باب الرحمة.. واجب الوقت
ليس باباً عادياً؛ بل هو مدخل غرائبي لعالم مدهش متخيّل يوصلك في نهايته عبر درج طويل إلى فضاءات نورانية حالمة تعرّشها ظلال الرحمة الربانية، يمر فيها المرء عبر برزخ المقبرة الشرقية المستطيلة التي تدخلها من نوافذ السور المزدوج: الرحمة والتوبة الذي يسميه الغربيون الصليبيون "الباب الذهبي"؛ حيث يتراءى لك وادي قدرون الحافل بالأسرار الغيبية القدَرية، والتي يرقد في تربتها نفر من الصحابة الأنصار؛ عبادة بن الصامت وشداد بن أوس....
هذا الباب القديم يعود تاريخ تصميمه وعمارته إلى العهد الأموي الذي امتاز بشدة الاعتناء بالمسجد الأقصى وتصديره للأفق المرئيّ المَهيب ليكون شامةً أمام الديانات الأخرى التي هيمنت عليه ديانة الإسلام بسيادتها السياسية والعسكرية والروحية، تجللها تيجان وزخارف وأقواس رامزة.
هذا الباب يضم في جنباته مصلى واسعاً كبيراً، وزاوية أحياها إمام أهل الحديث في عصره في القرن الخامس الهجري قبيل استيلاء الصليبيين على المدينة؛ وهو الإمام الجليل نصر المقدسي الذي تخرج على يده مئات المحدثين والفقهاء والمؤرخين والمجاهدين؛ وهي الزاوية التي ورثها عنه الإمام القطب أبو حامد الغزالي قبيل سقوط المدينة، فلذلك تسمى الزاوية تارة بالنصرية وتارة بالغزالية.
وقد كتب الخطاطون الفنانون زمان الفتح الصلاحي على جدران هذا المصلى الرمز القرآني لهذه البوابة النافذة (... باطنه فيه الرحمة...) ولطالما كان لهذه القاعة المصلَّى حراسها وخدّامها أيام الأيوبيين والمماليك والعثمانيين؛ ويخطط أوغاد المتطرفين الصهاينة لتحويل هذه القاعة المصلَّى إلى كنيس يهودي، ولذلك تراهم ينفخون البوق هناك أحياناً.
وقد تعمدت الجيوش الصليبية الدموية أن تدخل من هذا الباب لتعلن سيادتها على هذه البقعة المعظمة لتكسر قيمة الرحمة التي يعتقدها الناس في هذا المكان، وتزرع الهيبة في نفوس من تبقى من المسلمين الناجين من المجزرة الدموية المهولة أو الزائرين للمدينة بعد احتلالها.
هذا الباب مغلق من سلطات الاحتلال منذ 2003 ولكنهم زادوا عليه قفلاً بسلسلة، وهم يعلمون أنه سهل الكسر، وإنما أرادوا من ذلك رسالةً أن ولاية الباب باتت لنا، وقد انقضت ولايتكم المعنوية عليه.
أوغاد المتطرفين يدّعون أن هذا الباب سيشهد دخول مسيحهم إلى الهيكل مع شدة شعورهم باقتراب عصر الظهور، لذلك يرون فيه مدخلاً أسطورياً تراثياً لمزاعمهم المؤسِّسة لفلسفة إقامة كيانهم في فلسطين، وما زالوا يقتحمون المكان ويضعون بين شقوق جدار باب الرحمة أوراقهم المقصوصة المشمولة بأمنياتهم الخرافية القديمة.
وقد جرى إغلاقه قديماً من الخارج زمان الأيوبيين أو العثمانيين بعد أن شاعت بين الناس مقولة تزعم أن الفرنجة الصليبيين سيعودون ثانية من هذا الباب ويحتلون القدس إذا بقي هذا الباب مفتوحاً، فرأى الحاكمون إغلاقه تمويتاً للإشاعة التي أظهرها أولاً عملاء الكنيسة أو الشعبويّون فيها ذوو الميول المتأثرة بالرؤى والمنامات والأساطير اليهودية بين العامة ولاسيما في مواسم الحج المسيحي واليهودي.
ولابد أن الإغلاق مرتبط بإنشاء الحديقة التوراتية وقواعد القطار الهوائي "تلفريك" على جزء من مقبرة باب الرحمة التاريخية التي يريدون مسحها لتطهير ساحة المدخل المرتقب من النجاسات حيث إنهم يعتقدون بنجاسة أجسام الأموات.
إن كل موضع في المسجد الأقصى يحمل قيمة ورمزاً، وحُقَّ على أهل القدس ومَن حولها أن يؤسسوا طليعة شعبية منظمة لكل موضع، تتعهد كل منظمة بحراستها والسهر عليها والكفاح من أجلها، وأن يجعلوا من كل موضع ثغرا من الثغور التي لا يجوز أن نؤتَى منها، وهذا واجبُ الوقتِ الذي لا مناص من حمله وتبنّيه.
المصدر : المركز الفلسطيني للإعلام
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة