في أمان الله يا أم علاء
التاريخ:
1832 مشاهدة
في أمان الله يا أم علاء
بقلم: رفيقة دربكِ في الدعوة
سهاد عكيلة
... سبعة عشر عاماً... تلك هي صحبتي معك يا أم علاء في مسيرة الدعوة...
شريط من الذكريات: لقائي الأول بك... دروسنا... رحلاتنا... نزهاتنا... اجتماعاتنا... واختلافاتنا في وجهات النظر، ومناكفاتنا التي لم تكن تفسد قلوبنا... شغبنا الذي كنا نعاقَب عليه أحياناً... وَشْوَشاتنا وهمساتنا في الحلقة أو في اجتماع إدارة القسم النسائي، وتنبيه شيخنا المكلوم زوجك أدامه الله ذخراً لدعوتنا: يا فلانة ويا فلانة كفى همساً، ويوصي بعضنا بعضاً بألاّ نفعل بعد الآن... ثم نعود...
سنوات عشناها معاً بحلوها ومرّها في ظلال الدعوة... لن ننساها...
أم علاء... هل شهدتِ لطف الله بكِ؟
لقد يسّر الله لكِ دورة تدريبية في إعادة صياغة النفس وصَقل الروح لتكوني أهلاً للقائه تعالى، بين فقرتيها استراحة عمرة...
يا الله... ما أحلى هذه الخاتمة!
دورة لا ترقى إلى مستواها كل دورات بناء النفس في العالم، ولا إلى جزء يسير منها.
دورة كانت بقضاء الله وقدره وسابق علمه، وبلطفه وإكرامه لأمته: تطهيراً للذنوب ورفعاً للدرجات، بإذن الله، نحسبك من شهداء الآخرة، إذ منهم من مات منهم بداء البطن...
فمن عجائب صنع الله بكِ أنْ شفاكِ فجأة وأنتِ في غمرة المرض وشدّته... حالةٌ حيّرت الأطباء: إذ ذهبت الخلايا الخبيثة بنسبة 85 ٪، مما مكّنكِ من الذهاب إلى العمرة بعد الجلسة الثانية من العلاج...
سبحان الله... لك يا ربنا مع خلقك شؤون... فقط لتذهب أم علاء إلى العمرة؟ ثم تعود إلى المستشفى مباشرة ليعاودها المرض... أشدّ من ذي قبل!!! لا إله إلا لله...
في المرة الأخيرة التي زرتك فيها - قبل أن تغيبي لثمانية أسابيع متواصلة – مع بعض الأخوات، كنا نحدثك عن أخبار الدعوة، وتوقفنا عند مشاركة منبر الداعيات في حفل مسابقة اللغة العربية الأولى في تركيا، فقلتِ بأننا بحاجة لأن نذهب في رحلة سياحية معاً إلى تركيا لنرفِّه عن أنفسنا، فكنا نمازحك فتقول إحدانا: أنا سأكون خادمة لكِ، وأخرى: أنا أغسل لكِ قدميكِ، أما أنا فقد مازحتُك قائلة: أما أنا فسأطبخ لكِ سندويشاً من اللبنة مع الخبز الأسمر... وتضاحكنا... ولسندويش اللبنة هذا - أعِزّائي - قصة... كانت أم علاء مرة في مركز القسم النسائي عندنا وجاعت جوعاً شديداً أثناء متابعتها لأمور الدعوة؛ فقمتُ بإعداد شطيرة من اللبنة لها، وكانت سابقة مني... فمازحتها قائلة: تفضلي... طبخت لكِ سندويشاً من اللبنة... فكانت سعيدة بها جداً، وأصبحت تتندر بهذه السابقة - بأنني "طبخت لها" – أمام بعض الأخوات...
آه... كم يخطط الإنسان لحياته... وكم من الأقدار قد نُسِجت له في الخفاء وهو لا يدري!
لقد أحدث مرضكِ هذا تحولاً جذرياً في نفسك... وقد شهدنا ذلك، إذ كنت تردِّدين على مسامعنا بأنك راضية وسعيدة بهذا الابتلاء، وذكرت مرة ونحن نزورك في المستشفى بأنكِ تشعرين أن ابتلاءاتك لم تنته بعد... وقد ابتُليتْ أم علاء باستشهاد إخوتها الثلاثة، ثم بوفاة والدها العالِم وأمها - الصالحة الصابرة المحتسبة فَقْدَ فِلْذات كبدها - وهي في الغربة، ثم ابتُليت بوفاة وليدتها فداء الإسلام، جعلها الله لها فرَطاً وذُخراً، ثم ابتُليت بحادث سيرٍ
خطير منذ سنوات طويلة عانت من آثاره حتى وفاتها، ثم بمرض زوجها (الشيخ حسن قاطرجي رئيس جمعية الاتحاد الإسلامي) مرضاً خطيراً أيضاً قبل حوالي 15 شهراً من بدء مرضها، وأخيراً مرضها الذي كان آخر عهد لها في الدنيا.
سنوات عشتها معكِ في تواصل دائم على مدار النهار بحكم عملي في مجلة منبر الداعيات وفي الدعوة، حيث كان بيننا خط داخلي مفتوح، نناقش من خلاله شؤون الدعوة وشجونها، وكذلك في المساء... فتكاد لا تخلو ليلة من تواصل لاستكمال متابعة الأمور، أو لمعرفة أخبار جديدة على صعيد دعوتنا... فضلاً عن لقاءاتنا الأسبوعية الثابتة التي لم تكن تقل عن ثلاث أو أربعة... وانقطاع كل هذا شكّل فراغاً كبيراً.
يا ألله... كيف ننسى؟
ولعل من لطف الله بنا وبزوجك وبأبنائك وبأهلك، وكذا من حفظه لدعوتنا، أن جعل ذلك التمهيد لنا قبل رحيلك: حتى لا يكون وقع الغياب أشدّ - وهو شديدٌ شديد - وحتى نوزّع أعمالك الكثيرة على عدد من الأخوات ليُكملن المسيرة ويرفعن اللواء من بعدك، وما منا مَن تستطيع أن تملأ مكانك ومكانتك، نسأل الله الإعانة والتسديد.
أما أنت يا شيخنا الكريم، فقد ضربتَ مثالاً رائعاً في الوفاء الزوجي، قلما نجد نظيره في عصرنا هذا، وأنا سأقترح على الذين يكتبون التاريخ المعاصر أن يضيفوا قصتك مع زوجك، التي لا تدانيها قصة قيس وليلى، وعنترة وعبلة، وجميل وبثينة... وغيرهم من رموز العشق في التاريخ الجاهلي...
فمن أول يوم مرضها كنت وحدك خلية نحل في تجنيد الناس جميعاً للدعاء لها: اتصالات متواصلة في الداخل والخارج: ادعوا لأم علاء بالشفاء... ومثلها بالأطباء، واجتماعات معهم لتدارس حالتها ووضعها الصحي، وسعي حثيث لإيجاد العلاج الناجع... حركة دائمة لا تهدأ...
أما مشاعر الزوج المجروح... فحدثوا عن رُقيِّها ولا حرج، أنصح الرجال بأن يطالبوا شيخنا الكريم بدورة في الوفاء... فما سألناه يوماً عن حال أم علاء - وقد كان هذا ديدننا عند افتتاح أي اجتماع أو درس، أو في معظم اتصالاتنا به... فما ذكرها وذكر حالها إلا فاضت عيناه طويلاً... وهكذا طيلة فترة مرضها، ويذكرها دائماً بالخير، ويقول لنا إنها والله تحبكن كثيراً وتفتخر بأخوّتكن...
وقد ذكَرتْ لنا مرة عندما زارتنا في الاجتماع الإداري بعد غياب طويل، بأنك تبالغ في تدليلها ورعايتها وإظهار الحب لها والتودد إليها... وكانت متأثرة جداً بذلك... ولا عجب أن يكون منك هذا وأنت من أهل حديث رسول الله (ص)، ولا شك بأنك مقتفٍ في ذلك لأثره، وأنت الحريص على تطبيق السنة، نحسبك كذلك والله حسيبك، ولا نزكيك عليه تعالى.
فليعد كل زوج إلى نفسه ليراجعها، كيف هو وفاؤه لزوجه، وليتعلم كيف يكون الحب، وكيف تكون العِشرة بالمعروف...
وبعد موتها، كانت لها محطة عند بناتها وأخواتها ومُحباتها المجتمِعات لتلقي التعزية بها في دار الدعوة... كان مشهداً مهيباً لا تعبر عنه الكلمات؛ فعندما حُمل إلينا نعشها – ما أصعبها من لحظة لولا أن ربط الله على قلوبنا – دخل الشيخ حسن وأثنى عليها خيراً، وذكر بعضاً من الكرامات التي كانت لها أثناء مرضها، ودعا لها طويلاً، وطلب من الجميع مسامحتها، وبكى وزاد من بكائنا... وصلينا عليها الجنازة... ثم قبل رأسها قائلاً: يا حبيبة القلب، يا رفيقة دربي وسندي في الدعوة يا أم العلاء... وتركها لنا كي نودّعها... ترك بضعة من قلبه عندنا... ثم عاد ليأخذها مع أبنائها ومحارمها... ولم ينس في المرتين أن يدعو لدين الله... هذا ديدنه، حتى في
الأوقات العصيبة التي كنا نشعر فيها بأن قلوبنا ستخرج من ضلوعنا... حسبنا الله ونِعم الوكيل، صبّرك الله يا شيخنا على فراق الزوجة الحبيبة الصاحبة وربط على قلبك كما ربط على قلب أم موسى... آمين.
وأما أنتن يا بناتها الحبيبات: فكفاكن فخراً أن والدتكن كانت أم المساكين... ما كانت تردّ صاحب حاجة، بل تُلح في السعي في حاجته حتى تقضيها له... وكفاكن فخراً أنها لم تكن من صاحبات مجالس السوء، ولم تدع إلا إلى الخير، ولم تدلّ إلا عليه، وكفاكن أنها كانت مثالاً للمرأة الصالحة في حجابها الشرعي حتى وهي بين الغفوة والصحو في مرضها، كانت تشير إليكن حتى لا يدخل عليها رجل وهي كاشفة لوجهها... وأنها كانت مثالاً في تواضعها الواضح الظاهر لكل من يتعامل معها، وفي طيبة قلبها، وفي... وفي... خلالٌ كثيرة تركتها لكُنّ، وأنتن أعرف بها... ونثق بإذن الله بأنكن ستسرن على الدرب نفسه، وسيزيد تعلقكن بالدعوة التي تشهد بأن أمّكنّ بذلت كل جهدها وطاقتها لكي تنهض وتنطلق وتستمر.
أم العلاء... نشعر بعد فَقدكِ بفراغ في قلوبنا...
ستفتقدكِ مجالسنا، واجتماعاتنا؛ فأثناء مرضك كنا نكتبكِ في خانة الغياب، أما الآن فقد انتقلت من صفحة محضر الاجتماع إلى صفحات قلوبنا...
ستفتقدكِ جميع نشاطاتنا التي كنت تتحرقين لكي تكون على أحسن صورة... ستفتقدكِ الإفطارات التي ما كنا نرضى أن نقيمها في كل رمضان إلا عندما تأتين من سفركِ في رحلةٍ لخدمة دعوة الله، ولتأمين كفالات الأيتام وطلاب المدارس والجامعات، ولتأمين الدعم الماالي للصرح التربوي الطموح – المدرسة الدولية – آفاق - التي نبنيها... ستفتقدكِ معايداتنا في عيدي الفطر والأضحى من كل عام... ستشتاق لك أخواتك خارج لبنان في البلدان التي كنتِ تسافرين إليها... سيشتاق لكِ كل من تعامل معك ولو لمرة... ستفتقدكِ رفيقات دربك في مسيرة الدعوة كثيراً كثيراً.
وحسبنا أنّ في مرضك وعمرتك وفي العلامات التي ظهرت عليكِ في آخر أيامك ولحظاتك ما يدل على حسن الختام.
جزاك الله خيراً عنا وعن كل مَن أفدتِه ولو بلفظة، والحر – كما قال الإمام الفقيه المربي الشافعي - من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة... فقد وضعتنا على أول الطريق وسرنا نتسابق فتسبقيننا ولا نكاد نلحق بكِ...
نسأل الله تعالى الذي جمعنا في الدنيا على طاعته أن يجمعنا في الفردوس الأعلى أخوات متحابات على سررٍ متقابلات نستذكر معاً أيامنا الخوالي: (الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)، اللهم اجعلنا من المتّقين يا أرحم الراحمين...
أم العلاء... من ثقتي بالله، لن أقول لكِ وداعاً... بل إلى اللقاء، وأردد مع الشاعر:
مولانا، يا رجانا مَن فيكَ الحُبُّ كان
إنْ عَزّ هنا لقانا فاجعله لنا في الجنان
ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنّ العينَ لتدمع، وإن القلبَ ليحزن، وإنا على فراقكِ يا رفيقة الدرب لمحزونات محزونات محزونات. والحمد لله رب العالمين.
بقلم: رفيقة دربكِ في الدعوة
سهاد عكيلة
... سبعة عشر عاماً... تلك هي صحبتي معك يا أم علاء في مسيرة الدعوة...
شريط من الذكريات: لقائي الأول بك... دروسنا... رحلاتنا... نزهاتنا... اجتماعاتنا... واختلافاتنا في وجهات النظر، ومناكفاتنا التي لم تكن تفسد قلوبنا... شغبنا الذي كنا نعاقَب عليه أحياناً... وَشْوَشاتنا وهمساتنا في الحلقة أو في اجتماع إدارة القسم النسائي، وتنبيه شيخنا المكلوم زوجك أدامه الله ذخراً لدعوتنا: يا فلانة ويا فلانة كفى همساً، ويوصي بعضنا بعضاً بألاّ نفعل بعد الآن... ثم نعود...
سنوات عشناها معاً بحلوها ومرّها في ظلال الدعوة... لن ننساها...
أم علاء... هل شهدتِ لطف الله بكِ؟
لقد يسّر الله لكِ دورة تدريبية في إعادة صياغة النفس وصَقل الروح لتكوني أهلاً للقائه تعالى، بين فقرتيها استراحة عمرة...
يا الله... ما أحلى هذه الخاتمة!
دورة لا ترقى إلى مستواها كل دورات بناء النفس في العالم، ولا إلى جزء يسير منها.
دورة كانت بقضاء الله وقدره وسابق علمه، وبلطفه وإكرامه لأمته: تطهيراً للذنوب ورفعاً للدرجات، بإذن الله، نحسبك من شهداء الآخرة، إذ منهم من مات منهم بداء البطن...
فمن عجائب صنع الله بكِ أنْ شفاكِ فجأة وأنتِ في غمرة المرض وشدّته... حالةٌ حيّرت الأطباء: إذ ذهبت الخلايا الخبيثة بنسبة 85 ٪، مما مكّنكِ من الذهاب إلى العمرة بعد الجلسة الثانية من العلاج...
سبحان الله... لك يا ربنا مع خلقك شؤون... فقط لتذهب أم علاء إلى العمرة؟ ثم تعود إلى المستشفى مباشرة ليعاودها المرض... أشدّ من ذي قبل!!! لا إله إلا لله...
في المرة الأخيرة التي زرتك فيها - قبل أن تغيبي لثمانية أسابيع متواصلة – مع بعض الأخوات، كنا نحدثك عن أخبار الدعوة، وتوقفنا عند مشاركة منبر الداعيات في حفل مسابقة اللغة العربية الأولى في تركيا، فقلتِ بأننا بحاجة لأن نذهب في رحلة سياحية معاً إلى تركيا لنرفِّه عن أنفسنا، فكنا نمازحك فتقول إحدانا: أنا سأكون خادمة لكِ، وأخرى: أنا أغسل لكِ قدميكِ، أما أنا فقد مازحتُك قائلة: أما أنا فسأطبخ لكِ سندويشاً من اللبنة مع الخبز الأسمر... وتضاحكنا... ولسندويش اللبنة هذا - أعِزّائي - قصة... كانت أم علاء مرة في مركز القسم النسائي عندنا وجاعت جوعاً شديداً أثناء متابعتها لأمور الدعوة؛ فقمتُ بإعداد شطيرة من اللبنة لها، وكانت سابقة مني... فمازحتها قائلة: تفضلي... طبخت لكِ سندويشاً من اللبنة... فكانت سعيدة بها جداً، وأصبحت تتندر بهذه السابقة - بأنني "طبخت لها" – أمام بعض الأخوات...
آه... كم يخطط الإنسان لحياته... وكم من الأقدار قد نُسِجت له في الخفاء وهو لا يدري!
لقد أحدث مرضكِ هذا تحولاً جذرياً في نفسك... وقد شهدنا ذلك، إذ كنت تردِّدين على مسامعنا بأنك راضية وسعيدة بهذا الابتلاء، وذكرت مرة ونحن نزورك في المستشفى بأنكِ تشعرين أن ابتلاءاتك لم تنته بعد... وقد ابتُليتْ أم علاء باستشهاد إخوتها الثلاثة، ثم بوفاة والدها العالِم وأمها - الصالحة الصابرة المحتسبة فَقْدَ فِلْذات كبدها - وهي في الغربة، ثم ابتُليت بوفاة وليدتها فداء الإسلام، جعلها الله لها فرَطاً وذُخراً، ثم ابتُليت بحادث سيرٍ
خطير منذ سنوات طويلة عانت من آثاره حتى وفاتها، ثم بمرض زوجها (الشيخ حسن قاطرجي رئيس جمعية الاتحاد الإسلامي) مرضاً خطيراً أيضاً قبل حوالي 15 شهراً من بدء مرضها، وأخيراً مرضها الذي كان آخر عهد لها في الدنيا.
سنوات عشتها معكِ في تواصل دائم على مدار النهار بحكم عملي في مجلة منبر الداعيات وفي الدعوة، حيث كان بيننا خط داخلي مفتوح، نناقش من خلاله شؤون الدعوة وشجونها، وكذلك في المساء... فتكاد لا تخلو ليلة من تواصل لاستكمال متابعة الأمور، أو لمعرفة أخبار جديدة على صعيد دعوتنا... فضلاً عن لقاءاتنا الأسبوعية الثابتة التي لم تكن تقل عن ثلاث أو أربعة... وانقطاع كل هذا شكّل فراغاً كبيراً.
يا ألله... كيف ننسى؟
ولعل من لطف الله بنا وبزوجك وبأبنائك وبأهلك، وكذا من حفظه لدعوتنا، أن جعل ذلك التمهيد لنا قبل رحيلك: حتى لا يكون وقع الغياب أشدّ - وهو شديدٌ شديد - وحتى نوزّع أعمالك الكثيرة على عدد من الأخوات ليُكملن المسيرة ويرفعن اللواء من بعدك، وما منا مَن تستطيع أن تملأ مكانك ومكانتك، نسأل الله الإعانة والتسديد.
أما أنت يا شيخنا الكريم، فقد ضربتَ مثالاً رائعاً في الوفاء الزوجي، قلما نجد نظيره في عصرنا هذا، وأنا سأقترح على الذين يكتبون التاريخ المعاصر أن يضيفوا قصتك مع زوجك، التي لا تدانيها قصة قيس وليلى، وعنترة وعبلة، وجميل وبثينة... وغيرهم من رموز العشق في التاريخ الجاهلي...
فمن أول يوم مرضها كنت وحدك خلية نحل في تجنيد الناس جميعاً للدعاء لها: اتصالات متواصلة في الداخل والخارج: ادعوا لأم علاء بالشفاء... ومثلها بالأطباء، واجتماعات معهم لتدارس حالتها ووضعها الصحي، وسعي حثيث لإيجاد العلاج الناجع... حركة دائمة لا تهدأ...
أما مشاعر الزوج المجروح... فحدثوا عن رُقيِّها ولا حرج، أنصح الرجال بأن يطالبوا شيخنا الكريم بدورة في الوفاء... فما سألناه يوماً عن حال أم علاء - وقد كان هذا ديدننا عند افتتاح أي اجتماع أو درس، أو في معظم اتصالاتنا به... فما ذكرها وذكر حالها إلا فاضت عيناه طويلاً... وهكذا طيلة فترة مرضها، ويذكرها دائماً بالخير، ويقول لنا إنها والله تحبكن كثيراً وتفتخر بأخوّتكن...
وقد ذكَرتْ لنا مرة عندما زارتنا في الاجتماع الإداري بعد غياب طويل، بأنك تبالغ في تدليلها ورعايتها وإظهار الحب لها والتودد إليها... وكانت متأثرة جداً بذلك... ولا عجب أن يكون منك هذا وأنت من أهل حديث رسول الله (ص)، ولا شك بأنك مقتفٍ في ذلك لأثره، وأنت الحريص على تطبيق السنة، نحسبك كذلك والله حسيبك، ولا نزكيك عليه تعالى.
فليعد كل زوج إلى نفسه ليراجعها، كيف هو وفاؤه لزوجه، وليتعلم كيف يكون الحب، وكيف تكون العِشرة بالمعروف...
وبعد موتها، كانت لها محطة عند بناتها وأخواتها ومُحباتها المجتمِعات لتلقي التعزية بها في دار الدعوة... كان مشهداً مهيباً لا تعبر عنه الكلمات؛ فعندما حُمل إلينا نعشها – ما أصعبها من لحظة لولا أن ربط الله على قلوبنا – دخل الشيخ حسن وأثنى عليها خيراً، وذكر بعضاً من الكرامات التي كانت لها أثناء مرضها، ودعا لها طويلاً، وطلب من الجميع مسامحتها، وبكى وزاد من بكائنا... وصلينا عليها الجنازة... ثم قبل رأسها قائلاً: يا حبيبة القلب، يا رفيقة دربي وسندي في الدعوة يا أم العلاء... وتركها لنا كي نودّعها... ترك بضعة من قلبه عندنا... ثم عاد ليأخذها مع أبنائها ومحارمها... ولم ينس في المرتين أن يدعو لدين الله... هذا ديدنه، حتى في
الأوقات العصيبة التي كنا نشعر فيها بأن قلوبنا ستخرج من ضلوعنا... حسبنا الله ونِعم الوكيل، صبّرك الله يا شيخنا على فراق الزوجة الحبيبة الصاحبة وربط على قلبك كما ربط على قلب أم موسى... آمين.
وأما أنتن يا بناتها الحبيبات: فكفاكن فخراً أن والدتكن كانت أم المساكين... ما كانت تردّ صاحب حاجة، بل تُلح في السعي في حاجته حتى تقضيها له... وكفاكن فخراً أنها لم تكن من صاحبات مجالس السوء، ولم تدع إلا إلى الخير، ولم تدلّ إلا عليه، وكفاكن أنها كانت مثالاً للمرأة الصالحة في حجابها الشرعي حتى وهي بين الغفوة والصحو في مرضها، كانت تشير إليكن حتى لا يدخل عليها رجل وهي كاشفة لوجهها... وأنها كانت مثالاً في تواضعها الواضح الظاهر لكل من يتعامل معها، وفي طيبة قلبها، وفي... وفي... خلالٌ كثيرة تركتها لكُنّ، وأنتن أعرف بها... ونثق بإذن الله بأنكن ستسرن على الدرب نفسه، وسيزيد تعلقكن بالدعوة التي تشهد بأن أمّكنّ بذلت كل جهدها وطاقتها لكي تنهض وتنطلق وتستمر.
أم العلاء... نشعر بعد فَقدكِ بفراغ في قلوبنا...
ستفتقدكِ مجالسنا، واجتماعاتنا؛ فأثناء مرضك كنا نكتبكِ في خانة الغياب، أما الآن فقد انتقلت من صفحة محضر الاجتماع إلى صفحات قلوبنا...
ستفتقدكِ جميع نشاطاتنا التي كنت تتحرقين لكي تكون على أحسن صورة... ستفتقدكِ الإفطارات التي ما كنا نرضى أن نقيمها في كل رمضان إلا عندما تأتين من سفركِ في رحلةٍ لخدمة دعوة الله، ولتأمين كفالات الأيتام وطلاب المدارس والجامعات، ولتأمين الدعم الماالي للصرح التربوي الطموح – المدرسة الدولية – آفاق - التي نبنيها... ستفتقدكِ معايداتنا في عيدي الفطر والأضحى من كل عام... ستشتاق لك أخواتك خارج لبنان في البلدان التي كنتِ تسافرين إليها... سيشتاق لكِ كل من تعامل معك ولو لمرة... ستفتقدكِ رفيقات دربك في مسيرة الدعوة كثيراً كثيراً.
وحسبنا أنّ في مرضك وعمرتك وفي العلامات التي ظهرت عليكِ في آخر أيامك ولحظاتك ما يدل على حسن الختام.
جزاك الله خيراً عنا وعن كل مَن أفدتِه ولو بلفظة، والحر – كما قال الإمام الفقيه المربي الشافعي - من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة... فقد وضعتنا على أول الطريق وسرنا نتسابق فتسبقيننا ولا نكاد نلحق بكِ...
نسأل الله تعالى الذي جمعنا في الدنيا على طاعته أن يجمعنا في الفردوس الأعلى أخوات متحابات على سررٍ متقابلات نستذكر معاً أيامنا الخوالي: (الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)، اللهم اجعلنا من المتّقين يا أرحم الراحمين...
أم العلاء... من ثقتي بالله، لن أقول لكِ وداعاً... بل إلى اللقاء، وأردد مع الشاعر:
مولانا، يا رجانا مَن فيكَ الحُبُّ كان
إنْ عَزّ هنا لقانا فاجعله لنا في الجنان
ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنّ العينَ لتدمع، وإن القلبَ ليحزن، وإنا على فراقكِ يا رفيقة الدرب لمحزونات محزونات محزونات. والحمد لله رب العالمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن