باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، صدرت له 7 كتب منها: رحلة الخلافة العباسية (3 مجلدات)، نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب، منهج الإسلام في بناء المجتمع، محيي الدين بيري ريس، التأمل
كيف تؤثر الثلاجة على أعداد الفقراء في المجتمع وعلى معنى التوكّل على الله؟
مما أعجبني، فتاة تروي فتقول:
"اختلاطي بأهل القرى الصغيرة هناك كشف لي عن حيوات أخرى وجوانب لم أكن أبصرها على الإطلاق، فمن هذه المواقف والحوارات التي ما زالت مؤثرة فيّ حواري مع عجوز بلغت الستين من العمر وليس لها عائل، تذهب لتصطاد، وتأكل مما تصطاده وتعطي نساء أهل قريتها الفقيرات مما تصطاده، فلا ينامون جوعى، وتخبرنا بأن الناس قد تغيروا مع دخول الثلاجة، فاعتادوا أن يحتفظوا بالطعام لليوم التالي بدلا من إعطائه لمن يستحق، واعتادوا الخوف على الغد، هذه السيدة المعدمة الفقيرة لا تملك شيئا سوى قدرتها على الصيد بصعوبة، تساعد أهل قريتها المقيمين في عشش، ولا يمتلكون نقودا ويكتفون بالرزق القادم من الصيد، سألتها مرة: "يا حجة مش هتزعلي لو مش لقيتي سمك في يوم أو هتغضبي؟ قالت لي بتلقائية ويقين متعجبة من سؤالي: "أنا هغضب من ربنا!" انتهى كلام الفتاة.
فتحت لي هذه الفقرة بابا للتفكير في أمر طالما ناقشه الفلاسفة وعلماء الاجتماع، أولئك الذين يرون أنه حتى المنتجات المادية ليست مجرد آلات، بل هي تُضْمِر داخلها معنى الحضارة الذي أنتجتها.. فكل شيء بما في ذلك السيارة والطائرة والكمبيوتر والهاتف المحمول وتطبيقاته المتنوعة، كل هذه الأشياء ليست مجرد آلات صماء محايدة، وإنما هي المعاني الناطقة عن الحضارة التي صنعتها!
لو أن الزمن سار في مسار آخر، فاستمرت حضارة الإسلام، أوارتفعت حضارة الهند، أو الصين، أو حضارة إفريقية، لم يكن هذا التطور العلمي ليسير في ذات هذه المسيرة، ولن يكون عالمنا حافلا بنفس هذه المنتجات العلمية، ستكون هناك منتجات أخرى، لا أعرف كنهها، وتوقعها من أصعب ما يكون إذ يحتاج للخيال القوي العظيم مع العلم الغزير بالحضارات وبالفوارق بينها وهذا أمر لا يؤتاه إلا أندر الناس!
نعم، نرى وندرك الآن كيف أن الهاتف المحمول وتطبيقاته يزيد من نزعة الفردانية، ويهتم بإشباع اللذة الشخصية، أو المنفعة الذاتية.. أكاد أجزم أننا لو كنا في حضارة أخرى لكان شكل الهاتف المحمول سيكون مختلفا، ربما يكون جهازا غريبا يعزز الأسرة والترابط الاجتماعي عن طريق ألا يعمل -مثلا- إلا إذا استعمله خمسة من أسرة واحدة في وقت واحد!.. ربما يكون أمرا آخر!
السيارة مثلا، السيارة اختراع عظيم لتقريب المسافات وتوفير المجهود وتحقيق الراحة.. لكنه لا يحفل ولا يهتم بالفوارق الطبقية ولا بمشكلة الازدحام.. ربما لو كنا في نهضة حضارة أخرى لم نكن لنرى السيارة الفردية أبدا، سنرى دائما الحافلات الجماعية، وستكون السيارة الفردية مثل الطائرة الخاصة غالية الثمن جدا وعزيزةً جدا.. بينما سيكون شراء الحافلة للأسرة أو القبيلة أو الحي هو الأمر المتاح البسيط الذي في مناول الجميع.. لكن حيث أن السيارة نشأت في الحضارة الغربية الفردانية فإنها اهتمت أول ما اهتمت باللذة الفردية والمصلحة الذاتية!
في هذه الفقرة التي نقلتها في أول هذا المنشور، أدرك للمرة الأولى أثر الثلاجة الحضاري.. لأول مرة يلفت انتباهي أن الثلاجة تجعلنا نكنز الطعام ونستكثر منه ونخزنه فيها، دون أن نفكر في الصدقة على الجار المحتاج أو الفقير الساكن في أول الشارع! كما أنها تؤثر سلبا على توكلنا على الله ويقيننا في الله.. لعلنا لو كنا في سياق الحضارة الإسلامية كنا اخترعنا الثلاجات الكبرى الضخمة التي تُجْعَل للحي، مثلا: تمر سيارات الثلاجات يوميا تأخذ الطعام الزائد عن الحاجة في المنازل (كما تمر الآن سيارات القمامة لتأخذ فضلات المنازل) ثم تتولى توزيعه أو تخزينه في الثلاجات الضخمة.. ربما في سياق الحضارة الإسلامية لم نكن لنخترع الثلاجة أصلا، كانت ستحملنا القيم الإسلامية -مثلا- على اختراع أجهزة تكتشف معدل زيادات الطعام في البيوت ونقصانها، فننقل ما هو زائد إلى من هو محتاج لئلا يفسد!
ربما لم نكن لنخترع شيئا من ذلك أصلا، كان ترابطنا الاجتماعي الذي يحضّ عليه الإسلام (صلة الرحم وحقوق الجار والأخوة الإيمانية والصلوات الخمس في المساجد وغيرها)، ربما كان ذلك كله سيجعلنا في غير حاجة إلى أجهزة ولا إلى قواعد بيانات لأن كل الناس يعرفون بعضهم ويتواصلون مع بعضهم فيعرف الغني منهم حاجة الفقير، وإن لم يعرف، فإن طبيعة العلاقات الاجتماعية ستجعله يذهب لمن يعرف، سواء كان هذا شيخ المسجد أو شيخ الحارة..
نعم، أعرف أن كثيرا من التطبيقات الإسلامية استفادت من هذه الاختراعات، ذلك أن كثيرا منه يمكن الاستفادة منه، حتى الأشياء الصغيرة مثل معرفة اتجاه القبلة ومواقيت الصلاة إلى الثلاجة نفسها التي نخزن فيها لحوم الأضاحي للمحتاجين.. لكن ليس هذا موضع كلامي هنا ولا هو مقصود المنشور..
موضع الكلام ومقصود المنشور هو الإشارة إلى جوانب تخفى علينا من الآثار المادية للمنتجات الحضارية، وأنها ليست مجرد آلات صماء محايدة، وإنما هي بنت الحضارة التي أنتجتها، فكما قال اسبينوزا "نظام الأفكار هو نظام الأشياء"، ولذلك كان إصلاح الأفكار هو الأس والأساس والأصل الكبير لإصلاح كل الأشياء، حتى لو بدا من بعيد أن الأفكار لا علاقة لها بالأشياء، وأن السيارة مجرد آلة يستخدمها كل البشر دون أن يعنيهم من صنعها ودون أن يعنيها أفكار سائقها وقناعاته.
لذلك كانت بداية الإسلام من شهادة لا إله إلا الله، رغم أنها للوهلة الأولى تبدو مجرد معركة فرعية في مجتمع مليئ بالآلهة وحافل بالمشكلات الأخلاقية والطبقية والاقتصادية (واقرأ هنا الكلام البديع الرائق الصافي لسيد قطب عن سرّ البداية بلا إله إلا الله دون بقية المشكلات..
ويظل تمسكنا بالدين وقيمه وأفكاره هو الأساس الصلب الذي يجعلنا أمةً مقاوِمة ومكافِحة، ويتعسر تغريبها كما تغرب الهنود والصينيون واليابانيون والروس، واحتوتهم حضارة أعدائهم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة