ظاهرة الإلحاد ومسؤولية علماء الأمة
هل يمكن -كما يقول السؤال- أن يكون العلماء والدعاة سبباً مباشراً في انتشار الإلحاد؟
الجواب: لا يمكن أن يكونوا كذلك، كيف وهُم الدعاة إلى نقيضه، إلى الإيمان؟
لكنّهم يمكن أن يكونوا -أو يكون بعضهم- سبباً غير مباشر في انتشار هذه الظاهرة، إمّا بعجزهم عن تقديم أجوبة مقنعة على شكوك الشباب وتساؤلاتهم، أو بالدفاع عن بعض ما في تراثنا من هفوات وهنوات تحتاج إلى مراجعة وإصلاح، بل ومحاربة المصلحين الذين يسعون إلى الإصلاح بإخلاص، أو بالاصطفاف مع الطغاة والدفاع عن المستبدّين، ممّا يصنع ردّة فعل باتجاه الابتعاد عن الدين الذي يمثله “أولئك العلماء”.
على أنّني أجد أنّ السؤال نفسه ليس مهمّاً، فتوزيع المسؤوليّة عن هذه المشكلة بين العلماء وغيرهم لن يحلّها، ولن يُعيد الملحدين والشاكّين إلى الإيمان، المطلوب هو علاج الظاهرة، فيتغيّر السؤال من: “هل العلماء مسؤولون؟” أو: “مَن المسؤول؟” إلى “ما أسباب المشكلة وما العلاج؟”
وأوّل خطوات العلاج هو التشخيص، فما لم يكن التشخيص صحيحاً لن يصحّ العلاج، فالطبيب الحاذق لا يصف للمريض دواء لتخفيض الحرارة، ويتغافل عن سببها، بل يهتمّ بمعرفة السبب الذي رفع حرارة البدن، ثم يبحث عن العقّار الذي يعالجه، فتزول الحرارة بزوال أسبابها الحقيقيّة، ولا تعود إلى الظهور بعد بضع ساعات.
يجب علينا أن نفهم ظاهرة الإلحاد، وأن نعرف أسبابها قبل أن نبدأ بالعلاج، وعند البحث سنجد أنّ الإلحاد ليس شكلاً واحداً، بل هو أربعة أنواع، لكلّ منها سببه وطريقة علاجه.
النوع الأوّل هو “الإلحاد النفسيّ”، وهو ليس إلحاداً على التحقيق، بل هو أقرب إلى الغضب، وردّ الفعل، بسبب ما يصيب الإنسان من بلاء، وكلّما زاد البلاء زادت قوّة ردّة الفعل، فممّا هو مقرّر في العلوم النفسيّة أنّ “الظروف المتطرّفة تنشئ استجابات متطرّفة”. نعم، هي متطرّفة في درجتها، ولكن لا يمكن التنبّؤ باتجاهها، فهي تجنح إلى أحد طرفَي ردّة الفعل وليس إلى أحدهما حصراً. مثال: الرعب الشديد في ساعة الكارثة قد ينتج عنه شلل كامل وعجز عن التصرّف، أو نشاط يفوق الحدّ، ويدفع إلى تصرّف يتجاوز القدرات البشريّة العاديّة.
كذلك البلاء الهائل: إمّا أن يَنتج عنه إيمان صوفيّ عميق، أو إلحاد وإنكار للقوّة الكليّة الرحيمة التي يمثّلها الإله الكامل. في كتابه “مشكلة الشرّ” (وهو من الكتب التي عالجت هذه المشكلة بعمق وشمول) وصف المؤلّف دانيال سبيك ما حصل مع أب وأمّ بعد غرق ابنتهما الصغيرة في المسبح، وكان كلاهما من المسيحيين المتحرّرين قبل الحادثة، فقد انقلبت الأم إلى تديّن أشبه بتديّن الراهبات، فيما ألحد الأب وكفر بالإله وخرج من الدين.
هذا النوع من الإلحاد يفشو في حالات الكوارث العامّة، التي يعمّ فيها البلاء، ويتجاوز حدودَ الاحتمال، كما في سوريّة اليوم، فقد تحوّل الإلحاد مؤخّراً من حالات فرديّة إلى ظاهرة عامّة، ولكنّه ليس إلحاداً مقلقاً على المدى الطويل، فحيث إنّه “استجابة نفسيّة لحال طارئة” فإنّه ينحسر بانحسارها، وأتوقّع أن يعود أكثرُ الملحدين النفسيّين إلى الإيمان آجلاً أو عاجلاً، ربّما في عشر سنين من الآن (أعني الغالبيّة منهم، فلا بدّ أن تبقى منهم بقيّة لن تعود أبداً إلى الإيمان للأسف الشديد). وسوف تعتمد عودة هؤلاء الناس إلى الدين على تغير الظروف وانكشاف البلاء، وعلى جهود الدعوة التي يبذلها العلماء والدعاة إذا وسّعوا صدورهم وأحسنوا الخطاب.
النوع الثاني هو إلحاد ردّة الفعل، فهو ليس موقفاً من أصل الدين، بقدر ما هو موقف رافض لطريقة عرض الدين، أو لحَمَلة الدين والناطقين باسمه، وضحاياه من العوام أو من الذين يعانون من “كسل عقليّ”، فهؤلاء لا يتقنون فنّ الانتقاء، والقدرة على التمييز بين ما يُؤخَذ وما يُرَدّ، أو أنّهم لا يحبّون أن يُتعبوا أنفسهم بالبحث والانتقاء، فهم يقبلون المنظومات كاملة أو يرفضونها كاملة، الدينيّة منها والاجتماعيّة والاقتصاديّة والعلميّة وسواها من المنظومات المعرفيّة، فإذا عانى أحدهم من بعض التقاليد البالية ثار على التقاليد كلّها ورفضها بخيرها وشرّها، وإذا وجد ما يخالف العقل والفطرة في بعض الأحكام الشرعيّة المقرّرة في بعض كتب القدماء نبذها بالجملة، وإذا رأى ما يعيب في سلوك ومواقف العلماء الذين يمثّلون الدين أسقط الدين كله.
هذا النوع من الردة تتحمّل المسؤوليّة عنه ثلاثةُ أطراف: الأوّل والثاني هما علماء السلطان وجماعات الغلاة، كداعش والقاعدة، هذان الطرفان قدّما لعوامّ الناس صورة مقزّزة منفّرة عن الدين، ولم يستطع كثيرون أن يدركوا أنّ ما قدّموه ليس هو الدين بل هو صورة سلبيّة سيّئة منه، فنبذوا علماء السلطان والتنظيمات الغالية ونبذوا معهم الدين كلّه.
الطرف الثالث: أهمّ بالنسبة إلينا، لأنّنا لا نملك السيطرة على علماء السوء، ولا على الغلاة ولا يسعنا إلا أن نتدارك أخطاءهم، ونعمل على تصحيحها ومحو آثارها السلبيّة.
الطرف الثالث هو ما يهمّنا، لأنّه هو نحن، نحن نمثّله، ونحن نملك مفاتحه، هذا الطرف الذي يتسبّب في نشوء وانتشار ظاهرة الإلحاد هم العلماء والدعاة الذين يتشبّثون ببعض ما ورد في كتب التراث من هفوات وهَنات تسيء إلى الإسلام وتنفّر منه أصحابَ العقول الواعية، وهي تحتاج إلى مراجعة وتصحيح باستعمال الأدوات الشرعيّة نفسها التي صنعها بها الأقدمون، فإذا جاء منّا مَن يصنع ذلك ويزيل اللّبس (وهو منّا، من داخل المدرسة الإسلاميّة، ليس عدوّاً ولا هو غريب عنّا) لقي من العنت والرفض من أصحاب المدرسة التقليديّة ما لا يوصَف، كما صنعوا مع اثنين من أهمّ دعاة العصر وأئمّته، الغزاليّ والقرضاويّ، عندما ناقشا بعض أحكام المرأة أو السياسة الشرعيّة التي أخطأ فيها القدماء، والأمثلة في هذا الباب لا تُحصى.
علاج هذا النوع من الإلحاد، يحتاج إلى صبر ووقت وسعة أفق، واستعداد للتخلّص من “رُهاب القدماء”، ورغبة في التجديد ضمن أصول الدين وقواعده الكلّيّة، ولا يكون إلا بالدعوة والقدوة والبيان، ونتائجه -غالباً- مثمرة على المدى الطويل بإذن الله.
النوع الثالث هو إلحاد الشهوة، وصاحبه أمّيّ بالدين، ولا يهتمّ بالفكرة الدينيّة أصلاً، ولا بعالَم الغيب، ولا يناقش الأفكار الميتافيزيقيّة من أساسها، إنّما هو صاحب هوى، يتبع غرائزه وشهواته وأهواءه، ويرى أنّ الدين قَيد مزعج، فهو يتحلّل من قيود الدين بإنكار الدين، ليس لأنّه لا يؤمن بالأفكار الدينيّة بل للفرار من تبعاتها وقيودها فحسب.
هذا النوع من الإلحاد ليس إلحاداً حقيقيّاً، بل هو إلحاد كاذب يتّخذه صاحبُه وسيلةً لتخليص نفسه من قيود الدين، ومن ضغط الضمير، وعلاجه يكون بالدعوة والإصلاح الأخلاقيّ، وغالباً يعود صاحبه إلى الدين عودة تلقائيّة مع تقدّمه في العمر، أو يعود إلى الدين فجأة بعد صدمة قويّة يحسّ فيها بالحاجة إلى الله، أو يعود مع الوقت من خلال التأثر التراكميّ بالموعظة والتذكرة والدعوة، وقد رأيت في حياتي الطويلة ما لا يُحصى من الأمثلة في هذا الباب.
النوع الرابع هو إلحاد العقل، وهو أصعب أنواع الإلحاد، بل يمكن أن نقول إنّه هو الإلحاد الحقيقيّ، بين الأنواع كلّها، وهو يتراواح بين ثلاثة مستويات: إلحاد الخالق، بمعنى نفي وجود الله جملة (atheist). والشكّ في وجوده، أو عدم الجزم، لا بوجود الخالق ولا بعدمه، وهؤلاء يسمَّون اللاأدْرِيّين (agnostic)، والاعتراف بالخالق مع إنكار الدين، وهؤلاء هم الربوبيّون (deist).
يؤسفني أن أقول: إنّ غالبيّة الدعاة الذين تصدّوا لمشكلة الإلحاد وتصدّروا لها أنفقوا كلّ وقتهم في النوعين الأوّل والثاني، وهما أقلّ الأنواع أهمّيّة على الإطلاق، حيث إنّ علاج مشكلة وجود الله سهل نسبيّاً، كما أنّ عدد الناس الذين ينكرون الخالق أو يشكّون فيه شكاً حقيقيّاً أقلّ بكثير من الذين يؤمنون بالخالق ولا يؤمنون بالوحي والرسالات.
نعم، المؤسف أنّ الغالبيّة العظمى من الدعاة والعلماء صرفوا جهدهم وأبحاثهم وكتاباتهم وأحاديثهم كلّها لإثبات وجود الخالق، ولنقد النظريّات الماديّة والتطوريّة، وغفلوا عن النوع الثالث، وهو الأكثر انتشاراً، والأصعب علاجاً على الإطلاق، حيث إنّ الربوبيين الذين يعتقدون بوجود خالق (ولكنّهم ينكرون عمله في الكون، وينكرون النبوّة والبعث والحساب) يبلغون أضعاف النوع الأوّل، وهؤلاء هم الأصعب إقناعاً، وهذه الحال هي الجديرة بالبحث والمتابعة وتوجيه الجهود لعلاجها.
هذه أفكار مختصرة من بحث طويل ما زلت أشتغل فيه منذ بضع سنين، لعلّ الله يعينني على إتمامه ونشره غيرَ بعيد بإذنه تعالى، بتوفيقه عزّ وجل وبدعوات الصالحين والصالحات من أهل الفضل والمَكرُمات.
المصدر : رؤى للثقافة والإعلام
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة