طلائع التحرير.. فتية النصر والتمكين
لم تعد غزة اليوم كما كانت في العقود الماضية، حين كان العمل الجهادي يقتصر على مجموعاتٍ صغيرةٍ مسلحةٍ تعمل في الخفاء وفي ظل ظروف أمنية معقدة لتنفيذ عملياتٍ نوعيةٍ ضد قوات الاحتلال الصهيوني، وذلك بعد قيام سلطة أوسلو بتوجيه ضرباتٍ قاسية للفصائل الفلسطينية المسلحة عام 1996م وعلى رأسها حركة حماس، والعمل على ملاحقة واعتقال كل من يظهر عليه أي توجهات نحو الفكر المقاوم، بل إن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة عمدت إلى صناعة جيش من المخبرين الذين يتم تكليفهم بمهام التجسس وجمع المعلومات عن الشباب المجاهد، ليتم اعتقالهم والزج بهم في أقبية السجون، في محاولة لردعهم عن قتال الاحتلال الصهيوني ايذاناً بمرحلة جديدة أراد أن يفرضها أباطرة “السلام المزعوم” على الشعب الفلسطيني لدفعه قهراً من أجل “التعايش السلمي” مع من اغتصب أرضه وهدم بيته وشرّده من دياره إلى مخيمات اللجوء والشتات!
ومع انطلاق شرارة انتفاضة الأقصى عام 2001م أعادت الفصائل الفلسطينية تنظيم صفوفها من جديد، ونجحت في استقطاب أعدادٍ كبيرةٍ من الشباب الفلسطيني الذي يتوق إلى مقاومة عدوه وتحرير أرضه وتطهير مقدساته، ونفّذت الفصائل عمليات نوعية زلزلت أمن الكيان الصهيوني، وحطمت أسطورة منظومته الأمنية والعسكرية بسلسلة ممتدة من العمليات الاستشهادية وعمليات التفجير واطلاق النار، والتي ازدادت قوةً وعنفواناً مع كل جريمة ومجزرة صهيونية يرتكبها العدو بحق أبناء الشعب الفلسطيني حتى عام 2006م، حين فازت حركة حماس بالانتخابات البرلمانية فوزاً كاسحاً فرفضت حركة فتح ومجموعاتها المسلحة والأجهزة الأمنية التابعة لها القبول بنتائج الانتخابات وتسليم السلطة لحركة حماس، وصولاً إلى يوم الحسم العسكري لغزة الذي سيطرت به حركة حماس وكتائب القسام بشكل كامل على قطاع غزة، بعد أن طردت عصابات التخابر مع العدو ومجموعات القتل والخطف وفرق الموت المرتبطة بحركة فتح وأجهزتها الأمنية.
شرخٌ كبير وصدعٌ عظيم أصاب القضية الفلسطينية برمتها جراء تلك الأحداث الدامية، قامت على إثرها سلطة فتح في رام الله بشن حملات أمنية كبيرة على مناصري وكوادر وقادة حركة حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة والمجموعات المجاهدة في الضفة المحتلة، وأعلنت عن حظر جميع أنشطة حركة حماس في الضفة، لتتحول بلداتها ومدنها جراء تلك السياسات الآثمة الظالمة إلى مناطق ضعيفة هزيلة لا تملك من أمرها شيء، ولا تقوى حتى على مقاومة جرائم المستوطنين الصهاينة الذين يسومون الأهالي والمزارعين الفلسطينيين سوء، بعد أن كانت أراضي الضفة الثائرة نموذجاً يحتذى به في المقاومة والجهاد، ولهيباً يحرق كيان العدو ومستوطنيه الذين لم يتجرؤوا على جرائمهم لولا خيانة أجهزة السلطة التي صادرت سلاح المجاهدين ولاحقت المقاومين وجرّمت الجهاد وحرّمت المقاومة، ورسخّت مفاهيم الذل والاستسلام التي ما زال يجابهها أبطال وأشاوس الضفة بعمليات الطعن والدهس واطلاق النار التي لم تتوقف برغم كل اجراءات العدو وأذنابه.
على النقيض تماماً، كانت غزة تؤسس لمرحلة جديدة من مراحل النضال والكفاح الفلسطيني عبر ترسيخ فكرة الجهاد وتعميم ثقافة المقاومة في كافة المستويات وعلى جميع الأصعدة، من خلال المواقع الرسمية الحكومية “الأمنية والمدنية” والمؤسسات التعليمية والخدمية، وحتى بعض مؤسسات المجتمع المدني والبلديات وغيرها، فكان لا بد من بناء أجهزة أمنية شريفة تلاحق العملاء والمتخابرين مع العدو وتحمي ظهر المقاومة، وتكوين منظومة إعلامية تتبنى الخطاب الجهادي المقاوِم وتوجّه الرأي العام نحو دعم المجاهدين واحتضانهم والإعلاء من شأنهم وقيمتهم في المجتمع الفلسطيني، وكذلك صناعة جيلٍ قرآني فريد يعلم حق الله وحق عباده وواجبه تجاه بلاده، ويؤمن بفريضة الجهاد ويتوق للالتحاق بساحات النزال وميادين الأبطال.
