اللاجئون الفلسطينيون وحقّ العمل
كتب بواسطة د. محسن محمد صالح
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1402 مشاهدة
أثارت الحملة التي أطلقتها وزارة العمل اللبنانية على “العمالة الوافدة” في لبنان ردود فعل كبيرة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين، الذين شعروا أنه تمّ استهدافهم ضمن هذه الحملة، بالرغم من الوضع السياسي والقانوني المختلف للاجئين الفلسطينيين، الذين لم يأتوا للبنان أصلا بحثا عن فرص عمل، وإنما كان قدومهم بسبب عملية تهجير قسري قامت بها العصابات الصهيونية في حرب 1948، فنشأت حالة لجوء اضطراري بسبب منعهم من العودة لمدنهم وقراهم التي أُخرجوا منها.
معاناة مستمرة
بعد أكثر من سبعين عاما، ما زال لبنان من أكثر البلدان التي يعاني فيها اللاجئون الفلسطينيون من حرمانهم من العديد من حقوقهم الاقتصادية والإنسانية، بما في ذلك حرمانهم من العمل في الكثير من الوظائف، والتعقيدات الإجرائية في الحصول على رُخص العمل، وحرمانهم من حق التملك. بل إن القانون الحالي يحرمهم رسميا من حق توريث منازلهم المسجلة بأسمائهم إلى أبنائهم وورثتهم.
وخلال الخمسة عشر عاما الماضية، حدثت بعض الإجراءات المحدودة لتخفيف بعض أشكال معاناة اللاجئين. فجرى تخفيف أعداد المهن الممنوع من مزاولتها، وسمحت بعض التعديلات القانونية في سنة 2010 بإعفاء الفلسطينيين جزئيا من شرط ما يسمى “المعاملة بالمثل” المطبقة في العلاقة مع الدول.
وأتيحت لهم فرصة الاستفادة جزئيا من نظام الضمان الاجتماعي، بعد أن كان مطلوبا من اللاجئ أو من رب العمل دفع 23 في المئة من مرتبه دون الحصول على أي منافع من ذلك، حيث أصبح قادرا على الاستفادة فقط من 8.5 في المئة (ثمانية ونصف بالمئة) هي مخصصات نهاية الخدمة.
ولذلك ظلت المشكلة قائمة من الناحية العملية ومن ناحية الحرمان من كثير من الوظائف والمهن، ومن ناحية الحصول على رخص عمل، ومن ناحية عدالة الضمان الاجتماعي الذي يأخذ منه أكثر بكثير مما يعطيه.
اللاجئون قوة تنموية إيجابية
إن مخاوف بعض الأطراف من “العمالة” الفلسطينية، وأنها ستكون منافسا للعمالة اللبنانية، هي مخاوف غير حقيقية، ومبنية على حسابات غير دقيقة.
فوفق الإحصاءات اللبنانية الرسمية، فإن عدد الفلسطينيين في لبنان بلغ نحو 174 ألفا، وعلى افتراض أن هناك أعدادا لم يشملها الإحصاء؛ فربما أمكن إضافة عشرات الآلاف ليصبح العدد نحو 220 ألفا. ولكن إحصاءات الأونروا تشير إلى أن العدد المسجل لديها هو نحو 550 ألفا.
ويعني الأمر أن ثمة “نزيف” فلسطيني لأكثر من 300 ألف موجودون في الخارج بشكل دائم أو مؤقت. وعلى ذلك، فإذا حذفت أعداد النساء (50%) حيث الأغلبية الساحقة منهن لا تعمل، وإذا حذفت أعداد الأطفال دون سن الثامنة عشر (30-35%) من المجموع؛ فإن قوة العمل الفلسطينية الحقيقية ستكون بحدود خمسين ألفاً، أكثر من نصفهم عاطل عن العمل، ويعمل جزء كبير منهم في المخيمات على حسابهم. بالتالي فإن حجم العمالة الفلسطينية هو حجم محدود، بل وضئيل قياسا بغيرهم.
من ناحية ثانية:
فإن الحديث عن عبء اللاجئ الفلسطيني على الدولة اللبنانية هو حديث مبالغ فيه كثيرا؛ فالدولة بشكل عام لا تنفق على البنى التحتية في المخيمات، ولا تقدم خدمات خاصة باللاجئين الفلسطينيين من موازناتها، والفلسطينيون غير مستوعبين في النظام الصحي والتعليمي والرعاية الاجتماعية.
من ناحية ثالثة:
فإن السماح للاجئين الفلسطينيين في العمل، فضلا عن أنه حق إنساني طبيعي، هو بحد ذاته خدمة للاقتصاد اللبناني؛ حيث سينعكس جهده إيجاباً على عملية التنمية وتلبية احتياجات القطاعات المختلفة. ويُحوِّل اللاجئ من طاقة سلبية محرومة من الإنتاج إلى طاقة منتجة وإلى قيمة مضافة وستؤدي “شرعنة” عمل اللاجئ إلى دخوله في نظام الضرائب ودفع الرسوم المختلفة؛ وهو ما سيضيف رصيداً جديداً لخزينة الدولة.
من جهة رابعة:
فإن العامل الفلسطيني في لبنان سينفق دخله المالي في لبنان نفسها، وسيعيد توزيع دخله مرة أخرى على قطاعات الاقتصاد اللبناني المختلفة، مما يشكل حافزاً تنموياً في البلد؛ وهو بخلاف العمال “الأجانب” الذين يحولون مئات الملايين من الدولارات من دخولهم إلى بلدانهم.
من جهة خامسة:
فإن الفلسطينيين الحاملين للوثيقة اللبنانية، ممن اضطروا للخروج للعمل في الخارج في دول الخليج وأوروبا وغيرها، يُحوّلون إلى عائلاتهم مئات الملايين من الدولارات سنويا، والكثير منهم يرغب باستثمار ماله في لبنان، وهو ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد اللبناني.
من ناحية سادسة:
فإن استمرار التضييق على اللاجئين الفلسطينيين، وحرمانهم من حقوقهم في العمل يؤدي إلى نشوء ظروف من المعاناة والشعور بالظلم والقهر، وهو ما يولد ظروفاً ومناخات للتطرف، وتصاعد المشاكل الاجتماعية، واستغلال بعض الأطراف حاجات اللاجئين لتجنيد بعضهم لأجنداتها الخاصة، بما قد يضر بالبلد وأمنه واستقراره. لذلك فإن عمل اللاجئين في ظروف كريمة هو حاجة سياسية وأمنية واجتماعية لبنانية، كما أنه حاجة اقتصادية.
من ناحية سابعة:
فإن الدراسات العلمية العالمية تشير إلى أن ظاهرة اللجوء هي في أغلب الأحيان ظاهرة إيجابية على اقتصادات الدول، إذا ما أحسن التعامل معها. يؤكد ذلك مثلاً مشروع هاميلتون (وهو مجموعة بحثية اقتصادية ومركز تفكير ضمن معهد بروكينجر (أحد أكبر خزانات التفكير في العالم) تمّ إطلاقها سنة 2006).
إذ تؤكد دراساته على دورهم في الصعود الاقتصادي وزيادة الإبداع، وأن معظم الدول الغربية استفادت من قدوم اللاجئين. وتشير الدراسات إلى أن العديد من الشركات العالمية الكبرى أسسها مهاجرون مثل جوجل وأنتل وبيي بال Pay Pal وإي بيي e-bay… وغيرها. وأن أكثر من نصف الموظفين المهرة في “وادي السليكون” في الولايات المتحدة من المهاجرين. وأن أكثر من نصف براءات الاختراع المسجلة هي لمهاجرين أو أبنائهم…، مع أن هؤلاء لا يمثلون أكثر من 15% من السكان.
والفلسطينيون الذين اضطروا للجوء للبنان جاؤوا ومعهم نحو 150 مليون جنيه فلسطيني (أي ما يقارب 15 مليار دولار بأسعار الصرف الحالية)، وأسهموا بشكل يعلمه الجميع في نهضة الاقتصاد اللبناني، وإنشاء الكثير من المؤسسات الكبرى، قادرون على متابعة دورهم الاقتصادي الإيجابي. بالتالي، فالمطلوب من القيادة السياسية اللبنانية، مراعاة حالة اللجوء القسري الفلسطيني، والتعامل معها بروح إيجابية، والبناء على تجارب الآخرين في هذا الإطار.
مقاربات وحلول متعثرة
المقاربة التي أشرفت على إعدادها لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وهي لجنة رسمية حكومية تتبع رئاسة الوزراء اللبنانية، التي نتج عنها وثيقة “رؤية لبنانية موحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان” ووافقت عليها القوى السياسية اللبنانية؛ مثَّلت خطوة مهمة لعلاج حقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
هذه الوثيقة صدرت في كانون الثاني/ يناير 2017، وكان هناك توافق على توفير الحقوق الإنسانية للاجئين، وتمتعهم بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وتحسين أوضاع المخيمات الفلسطينية، “وأنسنة” الإجراءات الأمنية، واحترام وضمان الحقوق والحريات السياسية السلمية للاجئين، وتسهيل إنشاء الجمعيات في الوسط الفلسطيني، والموافقة على وجود لجان تمثل المخيمات.
غير أنه بعد أكثر من سنتين من صدور هذه الوثيقة، لم تنفذ إجراءات حقيقية على الأرض، واستمرت المعاناة، واستمر “النزيف الفلسطيني” حيث يضطر الكثير من الفلسطينيين للهجرة خارج لبنان بكافة الطرق الشرعية وغير الشرعية.
ويمكن إرجاع ذلك ربما لوجود رغبة “غير معلنة” لدى بعض الأطراف بتوفير بيئة طاردة للفلسطينيين، بسبب مخاوف من “التوطين”، أو لحسابات طائفية أو اقتصادية أو سياسية. ومن جهة أخرى، فإن منظومة القرار السياسي والتشريعي في لبنان هي نفسها منظومة بطيئة، وتعاني من مشاكل حقيقية، بسبب التركيبة السياسية والطائفية المتداخلة والمعقدة، وهو ما يعطل مصالح اللبنانيين أنفسهم كما حدث في اختيار رئيس الجمهورية، أو تشكيل الحكومة، أو إقرار الميزانية، أو حتى علاج أزمة النفايات.
بالتالي لا ترى العديد من القوى أن معالجة حقوق اللاجئين مسألة ملحة؛ كما أن بعض القوى التي تعلن تبنيها للمطالب الفلسطينية، لا ترغب في الضغط على حلفائها الذين لديهم تحفظاتهم في موضوع حقوق اللاجئين.
وأخيرا، فإن على القوى اللبنانية المتعاطفة مع الحق الفلسطيني، والتي ترفض تصفية القضية وترفض “صفقة القرن” ألا تكون بشكل مباشر أو غير مباشر جزءاً من “النزيف” الذي يجبر الفلسطينيين على الخروج من لبنان، والذي يؤدي عملياً إلى تصفية الوجود الفلسطيني فيه.
.
بالتالي، فلا أقل من أخذ الفلسطيني حقوقه الطبيعية، التي تمكنه من البقاء قريباً من فلسطين بانتظار العودة إليها، في الوقت الذي سيكون فيه هذا الإجراء ليس رفعا للظلم فقط، ولا للصورة السلبية عن الإدارة الرسمية اللبنانية، وإنما أيضا إضافة نوعية للاقتصاد اللبناني نفسه، ومزيداً من الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني للبلد.
المصدر : عربي 21
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة