هل تتواطأ الأيديولوجيا الجندرية مع السلطة والسوق والهيمنة؟
لا تعسّف في الاستنتاج بأنّ العقيدة الجندرية تستبطن نزوعها السلطوي في اتجاهات عدّة، تبدأ مثلاً مع محاولة الهيمنة على الجسد واستعمال سلطة اللغة وسطوة المصطلحات؛ وقد تبلغ حدّ استغلال علاقات الهيمنة والتبعية القائمة بين الأقاليم والدوائر الثقافية في فرض مقولات مؤدلجة على أمم وشعوب ومجتمعات. وتبدو الجندرية ضالعة، بوعي منها أو بدون وعي، في تأثيرات موجّهة لزعزعة البنى الاجتماعية والأنساق القيمية الخاصة بأمم ومجتمعات تستهدفها ما تبدو لبعض القراءات "حروب أفكار" مستعرة، كما يتجلّى على جبهة العالم الإسلامي منذ نهاية الحرب الباردة.
وإنْ ثار الاشتباه، غرباً وشرقاً، بضلوع التبشير الكنسي والتعبئة الثقافية في زمن مضى بأدوار وظيفية متبادلة مع الهيمنة الاستعمارية استباقاً وتهيئة وتعميقاً وإخضاعاً؛ فإنّ الأواصر القائمة بين التبشير الجندري والهيمنة بعد الاستعمارية تعبِّر اليوم عن حالة تطوّرية استجدّت حسب مسارات الهيمنة التقليدية ذاتها تقريباً؛ وإن رُفعت راية ألوان الطيْف وألواح المحفوظات الجديدة بدل الصُّلبان والأناجيل وشعارات التحضّر، يخطو هذا المقال مع قارئته أو يمضي مع قارئه فوق تضاريس شائكة، عطفاً على مقالات ثلاثة سبقته في المسألة الجندرية؛ هي "أيديولوجيا جندرية.. أنثى أم ذكر أم اختيارات أخرى؟"، و"طريق العدمية السريع.. إنجاب حسب العقيدة الجندرية"، و" رجل ضمن النساء.. الجندرية في أطوارها وتطبيقاتها".
الجندرية في نزوعها السلطوي
من المألوف أن يُعَدّ الخطاب الجندريّ مضادّاً للمنطق السلطويّ وأن تُعتبر الجندرية "حركة تحرّر" مُناهِضة للسلطة الاجتماعية أو المنظومة الثقافية التقليدية. ويرتبط ذلك بمواقف بعض المنظِّرين الأوائل والمنظِّرين الذين تركوا تأثيرهم في هذا التوجّه الذي تبلوَر من بعد فصار عقيدة ونضح بأيديولوجيا. وممّا يُعزِّز هذا الفهم أنّ هذه العقيدة تبشِّر بالفكاك من "الماضي" وما انعقد فيه من أدوار نمطية وامتيازات؛ وأنها تُؤْذِن بتاريخ جديد ينبذ الانتظام النمطيّ في البناء الاجتماعي وقد يسعى إلى تقويضه حجراً حجراً. لكنّ ذلك كلّه لا يقضي بتبرئة العقيدة الجندرية من النزعة السلطوية أو فكاكها عنها.
يجوز الافتراض بأنّ النزعة السلطوية في هذا الشأن تبدأ مع إعلان الهيمنة على الجسد، أو "النوع البيولوجي"، بتمليك "النوع الاجتماعي" أو "الجندر"، سلطة التحكّم فيه المعززة بمقولات عقائدية ومحفوظات مُؤدلَجة، بعد تشظية الإنسان بموجب المقولات الجندرية التأسيسية. تمتدّ "حرية التصرّف بالجسد" حسب الخطاب الجندري، إلى تمليك الفرد خيارات التحوير والتبديل والتقلّب في الصفات والهيئات واستنكار أيِّ تحديد مُسبَق "تفرضه" أي سلطة، بما يتحرّى طمس أي تأثير للتمايُز التكويني بين الذكورة والأنوثة.
لا تقتصر إرادة التحكّم على تحدِّي الاجتماعي/ الثقافي/ التاريخي؛ فهي تشي عند بعضهم أو بعضهنّ بنزعة تألُّه تحاول ضمنياً محاكاة التشكيل البشري والتمرّد على خِلقته؛ وقد يحسب بعضهم وجدانياً أنه "يتخلّق" إرادياً بمجرّد اللجوء إلى ما يستجدّ من خيارات تعرضها العيادات الجراحية والمخابر الطبية لأجل "اختيار هوية جندرية" فردية مُغايِرة، علاوة على الرِّهان الجامح على ما تخرج به المخابر من "فتوح طبية" في مجال الحمل والإنجاب الذي يمثِّل عقدة وجودية بالنسبة للخطاب الجندري وإن لم يقع البوْح بها.
يصير الجسد مساحة نفوذ يتحكّم بها الفرد ويسيّجها بتصوّراته الجامحة وأهوائه المتقلِّبة بين "الخيارات" المتزايدة المعروضة في دليل المصطلحات الجندري. لأجل الظفر بهذه المساحة "تناضل حركات التحرّر الجندري" وتنشر أدبيّاتها وتحشد جماهيرها وترفع شعاراتها وتلقى الدعم والتصفيق أيضاً. من السذاجة التسليم بمنطق يَعُدّ تصوّرات الفرد في حقيقتها مستقلّةً عن تأثيرات وتجاذبات تتدخّل فيها المنصّات والمضامين الجندرية ذاتها أيضاً؛ فيُستدرَج إلى مسارات مُهِّدت له مُسبَقاً وزُيِّنت لتستحوذ على ميوله أو تستثيرها في اتجاهات مخصوصة، وقد صار لكلِّ مسار منها طائفة إليه تدعو وجمهرة تُغري بالالتحاق بها.
الاستقواء بسلطة اللغة
تميّزت العقيدة الجندرية بمحاولة فرض جهازها المفاهيمي على المجتمعات من خلال الاستقواء بسلطة اللُّغة واستعمال سطوة المصطلحات. تكتسح الجندرية اللّغة بما تنحته من مصطلحات مستجدّة وما تُنادي به من ضوابط لفظية صارمة؛ حتى تأتّى لها في بعض البيئات الأوروبية أنْ تُجْرِيَ في سنوات معدودات تغييراتٍ لغويةً جارفة صارت مُعتمدة رسمياً أو مُوصى بها في مدوّنات مرجعية. تزعم بعض التقديرات أنه لم يطرأ على مرّ قرون متعاقبة ما يُكافئ هذا المنسوب من التحوّل في كثافته وسرعته، وما كان لهذا أن يجري لو لم يُدرِك التنظير الجندريّ التأسيسي مفعولَ اللُّغة وسطوتها، كما تجلّى لدى جوديث بتلر مثلاً؛ التي هي أستاذة بلاغة أيضاً. تثير سرعة التحوّل، على هذا النحو، الاشتباه بوجود اتِّجاه للفرض الفوقيّ يتخطّى النقاش المجتمعي حتى في الديمقراطيات العريقة.
تسلك التحويراتُ اللِّسانية الجندرية سبيلها إلى الألسن من خارج سياق التغيّر الاجتماعي والثقافي والتاريخي الذي تتكيّف معه اللُّغَة عادةً، فالعقيدة الجندرية سَعَت، بصفة عكسية، إلى إحداث تغيير منهجيّ على اللُّغات لفرض التغيير الاجتماعي والثقافي والتاريخي تحت شعار "تعميم الجندرية" أو Gender mainstreaming فاستُعمِلت اللُّغة منصّة تغيير ولا تزال؛ بما أحال الكلمات والصياغات المعتمدة في الأنظمة بمقتضاها إلى عتاد أيديولوجي لفرض التحوّل على المجتمعات والثقافات والأجيال التي تتنافس بعضُ نخبها في ترجمة المصطلحات الجديدة وتفسيرها واستظهارها بإخلاص متجرِّد من روح التمحيص والمراجعة والحسّ النقدي. ليس فضاء اللغة العربية، بطبيعة الحال، بمنأى عن هذا التأثير المدفوع منهجياً الذي لا يكاد يُواجَه بنقاشات أو اعتراضات منهجية مدروسة وإن قوبل بانزعاج أو حيرة في بعض الأوساط والمنصّات المحلية، قد يكشف هذا المنحى عن أنّ العقيدة الجندرية لا تكتفي باستعمال سلطة اللُغة وسطوة المصطلحات؛ فهي توظِّف المركزية الغربية أيضاً، وتستعمل قدراتها الثقافية المهيمنة عالمياً لاكتساح اللُّغات والثقافات الأخرى التي عليها أن تتلقّف لا أن تُناقِش، أو أنها، وهذا مؤكّد، تستفيد من هذه المركزية وتستثمر في امتيازاتها الثقافية المهيمنة؛ بوَعي منها أو بدون وَعي. يجري هذا رغم أنّ بعض رائدات التنظير الجندري وروّادها يعبِّرن أو يعبِّرون عن مواقف مبدئية ضد الاستعمار والهيمنة والتبعية، ومنهنّ جوديث بتلر ذاتها مثلاً.
مِن الاستقواء الاصطلاحي، علاوة على ما سبق، أن يتحصّن الخطابُ الجندريّ بقِيَم تحظى بالتقدير العامّ شرط أن يُخضِعَها لتأويلاته الذاتية وإسقاطاته الخاصّة، بما يبلغ في بعض الاستعمالات مبلغ الاستحواذ أو حدّ المصادرة، كما يجري مع "التنوّع"، و"المساواة"، و"الاختيار"، و"الحرية"، و"الحقّ" مثلاً، مع إسقاط مصطلحات ذميمة على كلّ مَن يعترضون على النزعة العقائدية الجندرية. ومن تفريعاتِ هذا المسلك اشتقاقُ مصطلحات تُلائِم تضخيم الوعيِّ الجمعي بحالات مُنتقاة دون غيرها، وهو ما تخدمه تقارير وتغطيات إعلامية بعناية، فلا عجب أن يصير من أولويات بعض المنصّات الجماهيرية تعميم مفاهيم مثل "التعاسة الجندرية" أو غيرها مع توجيه التعاطف بصفة انتقائية صوب وجهات مخصوصة بما يعزِّز أنسنة الحالة ودعمها معنوياً، ينضح هذا المنحى بأمارات الأيديولوجيا وشواهدها؛ التي يُمَكّن لها في منصّات "علمية" ومواقع "أكاديمية" كما عليه الحال في بعض أقسام "الدراسات الجندرية" التي يعدّها ناقدون في جامعات أوروبية "ذراعاً علمية" لهذه الأيديولوجيا.
تبشير جندري عبر مسالك الهيمنة
تقضي العقيدة الجندرية بتفكيك النّسَق المجتمعي إلى أفراد تتعدّد اختياراتُهم على ضروب وتفترق تصنيفاتهم على ألوان يتطلّب حصرُها قائمةً متطاولةً من المصطلحات المتجدِّدة موسماً بعد موسم. تُؤكّد هذه العقيدةُ مركزيةَ الفرد؛ كما تُجَرِّد الأسرةَ من معناها فتُعزََل عن تعريفها بَصَبّ مفاهيم شتى مُحتملة لها. ورغم منطلقات رفض السُّلطوية التي تطوّرت فيها بعض المشارب الجندرية؛ إلاّ أنّ هذه الحالة التقويضية من شأنها أن تخدم السُّلطة التي ستتعامل بموجبها مع جمهور من أفراد متفرِّقي الأهواء مكشوفين لهيْمنتها بلا أواصر تقليدية منتظمة أو نسيج اجتماعي متماسك إزاء السُّلطة؛ وإنْ تعاظم اللُّجوء إلى أنماط التشكّل غير التقليدي في المجتمع المدني تحت مقولات مطلبيّة.
ثمّ إنّ العقيدة الجندرية لجأت إلى الدّولة وما فوقها في المُنتَظَم الدّولي للتمكين لمقولاتها في المجتمعات "مِن أعلى إلى أسفل"؛ وعمدت أحياناً إلى تعبئة نُخَب متنفِّذة على هذا السبيل؛ ولم تتريّث حتى تُثمِر مساعيها التبشيرية في المستوى القاعدي ضغطاً على صانعي القرار "مِن أسفل إلى أعلى". لم ترغب الجندرية أساساً بتفعيل خيارات الديمقراطية المباشرة التي تستفتي الشعوب وتسأل الجماهير؛ وإنّما فضّلت التواصل التأثيري (اللوبي) مع نخب الديمقراطيات في أروقتها المُوصَدة على ذاتها للتمكين لبرامجها ومقترحاتها التشريعية والتنفيذية.
وإنْ احتجّت العقيدة الجندرية بالانفكاك عما تفرضه السُّلطة الاجتماعية من تحديد؛ فإنّها مضت في بيئات عدّة إلى الاستقواء بسُلطات فوقية في توجّهها نحو فرض مفاهيمها على المجتمعات أو تنزيلها بصفة مرجعية أو نموذجية؛ لإحداث تغيير فوقيّ مُتعالٍ على النقاشات المجتمعيّة المنفحتة والمتكافئة. كان المؤتمر العالمي للمرأة في بكين (1995) محطّة انطلاق مركزية في هذا المسار الدولي المُعولم؛ عندما قضى بتمكين مفاهيم مُستقاة من العقيدة الجندرية في الأمم المتحدة بصفة مرجعية؛ ليَقع تنزيلها من بعدُ في إعلانات ومواثيق وبرامج إرشادية وكرّاسات تطبيقية على الدول التي أُوْكِل إليها تنزيلها على شعوبها ومجتمعاتها بالتالي.
لم يقتصر المنحى السُّلطوي على ذلك؛ فقد تجلّى في استغلال الخطاب الجندري فوارق الحظوة بين "شمال" متنفِّذ ومهيْمن و"مانح"؛ و"جنوب" تابع ومُستضعَف و"مستفيد"، وهو ما اتّضح في أساليب نشاط المنظمات غير الحكومية أيضاً وفي تفاوُت النفوذ وقدرات التأثير بينها حسب انتماءات الجغرافيا والخصوصيّات الثقافية التي تنتسب إليها. لم تجرؤ حكومات ومؤسّسات عامّة وخاصّة ومنظمات غير حكومية تابعة في أقاليم "العالم الثالث" على مناقشة المحفوظات الجديدة أو إظهار الاعتراض عليها؛ لأنها تأتي مشفوعةً بإملاءات المانحين ومعاييرهم من جانب؛ ومدجّجة من جانب آخر بعتاد قيميّ ذي سطوة معنوية يُكثِر الاحتجاج بالحرِّيّة والمساواة و"رفض كلِّ أشكال التمييز". ومَن يقوى على الانزلاق إلى الخندق المقابل لشعارت مجيدة تتسيّد الحقبة؟
تتجلّى السّطوة الصريحة أو الرمزية، أيضاً، في فجوة "علاقات الإنتاج" ضمن خطوط المنظمات غير الحكومية التي تسهر على إشاعة العقيدة الجندرية عبر العالم، فاختلالات الأدوار في هذا القطاع تضمن انصياع المتعاقدين مع تلك المنظمات في البلدان التابعة؛ وهو ما يفسِّر إخلاص طبقة الوكلاء والشركاء والمتعاونين في استظهار المقولات وعدم اجترائهم على إبداء أيِّ نقد إزاءها أو المناداة بشيء من مراجعتها أو حتى الدعوة إلى تمحيصها ولو على استحياء؛ فما عليهم سوى تلقّف ما يأتي من مصادره والتبشير به والحضّ على تطبيقه في نطاقات الدول والمجتمعات المحلية التي ينتسبون إليها. تتذاكى بعض الأصوات، كما يجري في العالم العربي والإسلامي أحياناً، في محاولة التكييف الثقافيِّ الشكليِّ للمحفوظات الجديدة ضمن بيئات التنزيل، بما يُعين الجمهور على ابتلاع "كبسولات ثقافية" وتحييد الاعتراضات المُحتمَلة عليها قبل أن يظهر مفعول التغيير الكامن فيها في مراحل لاحقة. تلجأ نُسَخ محلِّيّة من أدبيّات الترويج الجندري إلى إدراج آيات قرآنية وأحاديث نبوية، مثلاً، في مستهلِّها أو في ثناياها لأجل الشرعنة الزائفة وتنميق الخطاب وتسويغه ظاهرياً وتيسير تقبُّله.
يكون مطلوباً، بالتالي، أن تنصاع المجتمعات لهذا الخطاب الذي يُمَكّن له في الأرض، المشفوع بمواثيق دولية والمعزّز بأعطيات المانحين أيضاً؛ وبعضها يُقدّم في هيئة اشتراطات منصوص عليها أو موحىً بها لتدفُّق "المساعدات الإنمائية" أو القروض أو ضماناتها على الحكومات والمؤسّسات والمنظّمات والوكلاء؛ بما يُملي الرّضوخ للمضمون ويكبت فرص البوْح الناقد ويفرض التواطؤ مع الأيديولوجيا الجندرية "المقرّرة دولياً" طوعاً أو كرهاً، ثمّ يجد المشاركون في المؤتمرات الدولية والمشارِكات؛ أنّ عليهم التزام المعايير المفاهيمية المستجدّة والصدور عنها وتقمُّص تعبيراتها الاصطلاحية وما قد يترتّب عليها من مدوّنات سلوك؛ إنْ أرادوا كسب الاعتراف بحضورهم واستمالة التقدير لأدوارهم وعدم الظهور في هيئة متخلِّفة عن رَكْب مُعوْلَم. تتنافس نُخَبٌ من المجتمعات التابعة في استظهار المصطلحات الجندرية المقرّرة من خارج بيئاتها، فتأتي من هذا الوجه علامةَ مواكبةٍ نجيبةٍ "لما يجري في العالم"، وإشارة تهيّؤ حصيفة للمستقبل الذي تأتي بشائره وتعبيراته الأوّلية من "الغرب" عادة؛ كما يُحسَب.
يصير مفهوماً، إذاً، أنّ العالم العربي لم يشهد نقاشاً نقدياً جادّاً ومستقلاً في الفضاء العامّ بشأن المفاهيم الجندرية التي أفاقت المجتمعات عليها وقد تمكّنت خلسةً من خطابات حكومية وغير حكومية ومنصّات ثقافية وإعلامية ومرافق أكاديمية وتعليمية وأهلية، رغم بعض التراشُق والتحذير والهواجس المسموعة التي لا تكاد تُلامس جوهر القضية أو تتحرّى أبعادها. فالجندرية تتمكّن شيئاً فشيئاً في المنصّات الوطنية والمحلِّية عبر خطاب تبشيري أحاديّ الاتجاه لا يُسفِر عن مكنوناته جميعاً، ويتجاوز في انسياحه مطلب الانفتاح على تفكيكه ونقده وفحص المآلات التي يُفضي إليها.
تعبِّر الحالة في جانب حاسم منها عن منحى اعتمادي على خارج مُهَيْمن في التمويل المدنيّ والشراكات الاجتماعية ووضع جداول الأعمال الثقافية أيضاً، وهو خارج يُطلَب منه التقدير وتُرجَى منه عباراتُ إطراء على "سلامة النهج" وشهادات "حسن سلوك" رمزية؛ علاوة على النزوع إلى "مجاراة العصر" بما يزهد بفحص الوجهة المجهولة وتقدير المآلات الغامضة، إنّ ما عُدّ حتى وقت قريب شاغلاً مُقتصراً على "الغرب"؛ صار مفروضاً بقوّة في الواقع العربي ذاته بين عشيّة وضحاها، ويتجلّى ذلك في استزراع مقولات من قبيل "حرِّيّة التصرّف بالجسَد"، التي تبنّتها مؤتمرات وندوات ومنصّات عربيّة تحاول التأثير على التشريعات والمناهج والثقافة المجتمعية عموماً؛ بمنطق فوقي يجد رعايةً دوليةً وتمويلاً من جهات محسوبة على أمم الشمال الغربيّ.
من الإشارة المُعبِّرة عن المدى الذي بلغه هذا الإقحام المفاهيمي؛ أن يُواجَه الرئيس التونسي قيس سعيّد في ظهوره التلفزي الأوّل خلال المنافسة الانتخابية على "القناة الوطنية" الرسمية (26 سبتمبر/ أيلول 2019) بسؤال عن موقفه من "إظهار المثليِّين حضورهم ومطالبهم في الفضاء التونسيّ العام". جاء ردّ مرشّح الرئاسة الذي تجاوز وقتها الدّور الأول باقتدار؛ ليفكِّك منطق السُّؤال ذاته المُقحَم على شواغل الشعب المثقل بالأعباء الاقتصادية والاجتماعية والهيكلية المزمنة، وأكّد في هذا الصّدد موقف المجتمع التونسي الصارم الذي ينبذ أن يدقّ رجل باب الأسرة لطلب يد ابنها مثلاً. لعلّها المرّة الأولى التي يُواجَه بها رئيس أو مرشّح رئاسة عربي بمثل هذا السُّؤال الذي تحرص الأيديولوجيا الجندرية على إقحامه مستفيدةً من سطوة معنوية يفرضها خارج مهيْمن يلحظ مدى التزام الدُّوَل والجهات "المستفيدة" مِن المِنَح والقروض والضمانات المقرّرة؛ بمدونات خطاب وسلوك مفروضة "مِن فوْق" تجري عولمتها على قدم وساق، ولعلّها المرّة الأولى أيضاً أن يُسمَع فيها جواب على هذا النّحو من متحدث رصين وفصيح لم يستسهل الرضوخ لمصطلحات العقيدة الجندرية وإنّما تعامل معها بتحفُّظ ظاهر.
واقع الحال أنّ الأيديولوجيا الجندرية في تَنَزُّلها الخاطف على أمم "الجنوب" استغلّت إرثَ المركزية الأوروبية/ الغربية واستفادت، بوضوح، من علاقات ما بعد الاستعمار وما تتيحه لأمم الشمال الغربيّ من قدرات الهيمنة الثقافية؛ حتى وإنْ لم تتمكّن الجندرية في بعضها على جانبي الأطلسي كما يأمل دعاتها، يستتبع ذلك أنْ يتبوّأ وكلاء الخطاب الجندري في بلدان "الجنوب" أدواراً كومبرادورية في الشقّ الثقافي/ الاجتماعي تُعين الخارج على التمكّن في الداخل؛ عبر تسهيلات المُناولة الأيديولوجية والثقافية المحلية لصالح تأثيرات خارجية غير معروضة للنقاش المفتوح أخذاً وَرَدّاً؛ وإنما للتلقُّف والامتثال لمقتضاها أساساً. وإن جاز هذا التأويل بدرجة أو بأخرى حسب البيئات في تنوّعها؛ تكون الجندريةُ في تمدّدها المُعَوْلم ضالعةً في شبهة تحالف موضوعيّ مع السطوة الهيراركية – في صيغتها المعولمة – بعد أن نبذتها مرجعيتها الفلسفية المؤسِّسة ابتداءً؛ أو قد تكون الجندرية مستفيدة سياقياً من هذه السطوة والهيمنة على أقل تقدير.
جندرية مدفوعة الأجر؟
عندما تسعى العقيدة الجندرية إلى مجتمع بلا أدوار معرّفة أو أواصر محدّدة، وتنشد بيئات تتفكّك فيها الأنساق لصالح أفراد متقلِّبي الأمزجة ومتفرِّقي الأهواء لا يَلْوُون على شيء؛ فإنّ من شأن ذلك في واقع شعوب ترزح تحت الاحتلال العسكري أو الهيمنة الخارجية مثلاً أن يُضعِف قدراتها في المقاومة الثقافية التي تستند إلى قِيَمها المحلية ورمزياتها الذاتية وبُناها التقليدية، وأن تهترئ الوشائج الرّاسخة التي تمثِّل شبكة أمان للمجتمعات إنْ غابت الدولة وانعدمت السيادة، يجوز الاستنتاج؛ بأنّ التمكين للعقيدة الجندرية في حالاتٍ كهذه من شأنه أن يعزِّز هيمنة ما تُعدّ "سلطة ذكورية" لها جيشها الذي يغزو وقواتها التي تبطش وآلتها الاقتصادية التي تستغلّ، وأن تصير المجتمعاتُ في تفكّكها وانفصام عُراها أكثر انكشافاً لمساعي الهيمنة المباشرة أو التحكّم الناعم.
من مقتضيات المكاشفة مع الحالة؛ التنقيب عن موارد دعم الأيديولوجيا الجندرية وتمويل منابرها، ولا يَخفَى أنّ إمدادها مادياً ومضمونياً في بلدان عربية وإسلامية يأتي من خارج بيئاتها غالباً وبسخاء يُحجَب مثيلُه عن المجتمعات المحلية ومكوِّناتها الذاتية أو أنساقها التقليدية كي يًمنَح لمنظمات "غير حكومية" اعتمادية على تمويل حكوميّ خارجيّ مباشر أو تسهيلات حكومية غير مباشرة؛ ويتضافر ذلك مع إضعاف متعدِّد الأشكال للجمعيات الأهلية والمنظمات الخيرية المستقلّة عن التمويل الخارجي، من المُتاح اختبار أواصر التبعية بملاحظة أفضلية التمويل من صناديق أوروبية التي سيحظى بها "فيلم متوسطي"؛ إن اشتمل على معالجات جندرية ظاهرة في موضوعه أو مضمونه المتصل بالبيئة العربية. تجود حكومات وشركات على هذه الصناديق بالأموال اللازمة، كما تفعل في رعاية نشاطات وفعاليات ثقافية في الاتجاه ذاته، تتفاقم التواطؤات لأنّ المنتفعين من الحالة والمنتفعات في البلدان التابعة لا يجدون مصلحة لهم في خوْض مكاشفة شفّافة مع شعوبهم وجماهيرهم بهذا الشأن، أو في إثارة نقاش مجتمعي عامّ عن هذا التقليد الاعتمادي المتعاظم وتأثيراته على استقلالية شعوبهم وأولويّات مجتمعاتهم.
من يجرؤ على النقاش؟
تتسلّل الأيديولوجيا في حقائب "مبشِّري" الزمن الجديد، الذين يحملون ألْواحَهم وكتبهم المقدّسة إلى مجتمعات "العالم الثالث" التي يَطَّوَّفون بها، وقد يوزِّعون أُعطِياتٍ على الملتحقين بركابهم من المتعاقدين والمتعاقدات. يستأنف بعض مبشِّري المنظمات غير الحكومية تقاليد اسْتَنّتها إرسالياتُ الكنائس في أزمان مضت، وإن استبدلوا كتاباً مقدّساً بآخر وصارت ألواح التعاليم عندهم مواثيقَ دولية ومدوّناتٍ اصطلاحية ومقترحات سلوكية مُعولَمة، تقرِّر إرساليات المجتمع المدني "العالمي" التي تعتنق الجندرية؛ ما يكون حلالاً في تصنيف البشر وما يكون حراماً، فتتلقّف موادَّها "التثقيفية" ودوراتِها "التدريبية" أفواجٌ من مجتمعات مقطورة، تتوق أجيالُها إلى "التواصل مع العالم واللِّحاق بالعصر" فتتنازل عن المناقشة النّقدية مع ما يأتي من بُؤَر المعمورة الساطعة في وعيها. تأتي الأفكارُ المحمولة إلى أمَم الأرض ومجتمعاتها في لبوس مقرّراتٍ جاهزة تتعالى بها على النّقد الرّصين، وما يبقى لجمهرة المتلقِّفين سوى التشبُّع بها والصدور عن نُسَخِها المتعاقبة فتصير مقولاتُها محفوظاتٍ منزّهة عن الزّلل لا يرقى إليها شكّ؛ فيُضرَب من حولها بحجابِ الصّمْت كي لا تُنتهَك قدسيّتُها المُفترضة.
لا تجرؤ أفواج الملتحقين بالحالة على نقاشِ ما يأتيهم مشفوعاً بتعاقدات التوظيف وامتيازات الشراكة مع هيئات دولية ومنظمات غير حكومية؛ فالأعناق تشرئبّ إلى الحظوة والعلاقات والظهور والتأثير والسّفر والزيادة في منسوب البروتين والشوكولاتة الفاخرة أيضاً؛ قياساً بعموم المجتمعات مِن حولها التي لا تحظى بمثل هذا. دفعت الحالةُ بصعود "نخبة جندرية" على أساس مهارات ذاتية وامتيازات وظيفية ومؤهِّلات حضور عامّ وجاهزية للانصياع للمانحين؛ بما أتاح لها احتكار المشهد المعبِّر عن الحالة وادِّعاء تمثيله رمزياً أحياناً، على حساب رؤى ومواقف وآراء أخرى - وإنْ كانت حداثية وما بعد حداثية - لم تحظَ بتكافؤ الفرص في التعبير عن ذاتها.
قد يُفضي الحسّ النقدي أو النقاش الحرّ في هذا الشأن إلى خُسرانٍ مُبين في منسوب الحظوة والامتيازات إنْ أسفر عن التشكّك بمحفوظات مقدّسة تهبط من هيئات دولية وحواضر الشّمال الغربي، وقد يُرمَى النّاقد بنعوت ذميمة؛ تَصِمُه بالرجعية والولوغ في التفرقة والصدور عن رُهاب مرَضي. فالأيديولوجيا الجندرية تتذرّع بالإنسان وتتسلّح بحقوقه وتحتمي بحريّته علاوة على تحصّنها بالمرأة - رغم أنّ الجندرية تنفيها وتفرغها من معناها تقريباً - بما يُعرقِل فرص النقاش الحرّ والموضوعي؛ فتنعقد الألسن عن البوْح بما يَعلَق بالأذهان أو بما يُخالِج القلوب التي في الصُّدور.
جرى التبشير بالعقيدة الجندرية في مجتمعات عدّة بطرائق مشبّعة بالاستسهال والاستغفال، فأقدم بعض الوكلاء المحليِّين على ترويج مقولات دون أخرى، أو إبراز شعارات تبدو مستساعة وطمْس مضامين تُعَد مستفزّة لتيسير هضمها وتمريرها بلا مقاومة مجتمعية أو ثقافية محلية، وهو ما يفترق بوضوح عن الأدبيّات المرجعية المعولمة. لم يُصارِح حاملو الألواح المقدّسة الجديدة مجتمعاتٍ يبشِّرونها بالجندرية؛ بما يترتّب على المحفوظات التأسيسية الجديدة من تبعات كفيلة بأنْ تهزّ البنيان الاجتماعي من قواعده وقد لا يُبقي الأخْذُ بها حجراً على حجر في مستقبل الأجيال. مما حفّز هذا الاستسهالَ والاستغفالَ أنّ بعض حفظة المقولات المُتلقّفة من مصادرها المُشِعّة في أمم الشمال الغربيّ إنّما يستظهرونها دون وَعْي كامل بمضامينها وأبعادها أو بلا مراجعة نقدية جادّة أو حرص على التمحيص، وقد يأخذ بألبابهم بريقُها القيميّ الذي به تتغلّف؛ أو يُلجِم ألسنتَهم ويُخرِس ضمائرَهم ما تستبطنه الأدبيّاتُ الجندرية من ذمِّ مخالفيها وتشديد النكير عليهم وإخراجهم من التّاريخ وإيصاد أبواب المستقبل دونهم؛ بدعوى أنهم محسوبون على موقف اجتماعيّ ماضويّ أو أنهم يدافعون عن مكتسباتهم أو يعبِّرون عن تمييز ذميم وتفرقة جسيمة.
من القِسط القوْل إنّ العقيدة الجندرية ليست – في مقامات عدّة - معروضةً للنقاش أساساً؛ وإنما هي مقرّرات مُؤدْلجة تتنزّل جاهزةً على مجتمعات "العالم الثالث" كي تحفظها وتلتزمها. اختمرت هذه المفاهيم والمقولات في بيئات معيّنة، ثم جرت شرعنتها عالمياً عبر منصّات دولية لا تتكافأ فيها فرص المُدارسة والتداول واقعياً. يُمَكَّن لهذه العقيدة أوّلاً بأوّل بتمويل الدول المانحة وبرواج الأدبيات والمناهج وبسطوة الصناعة الثقافية وبتعبئة المنظمات غير الحكومية العابرة للحدود التي تحظى بدعم رسمي من أقطار الشمال الغربي؛ وفق استقطابات مُعولَمة تحدّدت بموجب فوارق الحظوة والتأثير بين الأمم.
الجندرية وسلطة السوق .. من يستعمل من؟
تستثمر السُّوق في الحالة المتأثِّرة بالعقيدة الجندرية وتتملّقها، وتحرص على جَنْي أرباح من ورائها، كما يُلحَظ في صناعة الأزياء التي تمضي في بعض نتاجها إلى تأنيث المذكّر وتذكير المؤنّث؛ مع إشاعة "نوْع موحّد" في بعض الأصناف تنتفي فيه سمات التذكير والتأنيث أو تحتملهما معاً لدواع عملانية و/أو أيديولوجية، لا تغيب السُّوق عن التفاعلات المفاهيمية والممارسات التطبيقية الجارية، وإنْ عبّر هذا عن تحيّزات أيديولوجية في بعض عُقَد التأثير السوقي، فالسُّوق تنشد، بالأحرى، مكاسب وعوائد من وراء هذا الانجراف والتملُّق.
للمسألة وجه آخر؛ فالسوق أدركت حاجتها في مراحل مَضَت إلى وفرة "القوى العاملة" لتغطية متطلّبات الإنتاج بالجملة، فكان من صالحها وقتها ضمان الانضباط الاجتماعي والترغيب في التكاثر الطبيعي. ثم زهدت السُّوق في زمن الأتْمََتَة بالوفرة البشرية والقوى العضلية ومكّنت للآلة في خطوط الإنتاج والتجميع والحَرْث والحصاد، وأخذت تُعَوِّل على تسويق منتجات محدّدة تخدم ما يُفترض أنها "حقبة جنسية جديدة" تتشظّى فيها النزعات والنزوات، وهي تمتدّ إلى أدوات "الاستمتاع الذاتي" التي بلغت إمكان تعريف "شريك الحياة" في آلة محسوسة وناطقة تجود باستجابات انفعالية معيّنة كما تحقِّقها بعض المبتكرات الروبوتية المُؤنِسة للبشر. ويجد الاقتصاد الشبكي فرصاً استثمارية هائلة في الاتجاه إلى "تنويع خيارات الاقتران" وفي منحى المروق من الآصِرة الزوجية الراسخة، وهو ما يُدِرّ مداخيل فلكية على منصّات "المُواعَدة" الشبكية، مثلاً، التي تتيح "خيارات" شتى لمن يلتحق بها، علاوة على تَضَخُّم صناعات الرذيلة المرئيّة بأنواعها.
يفرض سلوك السُّوق في هذا المقام شكوكاً بشأن وفاء بعض مقولات العقيدة الجندرية لمَنابِتِها في مسألة "التحرّر" من السّطوة الاجتماعية، فالتحوّل المدفوع بقوّة التغيير الراهنة تشارك فيه السُّوق أيضاً كمُحفِّز فعّال للغاية وتُجيِّر في ذلك سطوتَها في تكريس صور تفضيلية جديدة مع السّعي للاستثمار في الحالة وجَنْي الأرباح الطائلة منها. يتّضح هذا، مثلاً، في إذكاء النزعات السائلة في صناعات الأزياء والموسيقى والأفلام وغيرها، كما يتوسّع اقتصاد تحوير الهيئة و"التحوّل الجنسيّ" أو التقلّب بين "الخيارات الجندرية" مع تضخيم الوعي بمسائل من قبيل "اضطراب الهوية الجندرية" التي يجري إبرازها كأحد الشواغل العامّة في المنصّات الإعلامية والشبكية بما يحفِّز البحث عن معالجات "التحوّل".
تبقى السُّوقُ قادرةً على مصادرة بعض الثقافة الجندرية لذاتها في القرن الحادي والعشرين كما فعلت مع الثقافة "الذكورية" التي طفح بها الخطاب الترويجي والإعلاني الرأسمالي خلال القرن العشرين. من الواضح أنّ التمكين الجندري في بيئات عدّة لا ينفكّ عن مصالح السُّوق، أو بعض مكوِّناته بالأحرى؛ في تعميم هذه الثقافة جماهيرياً لتملّق النزعات الصّاعدة ولضمان الإقبال على سِلَع وخدمات تُمليها الحالة. يبدو مفهوماً بالتالي أن تندفع منصّة "فيسبوك" إلى التحالف مع لوبي الجندرية الحركية في عرض "خيارات أخرى" غير تصنيف الأنثى والذكر في خانة "الجندر"، بما تجاوز في بعض البيئات سبعين خياراً، والقائمة مرشّحة لمزيد من التمدّد.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة