أمي... حرِّريني من قيودك!!
حملت أماني بعض الكرّاسات واحتضنتها محاوِلةً الخروج من المنزل دون أن تراها والدتها... فهي لا تريد أن تسمع منها المعزوفة نفسها... فوصلت إلى الباب ثم صرخت من بعيد:
- باي أمي، أنا ذاهبة للجامعة...
- مهلاً يا ابنتي...
نظرت الأم إلى ابنتها بحُنوّ وقالت لها مبتسِمة:
- ألم تقولي إنه لا محاضرات عندكِ اليوم؟
ارتبكت أماني قليلاً وقالت:
- أجل أمي ولكن، أنتِ تعلمين أنَّ مشروع التخرُّج الذي نعمل فيه ضمن مجموعة يحتاج إلى لقاءات مكثّفة خارج دوام الجامعة، لذلك اتفقنا على اللقاء هناك.
- وفقكِ الله يا ابنتي...
همّت أماني بالهروب، إلا أن أمها استوقفتها قائلة:
- ألم نتفق سابقاً يا حبيبتي أن تُقفلي أزرار فتحة قميصك كلها؟ يا أماني: الفتاة بأدبها وحشمتها وحيائها... لا بعرضها لجسدها لكلِّ ذي عَيْن...
- يا أمي... تحاسبينني على كلِّ كبيرةٍ وصغيرة... ألا تريْن جارتنا أم هاني كيف تتعامل مع بناتها فتسمح لهن بارتداء ما يُرِدن دون ملاحقة... وزميلتي رشا... أنت تعرفين طريقة لباسها... ليتكِ يا أمي تمشين على الطريق، أو تأتين إلى الجامعة لتعرفي أن العصر الذي عشتِ فيه غير عصرنا... اذهبي لتعرفي أنني الملتزمة... المحتشمة بين زميلاتي... أمي ... أكاد أختنق.
- حسناً يا ابنتي... أنهيتِ خطبتكِ العصماء؟ لا ألومكِ يا ابنتي... فأنا المخطئة، إذ تركتكِ حتى اليوم بِلا حجاب... كان يجب عليّ أن أرغِّبكِ فيه منذ نعومة أظفارك حتى يختلط حبّ السِّتر في دمك ويصوغ أفكارك... أجل، أنا المخطئة... على الأقل ما كنتِ أتيتني بأفكار غريبة عن ديننا متمرِّدة على ما تربّينا عليه ...
- أمي... هل أنت حزينة؟
- أجل: حزينة يا أماني عندما أرى ابنتي ستتخرّج من الجامعة حاملة أفكار مسمومة وعادات وثقافات التقطتها دون وعي من هنا ومن هناك، وأصبحت تجد أنّ ما تربّت عليه قد عفا عنه الزمن وصار من الماضي...
سبحان الله... هل أصبحت الحشمة موضة قديمة وأصبح الحياء عملة نادرة لدى فتيات اليوم؟
على أيِّ حال أغلقي أزرار القميص... أنا أعلم يا ابنتي أنكِ تستطيعين فتحها حالما تخرجين... لكن تذكري: إن كنتُ لا أراكِ فإن الله يراكِ... تذكري هذا جيداً... وكوني على ثقة أنني أحبّكِ أكثر من نفسي، وحريصة على حمايتك، وحريصة أكثر على نجاتك من عذاب الله... فلا تعتبري حرصي هذا قيداً يكبِّلك... هداكِ الله يا ابنتي.
شعرت أماني بالاختناق وهي تودّع والدتها...
وما إن التقت صديقاتها في مطعمٍ على شاطئ البحر كما اتفقن سابقاً... حتى تهاوت على أقرب مقعد وأردفت قائلة:
- أُف... أكاد أختنق... أشعر أنني سجينة... مقيّدة... تعليمات... أوامر... افعلي... لا تفعلي...
عندما أتزوج وأصبح أماً سأعطي لبناتي ولأبنائي الحرية الكاملة يفعلون ما يريدون. فليعيشوا حياتهم كما يحلو لهم.
قالت ندى:
- مهلاً... ما هذه العاصفة التي أتيتنا بها؟ لا تقولي إنكِ اشتبكتِ مع أمكِ كالعادة.
- أماني: أجل... إنها أمي... كالعادة.
- ندى: ما بها هذه المرة؟
- أماني: تصوّري، إنها تلاحقني بأسئلتها وبتعليماتها... ليس لديكِ اليوم محاضرات... أقفلي أزرار قميصك... لقد مللت... أخبرنَني ... ماذا أفعل؟
تدخلت صفاء قائلة:
- أرى أنكِ تضخِّمين المسألة قليلاً، أليس كذلك؟
أماني وقد تجهَّم وجهها: ماذا تقصدين؟ أتريدين أن تقولي إنكِ لا تنزعجين من تعليمات أهلك؟
- ليس تماماً... أحياناًُ أتضايق... ولكنني أعرف في قرارة نفسي أنه من حق أهلنا علينا أن نسمع لهم ولنصائحهم، فهم لا يريدون لنا إلا الخير. ثم دعيني أسألكِ سؤالاً؟ لماذا تخرجين دائماً بالخفاء عن أهلك؟ هل تشعرين أنكِ تخطئين عندما تخرجين مع زميلات لكِ في مكان عام؟
- لا، ولكن أخشى أن يمنعني أهلي، فأوفّر على نفسي سين وجيم، هذا كل ما في الأمر. ثم إن ذلك يُشعِرني بالحرية... يُشعِرني بأنني أتخذ قراراتي بنفسي.
- صفاء: لو أنكِ تشعرين بالحرية حقاً لكنتِ تصرفتِ في العلن، وأخبرتِ أمكِ أنكِ ذاهبة للترفيه عن نفسك مع زميلاتك، بل وأعطيتها عنوان المطعم الذي نجلس فيه الآن... وما احتجتِ للكذب وإخفاء الحقيقة.
- أماني: يا حضرة (المُطيعة) لو أنكِ بالفعل تطيعين أهلكِ دائماً لكنتِ تحجّبتِ وأنتِ تعانين من محاولاتهم الحثيثة لإجباركِ على ارتداء الحجاب.
ابتسمت صفاء قائلة:
- أتدرين؟ الفرق بيني وبينك أنني أعترف بأنني مخطئة، ودائماً أدعو الله أن يعطيَني الإرادة القوية للإقدام على هذه الخطوة، أما أنتِ فتشعرين أنكِ غير مخطئة في كل ما تفعلين، بل تنسبين الخطأ لأهلك وأنهم (دَقّة قديمة) ولا تتقبّلي منهم أيّ نصيحة، في حين أعتبر أن من حق أهلي عليّ توجيهي؛ بل هذا هو واجبهم، لأنهم أصلاً محاسَبون أمام الله على تربيتهم لنا: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً...)، وأُظهِر لهم دائماً أنهم على حق، إلا أنني أستمهلهم... مرة عندما أُنهي الثانوية... وأخرى عندما أتخرّج...
- تدخّلت ندى موجِّهة حديثها لصفاء: أتريدين أن تقنعيننا بأنكِ لا تتمنّينَ أن يكون أهلك أكثر انفتاحاً وأقل تقييداً لحريّتك؟ ألا تحبّين أن تدخلي وتخرجي دون أن يحاسبكِ أحد؟
- صفاء: قد لا تصدِّقن أنني بالفعل لا أتمنى ذلك، بل سأشعر بأنني مهمَلة لا أحد يهتم لأمري ولا يخاف عليّ، حقيقةً سأشعر بالحزن لو أنّ أهلي ما سألوني: أين كنتِ؟ ومع مَن تخرجين؟ سأحزن إن لم أتلقَّ التربية التي أستحق، فهذه مسؤولية أهلي أن يجنِّبونني مواطن الزلل، فخبرتهم في الحياة أعمق بكثير مني، فلماذا لا أستفيد؟ ولماذا أشعر أنني في حروب ومعارك مستمرة مع أهلي لانتزاع ما ليس من حقي؟ وأنا على يقين من حب أهلي لي، وحرصهم عليّ وعلى سمعتي، وعلى مستقبلي، وعلى تكوين شخصيتي على أحسن صورة... صدِّقيني يا ندى أنا سعيدة بأهلي، وأقول في قرارة نفسي: ليتهم أمروني بالحجاب منذ صِغَري ما كنتُ وجدتُ الآن صعوبة في ارتدائه. وأعتقد أنني لو كنتُ أماً – وتلتفت إلى أماني – سأكون بعكس أماني... سأحرص على أبنائي وبناتي، وأحميهم من شرور أنفسهم، ومن أصدقاء السوء... ومن المجتمع.
تكلّمت هناء للمرة الأولى (بعد إنصاتٍ عميق) قائلة: أتدرين يا صبايا بأن صفاء كلامها منطقي ومُقنِع؟ فأنا أهلي لا يسألون عني ويتركونني أفعل ما يحلو لي... ومع ذلك لا أشعر بالسعادة، أشعر دائماً بفراغ... أشعر بحرمان عاطفي... كلٌّ مشغولٌ بنفسه: أمي مع صديقاتها ... سهرات... وصبحيات... وولائم، وأبي في أعماله... وأنا وإخوتي كلٌّ له حياته الخاصة، لدرجة صرتُ أشعر فيها أنني أعيش في فندق. معكِ حق يا صفاء...
ونظرت إلى أماني قائلة: ليت لي أمٌ مثل أمِّك يا أماني... وأهلٌ مثل أهل صفاء، لكنتُ شعرتُ بالحرية في أن أعيش في كنف عائلة تهتم لأمري... وتوجِّهني... وتحميني من نفسي.
تمت
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة