مصطلح “تأثير الكوبرا” والتخطيط للفشل
كتب بواسطة محمد عبد الرحمن صادق
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1261 مشاهدة
قديما قالوا: "من يفشل في التخطيط، فهو يخطط للفشل".
إن أبسط المهام في حياة الفرد تتطلب منه تخطيطاً دقيقاً، حتى لا تُهدر طاقته ولا تضيع إمكانياته وجهوده سُدى، وكل مهمة في الحياة يجب التعامل معها على حدة حسب أهميتها ومدى نفعها وجدواها، حتى لا تضيع الجهود في مهام ثانوية وترك المهام الأساسية دون اهتمام بها ولا تخطيط، وما ينطبق على الأفراد ينطبق كذلك على الهيئات والمؤسسات والدول.
بادئ ذي بدء لابد أن نسلم أن طاقات وإمكانيات الأفراد والدول في التعامل مع المهام تختلف من فرد إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، فهناك ...
نافذ البصيرة، بعيد النظر، سريع البديهة، القادر على حسن استغلال الطاقات والإمكانيات، وعلى تذليل العقبات والمشكلات، ورصد المستجدات، وربط المقدمات بالنتائج، فيعرف متى يتقدم أو يتأخر أو ينسحب، كما يعرف متى يلجأ لخطة بديلة ...الخ. وما فعله سيف الله المسلول رضي الله عنه في غزوة مؤتة ليس عنا بخفي!!
وعلى النقيض من كل ذلك، هناك ...
قصير النظر، ضيق الأفق، سطحي التفكير، الذي إذا تدخل في مُهمة زاد الأمور تأزماً، أو كما يُقال "زاد الطين بلة"، وعلى أيدي هذا النوع من الأشخاص تُهدر الطاقات، وتضيع الإمكانيات، وبسوء تقديرهم للأمور تتفاقم المشكلات، ويكون حالهم وحال من معهم كحال الأغنام في الليلة الشاتية.
أولاً: مصطلح "تأثير الكوبرا" والتخطيط للفشل.
يُستخدم مصطلح "تأثير الكوبرا" للتعبير عن الحلول التي تزيد المشكلات تفاقماً والأمور تأزماً.
مع بداية فترة الاستعمار البريطاني لشبه الجزيرة الهندية في الفترة ما بين عامي 1858 و1947، عانت السلطات البريطانية من مشكلة كبيرة حدثت بسبب اختلال التوازن البيئي لمنطقة "دلهي" حيث انتشرت أفاعي الكوبرا السامة بشكل كبير في مما سبب رُعباً كبيراً لدى المستوطنين الإنجليز.
وبهدف التخلص من هذه المشكلة أصدرت السلطات البريطانية قراراً يقضي بتقديم مكافأة مالية لكل هندي يقتل أفعى كوبرا ويقدم جلدها لسلطات المدينة، كدليل على قتلها.
في بادئ الأمر حققت هذه الفكرة نجاحاً ملحوظاً حيث تفرغ الأهالي لصيد أفاعي الكوبرا طمعاً في المكافأة المالية التي رصدتها السلطات البريطانية.
ومع مرور الوقت فكَّر العديد من أهالي "دلهي" في استغلال القرار البريطاني بشأن الأفاعي لتحقيق مزيد من الأرباح حيث عَمَدَ العديد من الهنود لتربية أفاعي الكوبرا وجعلها تتكاثر بشكل كبير داخل منازلهم قبل قتلها وتسليم جلودها للسلطات.
ومن خلال هذه الفكرة حقق العديد من المواطنين في "دلهي" أرباحاً طائلة، ولكن لسوء حظهم فطنت السلطات البريطانية لهذه الحيلة فأصدرت قراراً بوقف المكافآت.
كان قرار السلطات البريطانية بوقف المكافآت سبباً لجعل المواطنين الهنود يُطلقون سراح الأفاعي التي قاموا بتربيتها داخل منازلهم في الشوارع.
وبسبب هذا الإجراء، زاد عدد أفاعي الكوبرا السامة في شوارع "دلهي" بشكل كبير مقارنة بالحال قبل بداية العمل بنظام المكافآت، فـ "تم إطلاق مُصطلح "تأثير الكوبرا" على كل قرار فاشل يتم اتخاذه بصورة عشوائية دون سابق دراسة ".
ثانياً: مصطلح "تأثير الفئران" والتخطيط للفشل
في مطلع القرن العشرين، شهدت "الهند" حادثة مُشابهة لحادثة الأفاعي السامة، ولكن هذه المرة كانت المشكلة هي انتشار الفئران بصورة بشعة تنغص على الناس معيشتهم.
ففي عام 1897، حمل المندوب العام الفرنسي "بول دومير" على عاتقه مهمة تحويل مدينة "هانوي" الفيتنامية إلى مدينة معاصرة شبيهة بباريس ولندن.
ومع بداية تطبيق برنامجه الإصلاحي بالمدينة، أمر "دومير" ببناء قنوات لتصريف المياه امتدت لعشرات الكيلومترات.
وبعد أقل من خمس سنوات من بداية المشروع حدثت كارثة هددت مشروع "دومير" حيث امتلأت قنوات تصريف المياه بالفئران، وسُرعان ما انتقلت الفئران إلى أحياء مدينة "هانوي".
لجأ "دومير" للاعتماد على فرقة مُدربة على القضاء على الفئران، ولكنها فشلت في المهمة.
هنا لجأ "دومير" لأهالي "هانوي" الفقراء ووعدهم بمكافآت مالية مُقابل كل فأر يقتلونه ويسلمون ذيله للسلطات كدليل على قتله.
وعلى الرغم من جمع كم هائل من ذيول الفئران إلا أن السلطات الفرنسية لاحظت تفاقم المشكلة وظهور نوع جديد من الفئران مقطوعة الذيل.
فمن أجل الحصول على أكبر قدر من المكافئات، عَمَدَ أهالي مدينة "هانوي" لصيد الفئران وقطع ذيولها ثم إطلاق سراحها لتتكاثر حتى لا ينتهي مصدر المكافئات.
ومع اكتشاف الحيلة تم إلغاء المكافآت المالية لتشهد مدينة "هانوي" على إثر ذلك زيادة كبيرة في عدد الفئران وظهور وباء الطاعون بحلول عام 1906.
إن ما حدث في الموقفين السابقين يدل على العواقب الوخيمة التي تحدث عند محاولة حل مشكلة ما دون تخطيط جيد، ودون إحاطتها من كل جوانبها، ودون دراسة كل التوقعات والاحتمالات.
وما حدث يدل أيضاً على أن "الفشل في التخطيط هو تخطيط لفشل أكبر ".
ثالثاً: نماذج لبعض الدول التي اعتمدت نظرية "تأثير الكوبرا" في التعامل مع المشكلات.
1- أرادت السلطات المكسيكية الحد من أزمة المرور أصدرت قرار يمنع أصحاب السيارات من استخدامها في أيام محددة من الأسبوع، وتم تنظيم ذلك حسب أرقام لوحات السيارات. نسى من أصدر هذا القرار أن هناك من الأسر من لا تستغني عن استخدام السيارات مما اضطر بعض الأسر لشراء سيارة جديدة أو أكثر، فكانت النتيجة هي تفاقم مشكلة المرور وزيادة الضوضاء والتلوث.
2- قامت الحكومة المصرية برفع سعر القمح المحلي تشجيعاً للفلاح، فقام كبار تجار ومستوردي القمح بتوريد القمح المستورد للحكومة على أنه محلي أو خلط القمح المحلي بالآخر المستورد للاستفادة بفارق السعر، ومن هنا تم إغراق السوق المحلي بالقمح المستورد، وترتب على ذلك تدهور جودة بذور المنتج المحلي، والقضاء على محصول القمح المصري حتى أصبحت مصر من أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم، بعد أن كان مخططاً لها الوصول للاكتفاء الذاتي من القمح.
3- تقوم بعض الدول برفع شعار "مجانية التعليم" أو "مجانية العلاج"، ثم ترفع يدها عن الإنفاق على مجال التعليم ومجال الصحة مما يؤدي إلى تدهور القطاعين تدهوراً يجعل المواطن لا يثق في التعليم الحكومي ولا في العلاج في المستشفيات الحكومية، ويلجأ إلى أماكن تستنزف دخله من أجل الحصول على خدمة أفضل، وبذلك نكون قد ضربنا شعار المجانية في مقتل.
4- تقوم بعض الدول بحملات مُكثفة للتحذير من بعض الكتب أو من بعض المواقع الالكترونية بحجة أنها لا تتفق مع سياسة الدولة أو مع مباديء الدين أو مع الذوق العام للمجتمع، فتكون النتيجة هي شدة إقبال المواطنين على مثل هذه الكتب ومثل هذه المواقع فتزداد خطورتها إن كانت خطيرة، أو يزداد انتشارها والترويج لها حتى لو كانت ضد السياسة العامة للدولة.
رابعاً: السمات العشر للتخطيط الجيد
إن #التخطيط الجيد له سمات وملامح لا يجب إهمالها ولا التغاضي عن إحداها، ومن هذه السمات...
1- دقة تحديد الهدف، والقيام بتقسيم الهدف العام إلى أهداف مرحلية، وكذلك القيام بترتيب الأهداف المرحلية حسب درجة أهميتها ووزنها النسبي بالنسبة للهدف العام، على أن يكون لكل هدف من هذه الأهداف مدته الزمنية التي تناسبه والموارد المادية والبشرية التي تضمن نجاح تحقيقه.
2- دقة رصد الإمكانيات المادية والبشرية وحُسن توظيفها، وعدم إغفال الفرص المتاحة.
3- دقة رصد التحديات والمعوقات والعمل على تذليلها، والعمل كذلك على إضعاف التهديدات التي قد تعوق تحقيق الهدف.
4- الاستفادة من الخبرات الشخصية السابقة والاستعانة كذلك بخبرات وتجارب الآخرين، مع التأكيد على عدم الاكتفاء بما سبق من وسائل وأساليب وخبرات وتجارب، بل يجب العمل على استحداث وابتكار وسائل وأساليب جديدة لتحقيق الهدف.
5- دقة مراعاة الظروف المحيطة زمنياً ومكانياً، مع التحلي بالمرونة التي تستوعب المستجدات ولا تؤثر على تحقق الهدف العام.
6- دقة توزيع الأدوار والمهام حسب إمكانيات الأفراد وكفاءاتهم وتوظيفهم التوظيف الأمثل.
7- الدمج بين التخطيط التكتيكي والتخطيط الاستراتيجي، وذلك يكون بالحدس، وحسن استقراء الواقع، ودقة دراسة جوانب الشخصيات المواجهة وتاريخها.
8- الانضباط وعدم استعجال النتائج، حتى ولو كان هناك نجاحاً مرحلياً ملحوظاً، وما موقف الرماة في "غزوة أحُد" عنا بخفي.
9- دقة المتابعة المرحلية لكل محاور التخطيط لرصد الإيجابيات وتعزيزها والثغرات وتسديدها، أولاً بأول.
10- التقييم الدقيق للعمل بعد الانتهاء منه حتى ولو حقق العمل أعلى مستويات النجاح.
وأخيراً أقول
لا يجب على أي حكومة أن تتعامل مع مواطنيها على أنها وصية عليهم، أو على أنهم قُصَّر لا يرتقون لدرجة أن يكونوا جزءا من المعادلة أو عاملاً من عوامل حل المشكلات.
لقد أثبتت التجارب والممارسات أنه لا توجد حكومة أكثر ذكاءً من مواطنيها ، فمهما بالغت الحكومات في فرض قوانين الوعد أو الوعيد فإن تحايل المواطنين للفوز بالوعد أو للإفلات من الوعيد يجعل هذه القوانين هي والعدم سواء، ولا حل لمشكلة من المشكلات إلا ببناء وعي المواطنين بناء كاملاً ومتكاملاً، من خلال ثلاث محاور أساسية..
- تبصير المواطنين بحجم المشكلة وأبعادها ومدى خطورتها.
- بناء القناعة لدى المواطنين بأهمية دورهم في حل المشكلة.
- التأكد من تبني المواطنين لفكرة حل المشكلة ثم القيام بتأهيلهم التأهيل اللازم لذلك.
وأقول
إن اتباع سياسة المُسكِّنات والحلول المؤقتة البعيدة عن الواقع ودون دراسة مستفيضة يزيد المشكلات استفحالاً وتفاقماً ، كمن يعالج شرخاً في جدار بإخفائه بمنظر طبيعي من ورق الحائط، أو كمن يضع إصبعه على فوهة الصنبور التالف ليمنع تسرب المياه!!
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة