ورود الربيع
ما أجمل الربيع! سبحان الخالق الذي يجعل بعد كل شتاء قاتم ربيعًا مبهجًا! فالأشجار القليلة العارية قرب بيتنا قد اكتست الآن بثوبٍ من الأزهار العطرة، وزالت الغيوم الثقيلة من صفحة السماء، فتسللت أشعة الشمس الخجول بين الأبنية لتدفِّئ الأجساد والقلوب»...
هذا ما كتبته سنا في يومياتها بينما جلست على الشُّرفة ترتشف شرابًا ساخنًا. كانت منبسطة الأسارير، ثم ما لبثت أن قطّبت حاجبيها وكتبت: «أما أخبار المدرسة، فلا شيء جديد فيها... ولكن أكثر ما يُزعجني هو قدوم تلك التلميذة الجديدة «ديمة»، إنها لا تهتم بنفسها! ثيابها غير مكوية، وترتدي جوارب متسخة، وأمها لا تحضّر لها طعامًا صحيًا للمدرسة، بل تكتفي بإرسال أموال معها كي تشتري «الكرواسان» كل يوم!
مضت الأيام وتزايد انزعاج سنا من ديمة ومن غرابة تصرفاتها. فديمة تلميذة حساسة جدًا، وكانت تبكي في مناسبات عديدة بسبب أو بدون سبب. ولأنها جديدة في المدرسة وغريبة الأطوار، كما نعتتْها زميلاتها في المدرسة، لم تنجح ديمة في كسب أية صديقة. في أحد الأيام سألت إحدى التلميذات ممازحة ديمة: ماذا ستشترين لأمك هدية؟ هل ستشترين لها كرواسان أيضًا مثل كل يوم؟» ضحكت كل التلميذات بينما حدّقت ديمة إلى وجوههن بحنق وغضب ثم وقفت وصرخت بأعلى صوتها: «أمي متوفّاة! ألا تستطعن التوقف عن مضايقتي؟».
ساد الصمت المطبق بينما غادرت ديمة، وتبادلت التلميذات نظرات الندم، ومنهن من دمعت عيناها تأثرًا بالموقف، فلقد كان الصمت أبلغ من الكلمات...
عادت سنا إلى المدرسة في اليوم التالي وهي عازمة على أن تصحح الخطأ الفادح الذي ارتكبته مع زميلاتها بحق ديمة. فما إن حان وقت الفرصة حتى أسرعت سنا لتجلس قرب ديمة. لم تعرف سنا كيف تختار الكلمات المناسبة، ولكنها قالت بعد صمت طويل: «أنا آسفة حقًا بشأن ما صدر منا البارحة...» ردت ديمة: «لا بأس، كلنا نقترف الأخطاء». تعجبت سنا من مسامحة ديمة السريعة لها ولصديقاتها. وقد زاد إعجابها أكثر بعدما استغرقت في الحديث مع ديمة لوقت طويل، لتكتشف أنها ذات خُلُق رفيع، وروح مَرِحة ونظرة متفائلة إلى الحياة رغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها.
كتبت سنا في مذكراتها: «كم أخطأتُ في الحكم على ديمة! فما ذنبها إن كانت تعيش مع جدة طاعنة في السن لا تقوى على كوي ثيابها وتحضير طعام لها للمدرسة؟ وما الغريب إن لم تستطع أن تُخفي دموعها عند الحديث عن الأم؟ كان اللهُ في عَوْنها. لقد اكتشفتُ بعد حديثي معها اليوم أنني أمام فتاة مميزة، تحوِّل الِمحَن إلى مِنَح وتشكر الله على كل شيء في السرّاء والضراء. ولقد عرفت أن ديمة ستكون صديقتي...
أنظر الآن إلى باقة ورد قطفتها من بستان في الجبل فأشعر أن صديقتي الجديدة هي وردة من هذه الباقة. ما أجمل هذا الربيع بالذات! فلقد تعلمت أنه مثلما يجب عليّ ألاّ أحكم على الكتاب من عنوانه، عليّ ألا أحكم على الأشخاص قبل أن أعرف ظروفهم، وهذه وردة أخرى أضيفها للباقة. أما الدرس الأهم، فلقد أحسستُ بنعمة الأم الحانية التي لطالما اعتنتْ بي وآثرتني على نفسها، وهذه أيضًا وردة أخرى أُضيفها إلى باقة ما اكتسبتُه في هذا الربيع... ما أجمل باقة الربيع!»...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن