الحب بين الحقيقة والوهم
كتب بواسطة إحسان الفقيه
التاريخ:
فى : شباب بنات
1341 مشاهدة
قال أحدهم: سمعت أعرابيّةً تطوف وهي تقول اللهمّ مالك يوم القضا، وخالق الأرض والسّماء، إرحم أهل الهوى، وانقذهم من عظيم البلا، فإنّك تسمع النّجوى، قريبٌ لمن دعا، ثمّ أنشأت تقول:
يا ربّ إنّك ذو منٍّ وذو سعةٍ … دارك بعافيةٍ منك المحبّينا
الذّاكرين الهوى من بعد ما رقدوا … حتّى نراهم على الأيدي مكبّينا
فقلت لها: يا هذه أيُقال هذا في الطّواف؟، فقالت: إليك عنّي، لا يرهقك الحبّ، فقلت: وما الحبّ؟ فقالت: جلّ أن يخفى، ودقّ على أن يرى: له كمونٌ ككمون النّار في الحجر، إن قدحته أروى، وإن تركته توارى.
إذا ما اقترن الحب بالعفاف قالوا: «حُبٌّ عُذريّ»، نسبةً إلى «عُذْرة» قبيلة من قبائل العرب التي اشتهرت بكثرة العشاق المُتعففين، قيل لأعرابي: مِمن أنت؟ قال: من قومٍ إذا عشقوا ماتوا، فقال الرجل: عُذريٌ ورب الكعبة، ثم سأله: ولِمَ ذلك؟ قال الأعرابي: «لأن في نسائنا صباحة، وفي فتياننا عفة». حبذا الحب العذري الذي لم يتلطخ بقادح في الدين والأخلاق وصالح الأعراف، فقد دنّس أقوامٌ معاني الحب وأهدروها، وحوّلوها إلى علاقة مفرغة، تتراوح بين إشباع الغرائز ومخالفة معايير الفضيلة، فما الحب لدى هؤلاء سوى نظرة فموعد فلقاء فلمسة فقُبلة فعناق.. والبقية تأتي.. وكما أن هناك من أهدر معاني الحب الصادقة على أعتاب المادية، أُهدرت قيمته كذلك وظُلِم بدعوى أن الدين لا يعترف بالحب، ويراه فسوقًا وعربدة من دون تمييز بين حالة وأخرى.
عاطفة الحب هي ميلٌ فطري بين الذكر والأنثى، يرجع إلى أصل الخِلقة وغايتها، فأصل الخلقة جنسٌ واحد، آدم ومنه حواء، علاقة بعضٍ بِكلّ، فكان الحنين السرمدي، وأما غاية الخِلقة، فقد اقتضت حكمة الخالق أن يظل الجنس البشري يعمر هذه الأرض، فكان لابد من استمرارية النسل، فجاءت هذه العاطفة لتفسح الطريق أمام الغريزة في مجالها النظيف، بصورة تسمو على البهيمية التي لا تعترف إلا بإشباع حاجة الجسد لا الروح.
ولأن الإنسان هو موضوع الرسالة، فقد أولى الإسلام تلك العاطفة اهتمامًا كبيرًا، فلم يُهمل جانب الإشباع العاطفي، لكن وضع له قنواته التي تحتويه وتُهذّبه.
الحب في حد ذاته ليس محل مدحٍ ولا ذمٍ، وإنما يُمدح أو يُذم بحسب مُتعلّقه، كما يقول الإمام ابن القيم، الذي أولى أحوال القلوب عناية خاصة: الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الحرام والجائز والنافع والضار، ولا يُستعجل عليه بالذم والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة، وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر مُتعلقه، وإلا فالعشق من حيث هو لا يُحمد ولا يذم.
وصلنا إلى مرحلة التقليد الأعمى للنمط الغربي وصارت الفتاة التي ليس لها حبيب شخصية معقدة غير سوية نفسيا
واهمٌ من يظن أن الإسلام يلفظ الحب ويقسو على أهل العشق، بل ترى رأفتَه بهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم (لم يُرَ للمتحابِّين مثل النكاح)، وهو الزواج، فتأمل صيغة الخطاب النبوي الذي يُراعي الفطرة البشرية، لم يُجرِّمْه، ولم يُنكر على أهله، وإنما أوضح أنجح الوسائل لاحتوائه، بدلا من تحمّل مشقة الصبر عليه، وبدلا من الزجِّ به في وحل الرذائل. كان النبي ﷺ وبما رواه عنه مُسلم، إذا سُئل عن أم المؤمنين خديجة يقول: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا»، ولنا في سيرة حبه لعائشة بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، من الروايات ما يغنيه الباحث عن قيمة الحب في الإسلام، فقد نظرت عائشة يوما إلى رسول اللهﷺ ثم تبسمت فسألها عن ذلك فقالت: كأن أبا كثير الهذلي إما عناك بقوله:
وإذا نظرت إلى اسرّة وجهه … برقت كبرق العارض المتهلل
النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي هذه الفطرة عند الناس، كما جاء في قصة مغيث وبريرة، كانت زوجته ففارقته، فكان يمشي وراءها في الطرقات يبكي، فشاهده النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه العباس، فقال: « يا عباس أتعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً» ثم كلمها النبي ﷺ لتراجع زوجها، قالت له: أتأمرني؟ فقال النبي: «إنما أنا شافع» فقالت: لا حاجة لي فيه».
والعرب أخذت من الحب منهجا في التربية لا بالانحلال في تربية الناشئة وتهذيبهم، كما نقل قدامة عن بعض البلغاء قولهم في الحب : «يشجع الجبان، ويسخي البخيل، ويصفي ذهن البليد، ويفصح لسان العيي، ويبعث حزم العاجز، ويُذل له عز الملوك، وتصدع له صولة»، وثنا بذلك ابن القيم فيما نقله: «قيل لبعض الرؤساء: إن ابنك قد عشق، فقال: الحمد لله، الآن رقت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحت إشاراته، وظرفت حركاته، وحسنت عباراته، وجادت رسائله، وحلت شمائله، فواظب على المليح، واجتنب القبيح».
هناك اعتقاد سائدٌ خاصة بين الشباب، بأن إقامة علاقات عاطفية قبل الزواج ضرورة، وأنه لا يُتصور للحب أن ينمو في ظل تلك العلاقة الرسمية المسماة بالزواج، فلذا تجدهم فتيانا وفتيات، يرتقبون قصة الحب العنيفة أو يسعون إليها، مع علمهم المسبق بما في انتظارهم من الهموم والأحزان، من البعد والاشتياق والوصل والفراق أيضًا، وكما قيل:
فما في الأرض أشقى من محب …. إن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيًا في كل حين ….. مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم …. ويبكي إن دنوا خوف الفراق
هناك أسباب حتمًا لهذا التصوّر، ودوافع لأن يخوض الشباب تلك التجربة طوعًا، فمنها ما زرعته الدراما في عقولهم الفتيّة من التنفير من الزواج التقليدي، وتأجيج نيران مشاعرهم بقصص الوَله والعشق غير المنطقية ولا الواقعية وكأن الحُب محض شموع وبالونات وزهور حمراء وقلوب وأغانٍ، فيها من النواح والسلبية ما فيها من التحريض على الفسق.
وهناك من يندفع إلى العلاقات قبل الزواج انطلاقا من المعاناة، حيث يعاني من الجوع العاطفي في المحيط الأسري، ومن ثم يكون ملاذه قصة حب يُشبع بها احتياجاته العاطفية.
ومنهم من يندفع إلى ذلك بسبب الفراغ والملل وإيقاع الحياة الرتيب، فلا يجد ما يقضي به على ذلك الوضع القاتم إلا بقصة مُلهبة تملأ ذلك الحيز الشاغر. وبعض الشباب أو كثير منهم تستبد به الرغبة في التقليد ومسايرة الواقع، حيث يرى الأقران تلقاء وجهه أينما ذهب يتمرغون في العلاقات العاطفية. ومنهم من يرى أن الزواج ما هو إلا روتين اجتماعي وضرورة بيولوجية، أما العواطف والمشاعر الرقراقة فليس لها موضع في الحياة الزوجية، ومن ثم يحرص على الارتباط العاطفي قبل أن يدركه الزواج ويُحرم من المتعة العاطفية.
في دراسة ميدانية سابقة للدكتور سول جور دون، أستاذ علم الاجتماع بفرنسا، تبين أن 85% من الزيجات القائمة على الحب تنتهي بالطلاق، أو بالمشكلات التي تنغص الحياة الزوجية، وفسّر ذلك قائلًا: «الاندفاع العاطفي يُعمي عن رؤية العيوب ومواجهتها، ويوهم الشاب والفتاة أن الحب يصنع المعجزات». وهذا صحيح، لأن المُحب لا يختار من يحب، إنما حدث تعلق عاطفي بغض النظر عن صلاحية الآخر للزواج، وكما يقال (مرآة الحب عمياء). وعندما تنشأ العلاقة في غير إطار الزواج فإنها غالبا تكون غير مبنية على أساس سليم، وإذا كتب لهما الاستمرار وتتويج هذا الحب بالزواج، هدأت العاصفة، وزال التكلف، فإن لم يكن هناك رصيد كافٍ من الصفات الحميدة حدث الاصطدام بين الطبائع المختلفة للزوجين، يُعجّل بنهاية الحياة الزوجية أو يتعسها، ثم يتساءلان بدهشة: أين ذهب الحب؟
سيظل الواقع يشهد أن الاختيار وفق المعايير السليمة للزواج، هو الذي يُنبت الحب الحقيقي الراسخ الذي لا ينبني على أوهام أو عواطف مجردة، فمع العشرة الطيبة وحسن الخلق تنشأ تلك الرابطة القلبية وتنمو بلا حد. كم عطّلت أوهام الحب طاقات الشباب، وصرفتهم عن المسارات المثمرة، وظلوا أسارى السهر والأغنيات الحزينة، وربما وهنت أجسادهم من فرط الشوق وأصابهم المرض، لقد وصلنا إلى مرحلة صعبة من التقليد الأعمى للنمط الغربي، حيث صارت الفتاة التي ليس لها حبيب شخصية معقدة غير سوية نفسيًا. إنني أتحدث هنا عن تلك الحتمية التي وضعها الشباب لأنفسهم أو وُضعت لهم، بأن العاطفة لا مجال لها إلا في ذلك الوقت الذي يسبق الزواج، والذي يسمونه مقبرة الحب، لذلك كثيرا ما تظل نهايات هذا الحب مفتوحة، إنها دعوة لتصحيح المفاهيم حول عاطفة الحب التي تخبّط في التعامل معها كثير من أبنائنا وبناتنا، وأحالت حياة الكثيرين منهم جحيمًا، فأهدروا طاقاتهم وهُم يُهرولون باتجاه السراب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن