على مشارف الأربعين
كتب بواسطة د. سيرين الصعيدي
التاريخ:
فى : بوح الخاطر
1476 مشاهدة
الإنسان هذا المخلوق الضعيف، والذي أودع الله فيه ما أودع من مكامن الضعف والقوة على حد سواء، يمرّ على مدار عمره بمراحل عدة، فكل مرحلة وكأنها تلة صغيرة يستشرف من خلالها القادم من عمره، ويودّع ما كان قد مضى، وكثير منا من يقع في شراك إغراء القوة والفتوة في مرحلته هذه، فينزل عن تلته باسطاً يده للحصاد، متعجلاً قطف الثمار تارة، ويوهمه التسويف أن في العمر فسحة وبقية تارة أخرى.
غير أن بلوغ البعض هذه الأربعين من سنوات العمر، وما يرافقها من خصلات الشيب التي يتموج بها رأسه، وتفكره بأن بعثة النور وإشراقة الإسلام على البشرية وسطوع نورها والسجال المستمر لمحاولات إنقاذها وإخراجها من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد لحرية عبادة رب العباد -كل ذلك كان بدء انطلاقته بلوغ المصطفى صلى الله عليه وسلم الأربعين من العمر، فقد ذهب المفسرون كالشوكاني والقرطبي وغيرهم إلى أن سن الأربعين هو السن الذي ينبأ به الأنبياء.
من أجل ذلك كله، كان لا بد من وقفة متأنية متفكرة لكل عاقل ذي لبّ -إن فاته ذلك في سنوات العمر الماضية وأغفلها- أن يتداركها في هذه المرحلة، وعلى هذه التلة تحديداً من العمر، فلا يتعجل النزول عنها كما حدث على تلة الرماة في غزوة أحد، فتأتي النتائج على غير ما يجب أن تكون عليه.
بل إنّ بلوغ هذه المرحلة يُحتِّم عليك أن تقف عندها ممحصاً ما سبق من عمرك، متفكراً ومستعداً للاستقبال الآتي بعدها، بل لزام عليك أن تشكر الجليل الذي أمدك بالعمر، فبلغت هذه المرحلة، وما زال النَفَسُ فيك يتردد، وقد باغت الموت من هو أصغر منك بكثير، ومُنحتَ فرصةً للتأمل والتفكر واستدراك ما تفلت من عمرك -كما حبات الرمل بين أصابع الصغير العابث- وقد حُرمها غيرك.
إن أهمية مثل هذه المرحلة من العمر ما كان ليغفلها دستور السماء ونور الله في البشرية الخالد فينا مادامت السماوات والأرض، ويلقي في تربة الفكر والقلب منا بذور التفكر والتدبر؛ إذ يقول -جل شأنه- في كتابه العزيز: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف، آية:15].
وقد وقف العلماء مطولاً عند هذه الآية الكريمة، فذهبوا في تفسير هذه الآية إلى أن الإنسان في هذه المرحلة يقوى ويشب ويبلغ استحكام قوته وعقله، ويكمل فهمه وعلمه.
والقرآن الكريم يحيط هذه المرحلة من عمر الإنسان بمزيد من الأهمية، فيوجهه توجيهاً عملياً، ويرشده لما يجب أن يقوم به ويتوجه إليه قولاً وعملاً، ومن هذه الأمور:
أولاً- البر بالوالدين:
ففي هذه المرحلة عادة ينشغل الشخص بأموره الخاصة والأسرية، وقد تشغله أعباؤه الشخصية والأسرية من الاهتمام بوالديه، وغالباً ما يكونان قد بلغا الكبر عند من بلغ سن الأربعين، فتذكّره هذه الآية ببره لهما -أحياء وأمواتاً- بالإحسان والدعاء لهما.
ثانياً- ترشد الآية من بلغ الأربعين من عمره أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، فإن الإنسان غالباً لا يتغير عما يكون عليه في الأربعين، فعليه أن يأخذ حذره، ويصحح عمله، ويجدد توبته، ويستكثر من الطاعات.
ثالثاً- التضرع إلى الله أن يوفقه إلى عمل الصالحات فيما تبقى له من عمر، فيستدرك ماقد فاته من الطاعات في مراحل عمره الماضية، ويصلح له عقبه فيرزقه الذرية الصالحة.
رابعاً- ترشدنا هذه الآية إلى أنه ينبغي لمن بلغ عمره الأربعين أن يستكثر منة هذه الدعوات التي اختصها الله بهذه المرحلة تحديداً: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف، آية:15].
ففي هذه المرحلة يجب أن يتوقف الإنسان ليرى من أعلى نقطة فيها، وينظر لسنوات عمره الماضية، ويتفكر فيها قبل أن يقف موقف صاحب الجنتين يوماً على أطلال جنتيه مُقَلِّباً كفيه، إذ بسنوات العمر خاوية على عروشها، هل أدّى حق الله من شكر على نعمائه، وهل قام بحق الأمانة التي كلّف بها فيما مضى، فهل في زهور سنوات العمر الآفلة -والتي مرت بك كطرفة عين- حق ضيعته وواجب غفلت عنه، أم تراها سنوات كانت بضاعتك فيها مزجاة، وبستان عمرك فيه الشوك والعنب؟!
عليك أن تستغل هذه المرحلة استغلال العاقل لا الغافل، وتنظر إليها وكأنها صيب نافع، توجهه لبذور الخير التي استودعتها فيما مضى، وتجتث الأشواك النامية في سنوات عمرك
لا يخلو بشر من ذلك، فلكل منا هفواته وكبواته، ولكل منا بذور خير استودعها تربة تنتظر الغيث؛ لتنمو وتثمر، لذا عليك أن تستغل هذه المرحلة استغلال العاقل لا الغافل، وتنظر إليها وكأنها صيب نافع، توجهه لبذور الخير التي استودعتها فيما مضى، وتجتث الأشواك النامية في سنوات عمرك، وليكن بلوغ هذه المرحلة نقطة ارتقاء لا هبوط سحيق لأسفل سافلين ، وجدّد توبتك وعهدك مع الله، فما زالت الفرصة سانحة أمامك لتعود عما كنت عليه من غفلة وتفريط، ولتدخل في زمرة الموحدين المخلصين امتثالاً وانصياعاً لقوله تعالى: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف، آية:15].
وليكن الخوف والرجاء الجناحين اللذين تطير بهما إلى ربك ومولاك، فإذا لم تتدارك المنصرم من عمرك بهذه المرحلة من العمر، ولم تستقبل القادم منه استقبال الأرض للغيث بعد طول انقطاع، فأي خير ترجوه بعد هذا؟ وأي مكر تأمن عواقبه على نفسك؟! تذكر، فنحن أقرب على يوم الرحيل منا على يوم القدوم والميلاد!
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة