الملافظ سعد
دخل عليَّ مكتبي بعد غيبة ، وما إن رآني حتى قَطَّب جبينَه ونظر لي في دهشة مشوبة بالأسى ، وقال :
ما كل هذا الشيب الذي غزا شعرك ؟! وما هذه التجاعيد التي انتشرت في وجهك ؟! .. انت عَجِزت ليه كده .؟ .. حتى لونك باهت كأنك مريض ؟ ثم ضحك بسماجة واستمر في مزيد من السخافة وقال : كورونا .. أوعى يكون كورونا .. هههههه ..
بدأت ابتسامة الاستقبال تختفي من وجهي ، وأحسست من طعناته المتوالية أنني سأموت بين يديه ، انقبضت نفسي وتمالكت حتى حان وقت انصرافه وودَّعته غير مأسوف على فراقه .
وجلست في مكتبي مهموماً باسترجاع كلماته السخيفة ،
وكنت يومها ألبس قميصاً ورديًّا ، وأنا كإنسان مقبل على الحياة أحب لبس الألوان الزاهية ، رآني صديق آخر فبادرني قائلا :
الله عليك .. ما أجمل ذوقك في اختيار ألوان ملابسك .. ويزداد جمالها على قوامك الممشوق الرشيق .. انت دايما شباب .. ربنا يمتعك بالصحة .
كان هذا الصديق هدية أرسلها الله لمداواة جرح صاحبنا السخيف الذي سبقه .
وبين جَرْح الأَول ودواء الثاني ، سرحت بخيالي وعَلَت الابتسامة وجهي، وأنا أتذكر موقفا طريفا للعالم الجليل خفيف الظل الشيخ "عبد الحميد كشك" مع شخص تَفَوّق في درجة سخافته عن صاحبنا الأول ، يقول الشيخ:
دخل علي رجل قليل الذوق فقال لي وكأنه يزف لي بشرى : يا شيخ .. أنا حَلمتُ انك مُتْ .
فردَّ عليه الشيخ : أحسن .. علشان ارتاح من وِشَّك العِكِر .. رُوح داهية تاخدك .
اتعدل مزاجي من طُرفة ردِّ الشيخ، وبدأت أضحك مع نفسي ، واستحضرت قصة رمزية مُعَبرة جداً لمولانا " جلال الدين الرومي" المتوفى في القرن السابع الهجري ، يقول فيها :" زار رجل سيدنا يوسف ، فسأله سيدنا يوسف : أي هدية جلبتها لنا أيها الصديق ؟
فقال : يا من تغار الشمس من جماله ، أي شئ أهديه لك أجمل من مرآة تشاهد فيها حسنك وجمالك."
الله ، الله ، الله .
ما أجمل هذا المدخل اللطيف الرقيق الذي يفتح مغاليق النفوس وينعش القلوب .
كلنا نحتاج هذه الهدية وننتظرها ممَّن حولنا .. نحتاج منهم مرايا تكشف لنا أجمل ما فينا .. مرايا تحيي نفوساً ، وتبني على الحب والوداد صروحاً .
وأعود بك إلى مولانا " جلال الدين الرومي " وأدعوك لتأمل أبياته :
نحن جئنا
الفضاءُ قُبَّتُنا
والنَّاسُ أسرتُنا
لا لون لنا
لأننا عَدَدْنَا جميع القوم إخوتنا
نحن جئنا
لننزل كالغيث على كل مكان
ولنُدْخِل الشمسَ إلى كل بيت
ولتكون خدودنا كالتربة تحت أقدام الناس
إننا جئنا لكي نُحِبُّ ونُحَب
المصدر : رابطة العلماء السوريين
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن