يقظة الشعوب .. تُفاجىء الفاسدين والمستبدين
كتب بواسطة د. سعيد الشهابي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
992 مشاهدة
أهو الفساد المالي والاداري؟ أهي سياسات التقشف؟ أهو تراجع الحظوظ المالية والاقتصادية للدول؟ أهي «مؤامرات» من الخارج؟ أم هي الظاهرة الإنسانية الراغبة في التغيير السياسي بين الحين والآخر؟ برغم الحراك الإنساني المتواصل من أجل الإصلاح والتغيير فإن حدوث مسلسل من الاحتجاجات يبدأ في الشرق الآسيوي ويصل إلى الغرب الأمريكي ظاهرة تجذب النظر وتستدعي قراءة أخرى مختلفة عما هو سائد من القراءات والتحليلات.
عندما حدثت ثورات الربيع العربي بقيت محصورة ببقعة جغرافية محددة. نعم عبرت حدود الدول التي نشبت فيها ولكنها لم تتجاوز عالم العرب. وصحيح أيضا أن قوى الثورة المضادة تمكنت من إخماد لهيب تلك الثورات بكل الوسائل القمعية، ولكن الجمر الذي أشعلها ما يزال متقدا تحت الرماد. ولذلك لم تنته الأزمات التي دفعت لتلك الثورات. فهل يمكن القول إن الوضع في مصر استقر مثلا؟ أم في ليبيا؟ أم في سوريا؟ أم في البحرين؟ أم في اليمن؟ ولكن ماذا عن البلدان التي لم يصلها «الربيع العربي» قبل تسعة أعوام؟ لقد شهد العام الحالي عددا من الحراكات في بعض هذه البلدان، السودان والجزائر ولبنان والعراق، ماذا يعني ذلك؟ وبملاحظة ما يحدث اليوم في بلدان نائية لم يتوقع أحد حدوث اضطرابات فيها مثل هونغ كونغ وتشيلي وربما الاكوادور واسبانيا؟
عندما انطلقت الحراكات الشعبية في السودان والجزائر كان ذلك مثارا للاستغراب، فكلا البلدين، برغم غياب الديمقراطية الحقيقية عنهما، يتمتعان بنظامين أقل استبدادا وتوحشا من بقية الدول العربية. فلديهما برلمانات منتخبة وحريات لا تعتقل المواطنين لمحض التعبير عن الرأي. لكن كان واضحا أن الشعبين يتمتعان بنظرات تحررية متقدمة. فانطلقت الاحتجاجات في السودان مطالبة بإنهاء الحكم العسكري خصوصا أن عمر البشير حكم البلاد ثلاثين عاما متواصلة بعد انقلابه في العام 1989 على حكومة الصادق المهدي المنتخبة. وبرغم تدخل دول خارجية خصوصا الإمارات لمنع التغيير فقد تم تحجيم دور العسكر وجرى تعيين رئيس وزراء مدني، هو عبد الله حمدوك، ووضعت خارطة طريق لعودة الحكم المدني كاملا يفترض أن تؤدي لابتعاد العسكر عن الشأن السياسي. وينتظر السودانيون تنفيذ الوعود التي اتفقوا مع العسكر بشأنها، وإن كانت الشكوك تحوم حول مدى إمكان تحقق ذلك، خصوصا أن هناك دولا عربية ودولية تدعم العسكر وتراهن على تلاشي الحماس الشعبي للثورة بعد أن يصاب الشعب بالإنهاك والتعب. أما الجزائر فقد شهدت انتفاضة متواصلة منذ بضعة شهور انطلقت أساسا ضد قرار الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة الترشح لفترة رئاسية خامسة، الأمر الذي أغضب الجزائريين خصوصا أنه يعاني من أمراض عديدة ولا يستطيع ممارسة مهمات الرئاسة. وكان هناك استغراب كبير من حدوث الانتفاضة في بلد كالجزائر ما يزال يتعافى من الاضطرابات التي عصفت بالبلاد بعد إلغاء الممارسة البرلمانية في 1992. وحصدت تلك الاضطرابات أرواح ما يزيد عن مئتي ألف مواطن، وبرزت ظاهرة القتل الجماعي على أيدي الإرهابيين. وما تزال الاحتجاجات متواصلة، تخرج بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع بهدف إنهاء دور العسكر في الحكم المدني.
دوافع الاحتجاج السياسي تختلف من بلد لآخر ولكن الأمر المؤكد أن الأوضاع الاقتصادية من أهمها، فقد يصبر الناس على الاستبداد وقمع الحريات وقتا أطول من صبرهم على الجوع والفاقة. فإذا اجتمع الوضعان في بلد استحال إخماد ثورات مواطنيه مهما كانت القوة التي تستخدم لذلك، والبحرين مثال على ذلك، فهي البلد الذي استمر رئيس وزرائها في منصبه حتى الآن 48 عاما (منذ الانسحاب البريطاني من المنطقة) ويفتقر لأدنى مقومات الحكم المدني الحر، ويسجن لمدة خمس سنوات كل من يتفوه بكلمة أو يكتب تغريدة معارضة للسياسات الرسمية، وتكتظ سجونه بالآلاف من معتقلي الرأي.
ينتظر السودانيون تنفيذ الوعود التي اتفقوا مع العسكر بشأنها، وإن كانت الشكوك تحوم حول مدى إمكان تحقق ذلك، خصوصا أن هناك دولا عربية ودولية تدعم العسكر
بالإضافة إلى ذلك يعاني أهله من حرمان معيشي لا يمكن تصور حدوثه في بلد نفطي، فهناك أزمات متعددة كالبطالة المتصاعدة والإسكان وارتفاع الأسعار بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية. صحيح أن النظام تمكن، بدعم عسكري سعودي ـ إماراتي وقوات باكستانية وأردنية أضيف لها مؤخرا قوات نيوزيلاندية من القضاء الظاهري على الحراكات الواسعة، ولكن الغضب يتعمق بمرور الوقت، الأمر الذي يجعل انفجار الأوضاع مجددا بوتيرة أقوى من السابق أمرا متوقعا جدا. أما الاحتجاجات التي عمت المدن العراقية في الأوان الأخير فتؤكد دور الفساد المالي والإداري في تأجيج الاوضاع وإثارة المواطنين ضد النظام السياسي. وبعيدا عن الايديولوجيا والتنظيرات المتعددة، فإن الجوع يكفي لدفع الإنسان للاحتجاج حتى لو أدى ذلك للموت. ثورات الجياع من أشد التحديات التي تواجه الأنظمة المعروفة بالفساد. فالعراق، الذي يعتبر من أغنى الدول العربية، إن لم يكن أغناها بما يملكه من ثروات طبيعية أهمها النفط والزراعة والكوادر البشرية، مستهدف لتعطيل دوره العربي. هذا الاستهداف يجد أرضا رخوة في بلاد الرافدين، سببها ما عانى منه منذ سقوط النظام السابق في العام 2003 وإخضاعه لنظام سياسي يحمل أسباب تصدعاته في داخله، ابتداء بدستوره الكسيح ونظامه الانتخابي المؤسس على المحاصصة الحزبية والإثنية، ونخبه السياسية التي ولغت في الفساد بدون حدود. ويتوقع استمرار الأزمة في العراق نظرا لصعوبة تغيير نظام تأسس على دستور ونظام انتخابي وتوازنات سياسية، جميعا لا يستقيم مع مستلزمات الاستقرار.
أما لبنان فقد انطلقت انتفاضة شعبه في إثر قرار حكومي بفرض رسوم على استخدام نظام «واتساب» في الهواتف. وبرغم ضآلة الرسوم (20 سنتا في اليوم) إلا أنها كانت كافية لإحداث اضطرابات تصاعدت خلال أيام لتصبح «ثورة» شاملة تتجاوز الحدود الدينية والمذهبية ضد النخبة السياسية الحاكمة. وبرغم التنازلات التي قدمتها الحكومة إلا أن التظاهرات توسعت وأصبحت تطالب بإصلاحات جذرية في النظام السياسي ومنها إلغاء الطائفية السياسية ومكافحة الفساد والتحول إلى ديمقراطية حقيقية. وبرغم أن شعب لبنان يتمتع بحريات عامة، وأنه تعلم درسا قاسيا من الحرب الأهلية قبل أكثر من أربعين عاما إلا أنه بدأ يتصدى للفساد المستشري في مفاصل الدولة، وأصبح يطالب باحتوائه ومن ذلك التصدي لبيروقراطية الدولة التي تحصد نسبة غير قليلة من الموازنة في الوقت الذي تعاني الأغلبية من تردي الخدمات وتصاعد نسبة البطالة وارتفاع الاسعار.
هذه الاحتجاجات العربية توازيها حراكات سياسية قوية في هونغ كونغ واسبانيا وتشيلي. ففي الأولى اندلعت الاحتجاجات بعد أن سعت حكومة هونغ كونغ لإقرار قانون يسمح بتسليم المتهمين إلى الصين، الأمر الذي رفضه الكثيرون الذين احتجوا على مدى الشهور الستة الأخيرة بوتائر متفاوتة. وبرغم اعتذار رئيسة الوزراء، كاري لام وإلغاء القانون، إلا أن المحتجين ما زالوا يواصلون احتجاجاتهم بأساليبهم التي تصل إلى العنف أحيانا. إنه تعبير عن وضوح الرؤية لدى الجيل الثائر. الهدف ضمان استقلال بلادهم التي أصبحت تحت رحمة الصين التي تملك الجزيرة وتختلف معها في نمط الحكم. الواضح أن القوى الغربية تراقب الوضع عن كثب وهي متأرجحة في موقفها إزاء ما يجري هناك. موقف الأوروبيين يتأرجح كذلك إزاء ما يجري في اسبانيا والاحتجاجات التي عصفت بمدينة برشلونة داعية لاستقلال إقليم كتالونيا. فالاتحاد الأوروبي أبدى بعض الانزعاج من غلظة القوات الاسبانية في التعامل مع المتظاهرين السلميين، ولكنه لم يعلن موقفا واضحا حول مطلبهم الأساس المتمثل بالرغبة في تقرير المصير. ويلاحظ هنا المفارقة بين معاملة المحتجين في لبنان وهونغ كونغ من جهة والعراق واسبانيا وتشيلي من جهة أخرى. ففي البلدين الاولين تميز التعامل بقدر من الإنسانية وعدم استخدام الرصاص الحي، بينما لم يكن الأمر كذلك في البلدان الاخرى. إن ظاهرة الاحتجاج السياسي بالنمط الجاري مقلقة من جهة وواعدة بنتائج إيجابية من جهة أخرى. القلق ينبع من الشعور باستمرار تخلف الأنظمة السياسية في العالم، خصوصا الدول العربية، وتغول الاستبداد والديكتاتورية. ولكن ما يدفع للتفاؤل وجود مؤشرات لحراكات جماهيرية واسعة في العديد من الدول العربية تسعى للإصلاح والانفتاح بأساليب سلمية، بعيدة عن العنف. والأمل أن يتواصل هذا الحراك لكي تستعيد الشعوب (خصوصا أمتنا العربية والإسلامية) كرامتها وقوتها بالحرية والشراكة والتعددية في ظل دساتير يكتبها المواطنون وتؤسس لإقامة حكم القانون، وتقضي على ظاهرة الفساد الإداري المستشري في منظومات الحكم العربية.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة