قال: ما أظنُّكِ إلاَّ قد حرمتِ عليَّ، فجاءتْ إلى النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أوس بن الصَّامت أبو ولدي وأحبُّ النَّاس إليَّ، والَّذي أنزل عليْك الكتاب ما ذكر طلاقًا، قال: ((ما أراكِ إلاَّ قد حرمت عليه))،
فقالت: يا رسولَ الله، لا تقُل كذلك، واللهِ ما ذكر طلاقًا، فرادَّت النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرارًا،
ثمَّ قالت: اللَّهُمَّ إنِّي أشكو إليك فاقتي ووحْدتي، وما يشقُّ علي من فراقه. ومن طريق أبي العالية قال: فجعل كلَّما قال لها:
((حرمتِ عليه)) هتفت وقالت: "أشكو إلى الله"، فلم ترِمْ مكانَها حتَّى نزلت الآية: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا... ﴾ الآية [المجادلة: 1]. وقال القُشيري:
وفي الخبر أنَّها قالت: "يا رسول الله، إنَّ أوسًا تزوَّجني شابَّة غنيَّة ذات أهل ومال كثير، فلمَّا كبر عندَه سنِّي، وذهب مالي،
وتفرَّق أهلي، جعلني عليه كظهْر أمِّه، وقد ندِم وندِمت، وإنَّ لي صبيةً صغارًا، إن ضممْتُهم إليْه ضاعوا، وإن ضممْتُهم إليَّ جاعوا".
وقد ورد أنَّها قالت قبل أن تَخرج إلى رسول الله - عليْه السَّلام -: خرجتُ إلى بعض جاراتِي فاستعرت منها ثيابًا، ثمَّ خرجتُ حتَّى
جِئْتُ رسول الله - عليه السلام - فجلستُ بين يديْه فذكرتُ له ما لقيتُ منه، وجعلتُ أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقِه[1].
لقد قامت تلك المرْأة الصَّالحة- رضِي الله عنها - تُنافح عن عائلتِها وتماسُك أسرتها، متمسِّكة بزوجِها الهرم،
لكنَّها أبدًا لم تنظُر لقضيَّتها من منطلقات حسّيَّة دنيويَّة، إنَّما نطق كلّ سلوك قامت به، وكلُّ منطق تلفَّظت به أنَّها كانت أمًّا رائعة
وزوجة مخلِصة وعابدة قانتة.
فمذ قال أوْس بن الصَّامت لزوجه خولة بنت ثعلبة - رضِي الله عنْهما -: "أنتِ عليَّ كظهر أمي"، انتفضتْ كاللبؤة تُدافع عن عرينِها خشية أن تجرفه التَّيَّارات، ولربَّما اختلف موضوع شكْواها لأنَّها كانت تبحث عن حكم شرعي، كما اختلف المشكوّ إليْه، بينما يَختلف موضوع شكْوى الكثيرات في زمانِنا اللَّواتي يشكين من أحوال معيشتِهنَّ فيغرسن بأيديهنَّ مسامير نعوش حياتهنَّ الزَّوجيَّة، فالشَّكوى إذا رفعتْ إلى الله - جلَّ في علاه - انفرج الهمُّ، وإذا وضعت بين يدَي سواه - سبحانه - تضاعف الغمّ،
وما أجمل ما قال الشَّاعر: أنا لا أشكو فإنَّ في الشَّكوى رثاء وأنا نبض عروقي كبرياء طبعًا فإنَّ الشَّاعر كان يقصِد الشَّكوى إلى البشَر. ولكَمْ يذهل المرْء ويعجب، حين ذهبتْ إلى بعْض جاراتِها لتستلِف منها ثوبًا؛ خشية أن يكون ثوبُها الَّذي كان من كسْب زوجِها قد اعتراه شبهة التَّحريم؛ لأنَّها كانت تعتقِد أنَّ العبارة السَّابقة فرَّقت بيْنها وبين زوجِها، ولربَّما تفرق بينها وبين استِخْدام ما كسبه زوجُها،
إنَّه فهْم دقيق عميق أنعم الله عليْها به. ولعلَّ حِرصَها الأكيد على التمسُّك بحبل النَّجاة رفع ذكرَها وذكر زوجِها، بعد أن رفعتْ شكواها لأرحم الرَّاحمين، فتنزَّلتْ آياتٌ كريمات، حظِيت بسببِها بجلال الذِّكْر يتنزّل من رب السَّماوات، وبرحمات ترجوها لهما قلوبُ المؤمنين
إلى يوم الدِّين. وقد سمِّيت سورةٌ عظيمة نسبة إلى تلك المرأة العظيمة، ألا وهي سورة المجادَلة أو المجادِلة، فقد كانت - رضِي الله عنها - تجْدل حديثَها بحديثِ رسول الله، بنصَبٍ دون صخب، لم تشتكِ لخير الأنام - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ولَم تبح بحرفٍ لأعْلم نساء الأرْض حين ذاك السيّدة عائِشة - رضِي الله عنها - الَّتي حضرت المجلس ولم تسمع كلماتها - كما ورد عنها. ولو تجاوزْنا ذاك الرياض الماتع، ووقفْنا على بوَّابة صنع الإنسان وصياغته، لقلنا: إنَّها حلَّقت عبْر آفاقٍ رحبة بعبارة موجزة ومعان بليغة بقولها: "إنَّ لي منْه صبية صغارًا". ولعلَّنا أدْركنا ووعيْنا من هتافات المرْجفين المعاصرين مَن ينادي بإلغاء مؤسَّسة الأسرة والنَّيل منها،
وأنَّى لأطروحاتهم أن يتحقَّق منها شيء، ولم ينبرِ للرَّدّ عليهم ردًّا عمليًّا يليق بِمقامهم سوى العصفور الَّذي أخذ يبني لصغاره عشًّا، ويطرب مَن حوله بزغاريد أفراحه، فهل لنا أن نتساءل: أيُّهما أكبر عقلاً يا ترى؟ أهو الإنسان الَّذي انحرف بعيدًا عن فطرته،
فألقى بنفسِه في مهاوٍ لا قعر لها؟ أم المخلوق الصَّغير الَّذي اتَّبع هدي الفطرة وأقْنع الآخرين بحتميَّة بناء الأسرة؟ فلئِن شكت خولة - رضِي الله عنْها - حال أسرتِها إلى الله فإنَّنا نشكو إليه - سبحانه - حال أُسَرنا، ولئن أسعفَها الوحي فإنَّه لن يسعفنا - والله - إلاَّ العودةُ الواعية واتِّباع وحْي السَّماء، فأيْن مَن كانت تحاول رقع فتْق أسرتِها بخيوط نسجتْها من قلبها وعقلها لتحْمي كيان أسرتها الشَّامخ
، مِن الذين يحاولون فتْق ومزق نسيج الأسرة؟! إنَّ نظرةً إلى واقعنا المؤلِم وإلى بناء الأُسَر الهشِّ يُبدي للعيان أنَّ كثيرة هي الأسر التي تعتمِد على سرعة الانهيار لا سرعة البناء، تمامًا كما يتقن البعض استيراد السلبيَّات مع تجاهل الإيجابيَّات، فغدت كلِمة الطَّلاق - أبغض الحلال - تغزو مسامعَنا ومنتدياتِنا ومجالسَنا، وتسلب ما يقارب ثلثَ حالات الزَّواج فتسبِّب له طعنةً في الصَّميم، قد ترديه قتيلا أو صريعًا، ولعلَّ بعضَ العقلاء يتساءل: ألَم يأْنِ لكلِّ حريصٍ على الأسرة المسلمة أن يتفكَّر في أسباب هذا الانْهِيار المقلق؟!
أهو سوء الاختِيار ابتداء، أم ضعف الإعداد لهذا الصَّرح الشَّامخ؟ أم قلَّة الوعي بأهمّيَّة دور الأسرة؟ أم هو عدَم قدرة جَميع الأطْراف
على التَّكيُّف مع الأوْضاع الاجتماعيَّة الجديدة؟ أم أنَّ النِّفاق الاجتِماعي غدا ينخر بالبناء الأُسَري كما ينخر السوس بأجمل الأضراس وأمتَنِها؟ أم أنَّ ما يحدث هو كلّ ما سبق مضافًا إليه غيره؟ إنَّ أمر أُسَرِنا تجاوز الخطَّ الأحمر، ويَحتاج إلى تفكُّر وتدبُّر إذا أردنا
أن نعدَّ جيلا قويًّا لبناء أمَّة رائدة. -------------------------------------------------------------------------------- [1]- الظلال، صفحة 3505 في تفسير سورة المجادلة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة