كاتب وصحفي تركي
الدولة العثمانية .. وقصة وداع بيروت
كتب بواسطة توران قشلاقجي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
2525 مشاهدة
قضت الدولة العثمانية فترة طويلة في بيروت، متمتعة بإدارة مُحكمة وجيدة، استمرت حتى مجيء القوى الإمبريالية إلى هذه المنطقة في القرن الثامن عشر. وعندما جاء الإمبرياليون إلى المنطقة بدأت الصراعات أولًا بين الأقليات، ثم اندلعت الأزمات بين الأقليات والأغلبية.
كانت الدولة العثمانية منشغلة بالمشاكل في قارات كثيرة بسبب «المسألة الشرقية» وباتت بنيتها المرهقة عاجزة عن الاستجابة بسرعة للمشاكل. أمّا الدول الغربية، فكانت ترسم الخطط من أجل تقسيم الدولة العثمانية، التي حكمت في منطقة شاسعة ممتدة من البلقان إلى افريقيا. كما أن التفضيلات الإدارية المتحيزة التي لجأ إليها العثمانيون حيال بعض المناطق، كانت تتسبب بتعقيد المشاكل أكثر، إبان تلك الفترة. فالأخطَاء التي ارتكبها بعض الولاة بشكل خاص، من أجل تحقيق مصالحهم السياسية الشخصية، كانت تُنسب إلى الدولة العثمانية بالكامل. إلى جانب ذلك، كان هناك ولاة يمارسون وظائفهم بطريقة جيدة للغاية، وشخصيات بارزة مثل حسين كاظم قادري بك، الذي سعى إلى تصحيح الأخطاء المرتكبة من قبل والي سوريا جمال باشا.
في كتابه «ذكرياتي من المشروطية إلى الجمهورية» يسرد حسين كاظم قادري بك بشكل مفصل مغادرة الدولة العثمانية لبيروت، التي عاش فيها إبان الحرب العالمية الأولى. في عام 1918… بدأ الفرنسيون والإنكليز يمطرون بيروت بالقذائف، ويدمرون كل شيء عبر قصف الجسور والمنازل ومستودعات الذخيرة.. كان قادري بك موجودًا في بيروت آنذاك، وهو يشرح الأحداث التي وقعت حينها على النحو التالي: «لقد كنت شاهدًا على احتلال بيروت. خشينا أيامًا من مغادرة منازلنا. وفي تلك الأثناء، أعلن عن تشكيل الحكومة العربية، وجاء شكري باشا الأيوبي، الذي تعرض للتعذيب على يد جمال باشا، وبقي في السجن فترة طويلة، إلى بيروت بصفحة الوالي.. وتم رفع الراية العربية على دائرة الحكومة، وسط هتافات ومراسم متنوعة.. أقيمت الاحتفالات من أجل الرجال الذين أعدمهم جمال باشا بقرار من ديوان عاليه العرفي، وأطلق اسم «ساحة الشهداء» على ميدان برج، الذي تم شنقهم فيه. إلا أن الحكومة العربية لم تبق سوى أسبوع واحد، رغم وعود الإنكليز والفرنسيين، حيث أنزلت قوات الحلفاء العلم العربي بعد احتلالها بيروت، ورفعوا مكانه أعلامهم الخاصة! بعد ذلك اليوم لم نحصل على أي خبر من إسطنبول. وأدركنا فقط من أصوات المدافع أنه تم إعلان الهدنة.
وكانت الشهور تمضي ولم تكن هناك إمكانية لعودتنا إلى إسطنبول، القائد المركزي البريطاني ميرالاي تومسون، كان يقول خلال اتصاله معي إن ذهابنا سيكون صعبًا، ولكن بعد أسبوع قالوا إن تومسون يبحث عني. عندما رأيته قال لي «لقد تحقق مسعاكم. الباخرة Ellenga ستأتي إلى بيروت بعد 3 أيام لكي تنقلكم إلى إسطنبول، وأنتم استعدوا وانقلوا أغراضكم إلى الرصيف». أبلغنا المواطنين على الفور وبدأنا بنقل أغراضنا، الباخرة جاءت ورست: عملاق عابر للأطلسي…
كانت عملية نقل الأغراض المتراكمة على الرصيف إلى الباخرة مشكلة: كان علينا العثور على حمالين ومنحهم الكثير من المال. أمّا تومسون فكان يدعي بأن الباخرة ستنطلق في ذلك المساء، ويطلب نقل الأغراض إليها فورًا. لقد فوجئنا. فكرت قليلًا ثم وجدت حلًا وقلت «يمكنني أن أضمن نقل هذه الأغراض إلى الباخرة في غضون ساعتين، ولكن عليكم ألا تعترضوا وأن تشاهدوا من بعيد». ضحك تومسون وأجابني قائلًا: «هل سترينا معجزة جديدة لمحمد؟». فأجبته: «نعم! لقد حزرتم جيدًا! أنا أيضًا أريد أن أريكم معجزة جديدة لمحمد». قال لي: «حسنًا، لا أبدي أي اعتراض».
كان هناك مئات من الحمالين المصريين الذين ينقلون أدوات وأثقال الجيش البريطاني، وعلى رأسهم رقيب عربي هناك يحمل بيده سوطًا. ذهبت إليه وقلت إننا من المسلمين والمهاجرين، وطلبت منه أن يأمر الحمالين التابعين له من أجل نقل أغراضنا إلى الباخرة. صرخ الرجل المسكين بأعلى صوته، وقال: «أيها الأبناء انظروا! ماذا يعرض علينا عمّنا، هذه الأغراض ستنقل الآن إلى الباخرة: نحن أيضًا سنقدم المساعدة التي يلزمنا ويكلفنا ديننا بتقديمها لإخواننا المسلمين» ليندفع مئات الحمالين المصريين على الفور وينزلوا أغراضنا من الملجأ إلى مستودع الباخرة خلال ساعتين. كان تومسون ينظر بدهشة وغضب. قلت له «ها هي معجزة محمد». لم يصدر منه أي رد وغادر المكان فورا.
انطلقت سفينة Elanga في الساعة المحددة لها. كنت أعاشر بإحسان أناسًا من شتى الأصناف خلال سنوات إقامتي الطويلة في بيروت. جاء إلى توديعنا علماء المدينة، رغم وجود مفت على رأسهم وكذلك عدد كبير من أشرافها… حضنا بعضنا، وبكينا معًا… وبهذه الطريقة غادرنا سوريا وبيروت إلى الأبد. كنت قد ادخرت كثيرًا من المعونات التي أخذتها من الإنكليز وطلبت بيعها، وبفضل ذلك تم جمع كمية كبيرة من المال. وخلال الرحيل، أخذت من المقر الفرنسي 500 ليرة مصرية. كانت هناك مساعدة جمعت من قبل البلدية في زماننا وبقي منها 500 ليرة. طلبت هذا المال أيضًا ووزعته كله على المواطنين في الطرق. بعد توديع القادمين إلى وداعنا انتقلت أنا أيضًا إلى الباخرة. كنت متعبًا للغاية. شرحت بصعوبة بالغة لمضيفي الباخرة وهم من سيلان أن يجهزوا حمامًا. وخلال دخولي للحمام، بدأت الباخرة أيضًا بالانطلاق. جاء بعض الأشخاص وطلبوا مني الخروج فورًا، وعندما سألتهم «ماذا يجري؟» كانوا يقولون «أخرجوا، أخرجوا، وانظروا ماذا ستروْن؟». ارتديت ملابسي بسرعة وعندما صعدت ظهر السفينة، شاهدت الحمالين المصريين الذين نقلوا أغراضنا إلى الباخرة، ومعهم الآلاف من سكان بيروت يقفون صفًا على الرصيف ويرفعون علمًا ثم يصرخون «الله ينصر الإسلام» ومواطِنونا يردون عليهم من الباخرة، حينها بدأت الدموع تسقط من عيني بطريقة لا إرادية. وكان ضباط من الإنكليز والفرنسيين يقفون هناك مثل الصنم ويشاهدون هذا الحماس والهتاف بدهشة. كان ميرالاي تومسون قد شاهد «معجزة جديدة أخرى لمحمد». هذا الأمر، شكّل انعكاسًا لـ»الأخوة الدينية» المستمرة منذ قرون وتجسيدًا لدين محمد. لعنة الله على الكفرة الذين يريدون تحطيم هذه الرابطة والقضاء على وحدة المجتمعات الإسلامية».
أتساءل عمّا إذا كانت مشاعر ذلك اليوم الذي تحدث عنه حسين كاظم قادري بك، لا تزال قائمة بكل ثقلها أو لا؟ إن المشهد الذي نراه عندما ننظر إلى هذه المنطقة اليوم انطلاقًا من الجواب على هذا السؤال، يدفعنا إلى طرح أسئلة وأجوبة جديدة. لا شك أن التاريخ يقوم على المفاجآت وخيبات الأمل، ولكن في بعض الأحيان يقوم على عوائد غير متوقعة أيضًا.
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة