من سويسرا إلى فنزويلا.. كيف انهار الاقتصاد اللبناني؟!
كتب بواسطة حسان مسعود
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1045 مشاهدة
يعيش لبنان اليوم أزمة اقتصادية هي الأصعب في تاريخه منذ قيامه في أربعينات القرن الماضي، رغم تعرضه لحروب داخلية وخارجية عديدة وبالغة الشدّة أتت على الأخضر واليابس، إلا أنها لم توصل بلاداً لطالما تغنّى أهلها بلقب "سويسرا الشرق" إلى ما وصل إليه الحال اليوم في منتصف عام ٢٠٢٠، الأزمة الاقتصادية هي الوجه الأبرز والأكثر تأثيراً لأوجه كثيرةٍ من الأزمات الداخلية على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي.
ما يعيشه لبنان اليوم ليس غريباً أو مستجداً في تاريخ الدول، خاصةً تلك المشابهة لواقع لبنان الجغرافي والسياسي، رغم الخصوصية اللبنانية وتعقيداتها التي انعكست مزيداً من الصعوبة، لبنان اليوم يشهد انهياراً اقتصادياً حقيقياً لا تخطئه العين، وأبرز نتائجه فقدان الاحتياطات النقدية من العملة الصعبة من بنوكه الخاصة والبنك المركزي، وانهيار العملة الوطنية أمام الدولار، المستويات العالية من التضخم، غلاء الأسعار الخيالي، وتهديد فقدان المواد الأولية الأساسية من الأسواق كالطحين والوقود والدواء وغيرها، الأمر الذي قد يؤدي إلى نتائج كارثية.
أقرب التجارب للوجه الأوضح لأزمة لبنان الحالية، هي التجربة الفنزويلية، وقد حذّر كثيرون من سيناريو مشابه، وكوني وُلدت وعشت في لبنان وأعيش اليوم بالقرب من فنزويلا وأتابع تطور البلدين بشكل يومي، فأرى أنه من المهم أن أتحدث بصراحة عن بعض الوقائع المبنية على مقارنة منطقية وواقعيةٍ للتجربتين.
ماذا حدث في فنزويلا؟ باختصار.. كانت فنزويلا إحدى أغنى دول القارة اللاتينية خلال فترة ثمانينيات القرن الماضي، كيف لا؟ وهي صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم، وأعني العالم بأسره، أي أنها تملك نفطاً يفوق ما تملكه دول الخليج شديدة الثراء، إلا أن اقتصادها كان معتمداً بغالبيته على هذه الثروة الهائلة، رغم تنوع موارد تلك البلاد الممتدة على مساحة تقدر ب٢٨.٩ مليون كيلو متر مربع شمال أميركا الجنوبية.
أزمة النفط العالمية وانهيار أسعار برميل النفط أحدث كارثة غير متوقعةٍ في البلاد، تزامن ذلك مع اجراءات حكومية اشتراكية وقصيرة الأجل تعتمد على الدعم المباشر والاعتماد أكثر على النفط وحده، بالإضافة لاتهاماتٍ بتفشي الفساد في مختلف المستويات، تزامن ذلك مع دخول فنزويلا في صراعات سياسية كبرى نتيجة خشيتها من أطماع الولايات المتحدة بخيراتها، جعلها تصطف إلى جانب المحور الشرقي في مواجهة التهديد الأمريكي الأمر الذي تكون تكلفته باهظةً جراء العقوبات الأمريكية التي طالت كل شيء في فنزويلا.
سريعاً تدهور الحال في تلك البلاد، انهار الاقتصاد الفنزويلي، ووصلت نسبة التضخم المتراكم في البلاد اليوم إلى 3684%، وبات ارتفاع الأسعار جنونياً بشكل شهري إلى أن وصل 409,2% مما كان عليه قبل اشتداد الأزمة عام ٢٠١٣، فيما انهارت العملة الفنزويلية وألقيت بالشوارع وصنع منها قطع ملابس ومقتنيات بخسة لانعدام قيمتها بعد التوجه لطباعتها لسد العجز دون غطاءٍ كافٍ من الذهب، الى أن وصل معدل راتب الفرد الواحد في فنزويلا "النفطية" ٦ دولارات في الشهر فقط.
أحدث ذلك مجاعة حقيقية، وندرةً في المواد الأولية والأساسية الضرورية للحياة، وقف الناس بطوابير طويلة لاستلام قسائم المعونة، وعلى أبواب البنوك، وأمام محطات الوقود.. نعم حتى الوقود، لم تستطع فنزويلا الحصول عليه سوى قبل أسابيع بعد مقايضته بشيء مما تبقى من ذهبها مع حليفتها إيران، وتسبب بانعدام الأمن وشيوع الجريمة بكل أشكالها، وأنهكها الانقسام السياسي والاستقطاب فأسفر عن حروب داخلية قاسية، كل ذلك أدى للجوء حوالي ٤ ملايين فنزويلي إلى الدول المحاذية وعيشهم في ظروف شديدة الصعوبة.
لكن كيف نشبه لبنان بدولة بحجم وطبيعة وموارد فنزويلا؟ هنا يكمن السؤال! النتائج حتى الآن متشابهة نسبياً في البلدين، والخشية أن يزداد الشبه أكثر في الأيام القادمة، إلا أن المقارنة المنصفة توضح أن واقع لبنان أصعب بمراحل من فنزويلا.
فلبنان لا يملك نفطاً ينتجه لنفسه أو يصدره ليعتمد عليه، ولا موارد لا تحصى من المعادن الصلبة والثمينة، ولا مساحات شاسعة للزراعة على أنواعها، حتى اللجوء والهرب شديد الصعوبة في بلد تحيط به دولٌ منكوبةٌ أو محتلة، عدا عن الخلافات الداخلية الحادة والعنصرية الفتاكة التي تمنع تضافر الجهود واستغلال الموارد البشرية
واعتماد البلاد بشكل كامل على الاستيراد فقط الأمر الذي يحتاج عملةً باتت شبه مستحيلة لا صعبةً فقط، ولا ذهب أو مقتنيات ثمينة لدى لبنان لمقايضته بحاجاته الأساسية حتى رغم بنائه تحالفات مع هذا المحور أو ذاك، فلا أحد يمنح شيئاً بالمجان، وتجربة فنزويلا أثبتت أن الاعتماد على محور روسيا والصين وإيران قد يثبِّت نظاماً لكنه لا يحمي شعباً من المجاعة، وكذا اعتماد المعارضة الفنزويلية على الولايات المتحدة، أظهرت بوضوح تخليها عن حلفائها بتغريدة عبر تويتر دون أي دعم حقيقي.
اعتمد لبنان على نوعٍ آخر من المورد الثمين.. سكانه وأموالهم، وتعامل معه بسوء كما تعاملت فنزويلا مع نفطها، فتحول الى وهم عاش عليه اللبنانيون لسنوات واستغلت السلطة غشاوة مواطنيها فعاثت فيه فساداً حتى تبخر، ولم يبق له سوى السياحة الهشة التي تتأثر بأي خضة أمنية بسيطة عاش عليه لبنان لسنوات او صحية كأزمة كورونا المستجدة.
ثم المساعدات والإعانات الخارجية التي أضحت اليوم حلماً بعيد المنال في ظل ظروف اقتصادية هي الأصعب على العالم في تاريخه الحديث وخلافات الاطراف السياسية اللبنانية مع الدول الداعمة، والتخلف عن سداد الديون وانشغال كل دولة بنفسها، عدا عن عقوبات تهدد لبنان كل يوم بعدما طال جارتها سوريا وانعكاساته الحادة.
وبات الملجأ الأخير الآن المزيد والمزيد من طباعة العملة الوطنية التي كان واضحاً نتيجتها الكارثية في التجربة الشبيهة، لا أريد أن أكون متشائماً أو سوداوياً إلا أن الواقع شديد الخطورة، ويحتاج الى يقظةٍ حقيقيةٍ في بلد لا تتجاوز مساحته ولايةً بل مدينةً في فنزويلا، يستطيع أبناؤه إن أرادوا بصدق وتكاتف أن ينقذوا بلدهم.. قبل الوصول الى نقطة لا رجعة بعدها.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن