“غرورُ التديّن” عند الأفراد والجماعات في العمل الإسلاميّ
كتب بواسطة محمد خير موسى
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
884 مشاهدة
الأصل في التديّن أنّه يضفي على النّفسِ الكثير من التّهذيب الباطنيّ والظّاهريّ، إلّا أنّ التديّن المنقوص قد يصحبه شعورٌ استعلائيّ على الآخرين يظهر في سلوك الأفراد والجماعات ويتسرّب حتّى داخل البنى الإسلاميّة سواء كانت دعويّة أم سياسيّةً دون أن يلتفتَ إليه الكثيرون، غير أنّه يظهر إلى العلن من خلال سلوكيّات وتعبيرات مختلفة.
وقد شهدت الكتب التربوية والتزكويّة عبر التّاريخ تحذيرًا من التديّن الذي يقود صاحبه إلى الغرور ومن ذلك العبارة المشهورة ذكرها ابن عطاء الله السّكندري في حكمه “رُبَّ معصية أورثت ذلًا وانكسارًا خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكبارًا”
وغرور التديّن يمكن تعريفه بأنّه شعور المتديّن أو الملتزم بأحكام الإسلام أو المنتمي إلى إحدى جماعات العمل الإسلاميّ بأفضليّته على غيره من غير المتديّنين أو التّائهين عن صراط الحقّ والهداية أو شعوره بالأفضليّة على من لم يكن من أبناء جماعته سواء في ذلك المنتمين إلى جماعات أخرى أو غير المنتمين إلى أيّة جماعة أصلًا.
وغرورُ التديّن يبدأ شعورًا قلبيًّا سرعان ما ينتقلُ إلى حالاتٍ سلوكيّة وتصل الأمور درجةً بالغةً من الخطورة حين يتمّ إلباسُ السلوكيّات المعبّرة عن غرور التديّن ثوب الشرع وإضفاء الصبغة الشرعيّة عليه.
إنّ شعور الفتاة المحجّبة بالاستعلاء على غير المحجّبة فقط لأنّها لا ترتدي حجابًا، واستعلاء المصلّي على غير المصلّي واستعلاء المتديّن على شارب الخمر وغيره من مرتكبي الموبقات هو خللٌ تربويّ يبني سدودًا وحواجزَ بين هؤلاء الشّادرين عن درب الهداية وبين الدّين نفسه بسبب استلاء بعض المتديّنين عليهم.
غير أنّ هذه السّلوكيّات الفرديّة المستنكرة تغدو أشدّ خطرًا إن تسرّبت إلى داخل جماعات العمل الإسلاميّ وتمّ التعامل معها على أنّها قضايا طبيعيّة أو مشروعة لتتحوّل مع الوقت إلى جزء من البُنى الفكرية لهذه الجماعات من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وما نقصده بجماعات العمل الإسلاميّ جميع الجماعات الدّعويّة والمساجديّة والسّياسيّة والتيّارات الفكريّة والتنظيمات المنبثقة من الإخوان المسلمين والسلفيّة والصّوفيّة وغيرها من جماعات العمل الإسلاميّ.
قصرُ المفاهيم الإسلاميّة “الإخوة” “الأحباب” على أبناء الجماعة
مع مرور الزّمن غدا أبناء الجماعات الإسلاميّة التي تعتمد مفهوم “الأخوة” للدلالة على أعضائها مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السّلفيّة، والتي تعتمد مفهوم “الأحباب” للدلالة على اتباعها كالجماعات والطّرق الصّوفيّة؛ تقصرُ هذه المفاهيم على أبناء الجماعة دون سواهم.
فلو سئل أحدهم عن شخصٍ ما فإنّه سرعان ما يجيب هو من “إخواننا” أو من “الأحباب”، أو أن يقول في وصفه ليس من “إخواننا” ولو كان إسلاميًّا من أبناء جماعة أخرى، أو ليس من “أحبابنا” إن كان من أتباع طريقة أخرى أو من طلاب مسجد آخر.
ترسيخ هذه الصّيغة في التّخاطب تجعل أبناء الجماعة أو التيّار الإسلاميّ ينظرون إلى غيرهم الذين ليسوا من “إخوانهم” وليسوا من “أحبابهم” على أنّهم غرباء عنهم وعن صفّهم، كما أنّه يسرّب شعورًا بالاستعلاء بين العاملين في الحقل الإسلاميّ تجاه من لا ينتمي لهم، ويرفع حواجز تمنع التقارب والتآخي والحبّ الحقيقيّ بين أبناء هذه المكوّنات المختلفة فضلًا عمّن لم يكن منها أو كان من أصحاب التوجّهات غير الإسلاميّة.
ثم مع الزّمن يستشعر أبناء هذه الجماعات أنّهم المُصطَفَون الأخيار وأنّهم بانتمائهم إلى هذه الجماعات غدَوا مسلمين من الدّرجة الأولى بينما غير المنتمين إلى كياناتهم أو غير أبناء طرقهم وجماعاتهم هم مسلمون من الدرجة الثّانية، وهم وإن كانوا لا يصرّحون بهذا ويعلنون رفضه غير أنّ أفعالهم تؤكّده في العديد من المواقف والمشاهد.
· من أنتم؟
هذه العبارة الأشهر التي خاطب بها القذّافي الثّائرين عليه؛ من أنتم؟ يستخدمها العديد من العاملين في الحقل الإسلاميّ إن تعرّضت جماعاتهم ومكوّناتهم لأدنى انتقاد من الآخرين
من أنتم حتّى تتطاولوا على أهل العلم وأتباع السّلف الصّالح؟
من أنتم حتى تنتقدوا المجاهدين الذين يبذلون دماءهم وأرواحهم في سبيل تحرير المقدّسات؟
من أنتم حتّى تخطّئوا الثّوار الذين وقفوا في وجه الطّغاة والمستبدّين؟
ومن أنتم حتّى تنتقدوا جماعة قدّمت خيرة أبنائها على أعواد المشانق وفي سجون المستبدّين؟
ومن أنتم حتّى تمسّوا هذا الشّيخ أو مريديه بانتقاد وهم أحباب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
من أنتم حتّى تنتقدوا من قدّموا أرواحهم في الميادين وأنتم تجلسون خلف الشاشات في الغرف المكيّفة؟
“من أنتم؟” انعكاسٌ لغرور التديّن الذي يستشعر العامل في الحقل الإسلاميّ أنّ له الحقّ في فعل ما يشاء دون أن يوجّه له أحدٌ انتقادًا ما دام يعمل لخدمة الإسلام، وهي تعبيرٌ عن شعورٍ بأفضليّةٍ على الغيرِ تمنعه من توجيه النقد، وهي بالتّالي تمنع صاحبها ومنتهجها ومردّدها من إصلاح خلله والتّراجع عن خطئه، وتمنحه صكّ التّزكية التي تبيح له إلقاء كلّ الانتقادات تحت قدميه واعتبار سلوكه هو الحقّ ما دام المنتقدون هم شرذمةٌ يتم التعامل معهم بشعار “من أنتم؟”
إنّ غرور التديّن آفةٌ تتجاوز مخاطرها السّلوك الفرديّ لتغدو حالةً منهجيّة
إن حاول أحدٌ انتقاد أدنى سلوكٍ لأيّة جماعةٍ عاملةٍ في الحقل الجهاديّ ضدّ الاحتلال الصّهيونيّ أو فصيلًا مقاتلًا ضد المستبدّين والطغاة في بلاد الثّورات، أو انتقاد أفعال جماعة تبذل الشهداء والمعتقلين والأسرى والمهجّرين؛ سرعان ما يرفع أبناء هذه الجماعات لإسكات المنتقدين قاعدة “لا يفتي قاعدٌ لمجاهد”، وهي ليست قاعدة فقهيّة ولا أصوليّة ولا شرعيّة، ولم يقل بها أحدٌ من أئمة الفقه المسلمين، بل إنّ الحال كان فغي غالب الأوقات على خلافها؛ فالأئمة الأربعة لم يكونوا من أهل القتال والجهاد غير أنّهم كانوا وما يزالون مراجع الفتوى في الجهاد.
وفضلًا عن بطلان هذه القاعدة من الناحية الشرعيّة والمنطقيّة فهي تحملُ في طيّاتها معنى غرور التديّن إذ هي حكمٌ على من يخالفُ هؤلاء المجاهدين بأنّه من القاعدين، ولفظ القاعد في مقابلة المجاهد يأتي في سياق الذّمّ عادة، وتعزيز هذا النّوع من الخطاب يجعل المجاهدين في منأىً عن النّصح والتّصويب ما دام الذين ينتقدونهم محض “قاعدين” لا وزن لكلامهم ولا قيمة لانتقادهم أو نصحهم.
إنّ غرور التديّن آفةٌ تتجاوز مخاطرها السّلوك الفرديّ لتغدو حالةً منهجيّة إن تمّ إهمالها والتّغاضي عنها، وهذا يستدعي من الدعاة والعلماء والمربّين من أبناء هذه الجماعات والكيانات استنفار جهودهم لمواجهة هذا الدّاء بجرعاتٍ معرفيّة وتربويّة مركّزة ومتتابعة وإلّا فإنّ القادم لن يكون أحسن حالًا ولا مآلًا.
المصدر : الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!