وصدق الدكتور يوسف القرضاوي حين قال:
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح *** وصناعة الأبطال علمٌ في التراث له اتضاح
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح *** في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح
شعبٌ بغير عقيدةٍ ورقٌ تذريه الرياح *** من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
لذلك دأبت كتائب القسام في السنوات الماضية إلى اعتماد برنامجٍ تدريبيٍ مكثف للفتية الفلسطينيين في المراحل الإعدادية والثانوية من جميع محافظات قطاع غزة تحت شعار “مخيمات طلائع التحرير.. للقدس ماضون”، وفتحت لهم مواقعها العسكرية خلال فترة الإجازة الصيفية، لكن تلك المخيمات توقّفت في السنوات الأخيرة بسبب الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها حركة حماس وجناحها العسكري كتائب القسام في ظل الحصار المستمر على القطاع منذ 12 عام، لتعود من جديد هذا العام بعد أن أعلنت قيادة القسام انطلاق المخيمات ودعت الشباب الفلسطيني للالتحاق بها، حيث وضعت الكتائب جميع امكانيات طواقمها التدريبية وسخرّت جميع مقدّراتها العسكرية واللوجستية لخدمة هذا المشروع الجهادي الكبير، حيث أدركت كتائب القسام أن معركة التحرير يجب أن تكون معركة شعبٍ وأمة وليست معركة تنظيماتٍ وأحزاب فحسب، فكان لا بد من العمل على صناعة هذا الجيل الفريد الذي سيكون بمثابة الرافد الأساسي لكتائب القسام والفصائل الفلسطينية في مشوار المقاومة والتحرير.
عشرات الآلاف من الشباب والفتية الفلسطينيين من مختلف التوجهات والمشارب الفكرية استجابوا لدعوات كتائب القسام والتحقوا بركب الأبطال وانخرطوا في العملية التدريبية المميزة، حيث قالت الكتائب خلال مؤتمر صحفي للإعلان عن انطلاق فعاليات المخيمات بأن الاقبال الكبير الذي فاق كل التوقعات من الشباب على التسجيل في المخيمات ألقى على عاتقها مسؤولية كبيرة، وأن مخيمات طلائع التحرير هي بذرةٌ تضعها المقاومة في أرض غزة لتنبت نصراً وعزة وكرامة وتحريراً للمقدسات، فهذه المخيمات تهدف إلى توعية الجيل الواعد، لأن الصراع على الجيل هو صراعٌ محتدمٌ ودائم بين شعبنا وعدونا، فالشباب هم رأس مال الشعب والمقاومة وهم المعوَّل عليهم في مشروع التحرير والعودة.
يتلقى الفتية الملتحقين بالمخيمات برامج متنوعة في العقيدة الإسلامية والقيم والأخلاق، والدفاع المدني والإسعافات الأولية، ومحاضراتٍ مختلفة تهدف إلى تعزيز الشباب وصقل مهاراتهم وتحصينهم روحياً وفكرياً وأمنياً, من خلال برامج عمل مكثفة يشرف عليها مدربون ذووا خبرة وكفاءة من طواقم التدريب الخاصة بكتائب القسام، كما يتلقى الفتية تدريبات عسكرية وكشفية أشبه بتدريبات المقاتلين في صفوف المقاومة الفلسطينية من حيث القوة والشدة، وكيفية التعامل مع مختلف الأسلحة والرشاشات، ودروسٍ عملية في استخدام مهارات حرب المدن، ومحاكاة لتنفيذ العمليات خلف خطوط العدو من خلال الأنفاق الهجومية “التدريبية”، وكذلك تتيح قيادة المخيمات للمشاركين في البرامج التدريبية فرصة للتعايش مع مختلف الأسلحة الفردية وطريقة تفكيكها وصيانتها، والرماية عليها بالذخيرة الحية بهدف الاعتياد على استخدام السلاح وكسر حاجز الرهبة لدى الفتية والشباب.
الاقبال الكبير على التسجيل في المخيمات ودفع الأهالي بأبنائهم إلى ميادين العز والفخار برغم الألم والحصار والفقر والفاقة، هو ردٌ عمليٌ من شعبنا الفلسطيني على العدو الصهيوني وأذنابه وداعميه، الذين يسعون من خلال ما يسمى بـ “صفقة القرن” و “مؤتمر البحرين الاقتصادي” لتصفية القضية الفلسطينية وكي وعي شعبنا المجاهد المؤمن بفكرة الجهاد، وهو درعٌ حصين أمام كل المحاولات الرامية لاجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه ونزعه من وطنه، وهو برهانٌ جديد على تمسك شعبنا بحقوقه وثوابته وسعيه الدؤوب نحو تطهير مقدساته، وثقته الكبيرة بقيادة المقاومة ومشروع التحرير حتى كنس آخر مغتصب صهيوني من أرضنا المقدسة ورفع راية الإسلام فوق مآذن القدس وفلسطين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن