أعمال الإنسان بين استغلال الوقت والتوفيق
كثيراً ما يقف الإنسان ذاهلاً أمام عمره وهو يمر به سراعاً كقطرات الماء المتسربة من بين أصابعه يحاول أن يحيط به ولكن عبثاً يحاول؛ فعمره بين حجري الرحى بين وقت يقطعه يمر به فيصبح ماضياً لا سبيل لاسترجاعه وبين ما تبقى له من وقت والموت على حدوده يتربص فاغراً فاه، ويزيد من نزف نفسه أن كل يوم يمر به هو حقيقة أقرب لختام هذه الحياة منها لبدايتها، فيمزق من نياط قلبه والحسرة والندم يحيطان به كما السوار يحيط معصم اليد على عمر لا يعيده ندم ولا مستقبل يثمر بالتسويف والأماني.
وسيظل الإنسان عاجزاً مقيداً ما لم يتجاوز فكرة العمر الذي انقضى والأمل بالمستقبل الذي لا نملك منه شيئاً على وجه الحقيقة، بل وسيظل قاصراً مقصراً إن حصر فكره ونظرته في سعة الزمن وطول سنوات العمر على أنها الفرصة التي لا بد منها لتأدية ما عليه من واجبات ومهمات، فهو يظن أنه كلما ازداد امتداد العمر واتساعه كانت أعماله أكثر وأشد فاعلية وإنتاجية، وإذا كان العمر أقل كان العمل أقل كماً وأضعف كيفاً.
وقد نسي هذا الإنسان الضعيف الغافل الذي طالما أشغلته الأسباب عن مسببها أن بركة الأعمال وثمارها لا علاقة لها بالزمن اتساعاً ولا في العمر طولاً وأن الذي خلقها لقادر أن يحقق لشخص في سنة أو يوم أو شهر ما لم يحققه لآخر في العمر كله، وما أكثر تراجم الصالحين يضعها التاريخ بين أيدينا لنستخلص العبرة من واقع حياتهم بأن الدعامة الحقيقية للكم والكيف إنما هي توفيق وعناية الله بالإنسان خالق الأسباب ومسببها وهو ما يسمى بالأمداد؛ لهذا نكثر من قول: اللهم أمدني بمددك.
وانظر مثالاً على ذلك: قصة سعد بن معاذ، الذي لم يمكث في الإسلام إلا ست أو سبع سنوات إلا أن عرش الرحمن اهتز لموته، فماذا صنعت يا سعد لتنال هذا الشرف! وغيرك قضى من العمر أعواماً وأعواماً وما اهتز لموته إنسان ولا اشتاقت له الجنان، ولو علق الإنسان قلبه وفكره في عدد السنوات لوجد أن عمره الذي قضاه -رضي الله عنه- في الإسلام لا يكاد يذكر ولا يساوي شيئاً في حساب البشر ونظرتهم المادية المتمركزة حول ظواهر الأشياء.
فإذا لم يكن للزمن تأثير في مدى تحقيق الإنسان لمنجزاته وأعماله فأين يكمن الأثر إذن ! ويجيب ابن عطاء على ذلك في حكمته -التي تحمل في طياتها من الراحة النفسية ما يجعل الإنسان يطير بجناحي الشوق والرجاء مسرعاً ليتقرب من سيده ومولاه فيتدارك حاضره وينشغل بالمتاح الذي يملكه عما لا يملكه، متعلقاً بأمداد الله من توفيق وعناية، متجاوزاً حسابات البشر وقوانينهم الأرضية، فلا يتعلق بالعدد ولا بالكم وإنما السماء قبلة روحه، ورعاية الله وعنايته وقود سعيه ومدار عمله- فيقول ابن عطاء: "رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده" (الحكم العطائية).
ويفسر الشيخ البوطي هذه الحِكمة موضحاً معانيها: "الآماد جمع أمد، وهو غاية الشيء ومنتهاه. والمراد هنا غاية العمر، أي رب عمر اتسعت المسافة ما بين أوله ومنتهاه. والأمداد جمع مدد، والمراد به كل ما يصادف الإنسان من التوفيق والفتح وتيسير الصعاب وتوفر أسباب الأنشطة والجدّ في القيام بالوظائف والمهام. ونظراً إلى أن مصدر ذلك كله إنما هو لطف الله وعنايته بالعبد، فهو الذي يمدّه بذلك كله، أطلق على أسباب ذلك كله اسم المدد" (الحكم العطائية).
إن توفيق الله وعنايته -المعبر عنه في هذه الحِكمة العطائية بالأمداد- إذا رافقا الإنسان كان له من القربات والإنجازات وفضائل الأعمال ما يحتاج فوق عمره لأعمار عديدة، وأولئك الصالحون من العلماء والمجاهدين من أسلافنا والذين رفع الله على أيديهم راية الدين وكانوا لنا مصدر العزة والتمكين ومشاعل النور، وما سعد بن معاذ إلا مثالاً من أمثلة كثيرة توضح لنا هذه الحكمة في الواقع العملي، فما على المؤمن إلا أن يتعلق ويرجو ما عند الله لعل الله يسبغ نعمته عليه ويفيض أضعاف عمره من الخير الجزيل.
إن توفيق الله وعنايته إذا رافقا الإنسان كان له من القربات والإنجازات وفضائل الأعمال ما يحتاج فوق عمره لأعمار عديدة
فإذا كان اتساع العمل المقرب إلى الله يعود لتوفيق الله وعنايته والبركة التي يضعها فيه، وليس إلى اتساع أمد العمر وعدد سنواته، يبقى السؤال كيف يتعرض السائر إلى الله لهذه البركة فينال في الوقت القصير العمل الكبير والكثير!
ويكمن الجواب عن هذا السؤال في اتباع أمرين اثنين كما ذكرهما البوطي رحمه الله:
الأمر الأول/ ألا يهمل الاستعداد الذي جهزه الله به، والعافية التي متّعه الله بها.
الأمر الثاني/ أن يتعرض أثناء نهوضه بالأعمال والجهود التي هو بصددها للنفحات الإلهية والفتوحات الربانية، وذلك بأن يستحضر دائماً حقيقة استعانته بالله، وحاجته الماسة إلى توفيقه وإلى إلهامه الرشد.
فيستغل المرء الفرصة المتاحة بين يديه فيستغل صحته وشبابه وعافيته وفراغه قبل أن يأتي وقت ويزول عنه هذا وذاك، ولا سيما أن الإنسان لا دوام له على حال، عملاً بوصية النبي المصطفى: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (المستدرك للحاكم)، وألا يعزل نفسه عن معية الله، ولا يستقل بعمل من أعماله عن طلب العون من الله، فلا تغره قوته ولا غناه وإنما هو فقير ضعيف لا حول ولا قوة له إلا بالله، فيتحرك في سعيه آخذاً بالأسباب، ويقينه بمسببها لا بها نفسها، واعتماده على الله لا بهذه الأسباب الواهية، فمن اعتمد على الله لا ذلّ ولا قلّ ولا ضلّ ولا ملّ، وشعاره في كل حركاته وسكناته: "إياك نعبد وإياك نستعين".
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وألهمنا يا مولانا رشدنا.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة