أزمة الأُمَّة من أين تبدأ؟!
"كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ..." رواه البخاريّ.
تعيش الأُمَّة مرحلة تيهٍ وضياع ثقافيٍّ وتربويٍّ، لا عهد لها به من قبل بهذه الصورة، إذِ استَهدف هويَّتها وقيمها، وتراثها وحضارتها، وخيَّم على علاقاتها، وهدَّد مستقبلها..
ومظاهر هذا الضياع كثيرة متنوَّعة، لعلَّ أهمَّها:
1 ـ فَقْد الهوّيَّة والانتماء، أو ما نسمِّيه تيه البوصلة، أو تجاذبها في كلِّ الاتِّجاهات وتذبذبها.
2 ـ التبعيَّة العمياء للغرب، والاستلاب الحضاريّ، والتقليد الأعمى.
3ـ التحيُّز والتعصُّب، وفقد الموضوعيَّة والمعايير العلميَّة، ويتمثَّل ذلك في:
أ ـ رفض التعرُّف العلميِّ على تراث الأُمَّة أو الاعتراف به، والافتتان بكلِّ ما يأتي من الغرب والتسليم به.
ب ـ التبرير المطلق لسلبيَّات الغرب وسيِّئاته، والاتِّهام المطلق لحسنات الشرق وإيجابيَّاته.
ج ـ تناقض الشخصيَّة والسلوك؛ ويتمثَّل ذلك في الفصل بين الفكر والسلوك، وبين الدِّين والدنيا، وبين الدنيا والآخرة.
د ـ الصراع الداخليُّ الظاهر والخفيُّ بين مختلف فئات الأُمَّة، وما يمثِّلها من مؤسَّسات، نتيجة تناقض الولاءات، واختلاف الانتماءات، ممَّا نشأ عنه التسلُّط والتغوُّل على هويَّة الأُمَّة وانتمائها.
هـ ـ الجهل الفاضح بتاريخ الإسلام وحضارته وعلومه، والتتلمذ في هذا الباب على موائد أعدائه وافتراءاته.
ولعلَّ بعضنا يتساءل: ومن أين تبدأ أزمة الهوِّيّة والانتماء؟!
إنَّها تبدأ حيث يبدأ الإنسان.. تبدأ من طفولته، بل قبل ولادته.. وتبقى معه كلَّ حياته..
ومن هنا فقد كان لطفولة الإنسان من تلكم المظاهر من الضياع - وللأسف - حظٌّ كبير، وسهمٌ خطير.. ولا عجب في ذلك، ونحن نعلم أنَّ مستقبل الإنسان يُصنع في مهد الطفولة، ومحضن التربية، وما لم يبدأ منها، ويتحرَّ احتياجاتها ومتطلَّباتها؛ فإنَّ الخلل والفراغ يعسر جدّاً أو يستحيل أن يسدَّ في مرحلة عمريَّة لاحقة، أو يستدرك بعد فواته..
والناظرُ في واقع الأُمَّة منذ أكثر من قرن مضى يرى أنَّ الطفولة التي أَوْلاها الإسلام كلَّ عنايةٍ ورعاية - ويتَّصل بها ولا شكَّ حال المرأة والأسرة - لم تحظَ من الأُمَّة أفراداً ومجتمعاً ومؤسَّسات عامَّة وخاصَّة بما يليق بها من رعاية، وبقيت مهمَّشة مهملة، بل لا تعرف إلَّا الطرق السقيمة، والأساليب العقيمة، ممَّا انعكس بالسلبيَّة على واقع الأُمَّة بكلِّ جوانبه..
ولا غرابة في ذلك ولا عجب؛ فطفولة الأطفال هي مرآة عن عقليَّة الكبار وثقافة الكبار..
فعندما شهدت الأُمَّة صحوة في دينها عامَّة، كان حظُّ الطفولة من الاهتمام والعناية أقلَّ ممَّا يجب بكثير، فبقيت الطفولة في اهتمامات الدعاة والمختصِّين منسيَّة أو مهملة.. فبقيت الصحوة الإسلاميَّة التي نتحدَّث عنها ونتغنَّى بها مختلَّة الأركان، ضعيفة البنيان، في الوقت الذي كان فيه توجُّه الغرب إلى الطفولة يأخذ أبعاده العلميَّة والفكريَّة والتربويَّة على كلِّ صعيد، ويشغل بالَ المؤسَّسات العلميَّة والبحثيَّة، وتبذل له الأموال الهائلة، وتعقد له الندوات والمؤتمرات.. لأنَّهم أدركوا أنَّ مستقبل الأمَّة مرتهن بأطفالها.. ونحن غائبون أو ذاهلون عمَّا يجري حولنا..
ثمَّ صحونا مرَّة أخرى لنجِد أنفسنا مسبوقين في ميدان كان لنا فيه السبق، يوم كنَّا رعاة حضارة، وبناة نهضة.. ولكنَّ سنَّة الله في الحياة أنَّ الواقف يكتب عليه التخلُّف عن الركب، مهما كان من قبل مجدّاً سبَّاقاً، وأنَّ الفكر الإنسانيَّ في حركةٍ دائبة، وتجدُّد مستمرٍّ، لا يعطِّله التوقُّف في جهة عن النموِّ والمسير في جهةٍ أخرى.. فتلك سنَّة الله في الحياة.
لقد سَبَقنا الغرب في عدَّة ميادين من رعاية الطفولة، سَبَقنا في نظريَّاته.. وسَبَقنا في نظمه التعليميَّة والتربويَّة ومناهجه.. وسَبَقنا في خططه وبرامجه.. وسَبَقنا في الكمِّ الهائل من مؤسَّساته التربويَّة المتخصِّصة المتطوِّرة، التي تجعل الطفولة محور عملها.. وبغضِّ النظر عن تحفُّظاتنا على كثير ممَّا نختلف معه فيه ممَّا يخالف ديننا وعقيدتنا..
ولعلَّ أهمّ ما نسجِّله في هذا الميدان أن نقول: إنَّ الغرب تفوَّق علينا باهتمامه الشديد وعنايته الفائقة بتحويل المبادئ والأفكار إلى خطط واقعيَّة، وبرامج عمل وتدريب.. وكنَّا أحقَّ بذلك وأهلَه.. بينما لا يزال أكثرنا يقف عند كثير من المبادئ والنظريَّات التربويَّة، يشيد بها، ويتغنَّى بجمالها، ويعتزُّ بأنَّ كثيراً منها من قيمنا وتراثنا.. ثمَّ لا تَعرف السبيل إلى واقعه، ولا يكون لها أثر في حياته..
والله تعالى يهدِّد الذين يقولون ما لا يفعلون بمقته وشدَّة غضبه، إذ يقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
وما هذا التهديد والوعيد إلَّا لأنَّ الأفكار والخطط، لا وزن لها ولا قيمة بغير العمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن