مَن مَثَلُك الأعلى؟!
كتب بواسطة د. أحمد عيسى
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2491 مشاهدة
مَن مَثَلك الأعلى؟ سؤال قديم جديد، بعضنا يعرف الإجابة فوراً، وبعضنا يفكر قبل الإجابة، وآخرون لا يعرفون، وقد تختلف الإجابات طبقاً للعلم والتربية والميول والبيئة والوظيفة، والمعنى المرادف للمثل الأعلى هو القدوة الهادية والأسوة الحسنة.
على مرِّ التاريخ كان العظماء والمبدعون قدوات لغيرهم، واتخذ هؤلاء أيضاً قدوات لهم من غيرهم، مثل معلميهم أو آبائهم أو الحاذقين في مثل صنعتهم.
ها هو أرسطو، كانت قدوته معلمه أفلاطون، وأفلاطون أسوته سقراط أستاذه، أما أرسطو الذي بدأنا به فكان مثلاً أعلى للإسكندر الأكبر، الذي تأسى أيضاً بأبيه الملك فيليب الثاني ملك مقدونيا، وتأسى نابليون بالإسكندر وكذاك بالفيلسوف السويسري جان جاك روسو، وكان أرسطو قدوة مارتن لوثر الألماني صاحب الحركة الإصلاحية البروتستانتية في أوروبا.
وفي جانب العلم الطبيعي، كان نيوتن عالم أينشتين المفضل، ونيوتن كان أستاذه إسحاق بارو من كمبريدج.
وفي جانب الحرب ضد العنصرية، كان ويلتر سيسولو -الذي قضى في السجن ربع قرن- قدوة نيلسون مانديلا، ومالكوم كان أسوته أباه، ومارتن لوثر كنج الأمريكي المكافح لحقوق السود كان مثله المهاتما غاندي، الذي بدوره تأثر بالشاعر والفيلسوف راجيثادرا.
وعلى النقيض، قال هتلر: إن أتاتورك أستاذه، وموسوليني تلميذه، وكذلك قال كاسترو: إن أتاتورك قدوته.
وفي العصر الحديث، فإن بيل جيتس (مؤسس شركة مايكروسوفت، وثاني أغنى رجل في العالم بعد مؤسس شركة أمازون)، هو قدوة مارك زوكربيرج (الملياردير، 36 عاماً، ثامن أغنى رجل في العالم، مؤسس فيسبوك)، ومحمد صلاح لاعب الكرة قدواته في فن الكرة بينهم كريستيانو رونالدو الذي يتخذ بدوره لويس فيجو مثله الأعلى.
لو تمعنا فيمن يتخذهم الناس قدوات لم تجد قدوة كاملة، ولوجدت من بينهم أشباه العظمة، شبه مصلح فيه طيش، أو شبه عالم فيه ضعف، أو خيال زعيم فيه ظلم، أو شبح غني فيه بخل، أو شجاعاً في غرور، أو منفقاً في منٍّ، أو عابداً مبتدعاً، أو قاضياً مرتشياً.
القدوة الكاملة
تعالَ فاترك هؤلاء وابحث عمن جمع الكمال الإنساني، والفضائل العليا، والأخلاق العظيمة، والعبادة الخالصة، والتقوى الجليلة، والهمة العالية، ابحث عن الإمام العادل، والقاضي المقسط، والزوج المحب، والأب الرحيم، من جمع كل المحامد والمآثر.. فهل عرفته؟
إنه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعزهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وألينهم عريكة، وأعفهم نفساً، وأكرمهم خيراً، وأبرهم عملاً، وأوفاهم عهداً، وآمنهم أمانة، حتى سماه قومه «الصادق الأمين».
وإذا نظرتَ إلى العُبّاد رأيته أتقاهم لله وأعبدهم، وإذا أردتَ الأزواج وجدته أصلحهم وأعظمهم، وإذا ابتغيت الأب الحاني والمربي الناصح فإنه هو هو بعينه، وإذا انتقيت القائد المحنك لا تجد أكفأ منه أو أكثر دراية وحنكة، يحب السلام ويجيب إليه، ولا يبدأ أحداً بعدوان، وإن فتّشتَ عن الإمام أو الحاكم أو الأمير كان أمير ذلك كله، فلا يعتد برأيه ولا يستبد بحكمه، أكثرهم نهجاً لمبدأ الشورى والعدل والإنصاف ولو من نفسه، يمارس ذلك في حكمه؛ فيأخذ للضعيف حقه، ويبين للظالم ظلمه، ويأخذ على يديه بحكمة، ليعيد نصاب الميزان بالعدل، فهو عبد لله قانت، وابن بار، وزوج صالح، وأب شفيق، وصديق وفيّ، وأخ مخلص، وقائد بارع، وحاكم عادل، قد حاز الشرف من جميع جوانبه، وما ذاك إلا لأنه نبي مرسل ورسول خاتم، صلى الله عليه وسلم.
يقول ربنا عز وجل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21)، فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم، وأما الأسوة بغيره، إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي بهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22)، وهذه الأسوة الحسنة إنما يسلكها ويوفق لها من كان يرجو اللّه، واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم (تفسير السعدي).
واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه الصلاة السلام، هل هي على الإيجاب أم على الاستحباب؟ على قولين؛ أحدهما: على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب، الثاني: على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب، ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا (تفسير القرطبي).
وقال تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 90)، «أولئك» يعني: الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم «الذين هدى الله» أي: هم أهل الهداية لا غيرهم، «فبهداهم اقتده» أي: اقتدِ واتبع، وإذا كان هذا أمراً للرسول صلى الله عليه وسلم، فأمته تبع له فيما يشرعه لهم ويأمرهم به. (ابن كثير).
لقد اجتمع له صلى الله عليه وسلم من الصفات والفضائل والخصائص والعطايا ما لم يكن لغيره من إخوانه الأنبياء، فقد أوتي الحسن كله خَلْقاً وخُلقاً، وقد قال الله تعالى له: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور: 48)، واجتباه واصطفاه بالنبوة والرسالة الخاتمة، وآتاه من كل ما أوتيه أنبياء الله جميعهم؛ ففيه صبر نوح، وبرّ إسماعيل، ورفق يعقوب، وعفو يوسف، ورضا أيوب، وثبات موسى، وفهم سليمان، وسماحة عيسى، عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم، فقد آتاه الله الخير كله وجعله أكمل خلقه وأفضل أنبيائه ورسله، وكان فضل الله عليه عظيماً.
احذر أن تسيء في الاقتداء
لقد استمسك أهل الجاهلية بتراث الآباء حينما دُعوا إلى الإسلام، وقال القرآن عنهم: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (الزخرف: 23)، أي: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين، وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم، نفعل كالذي فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون. (تفسير الطبري).
ونحن في هذا الزمان انفتح فيه الناس على بعضهم، واختلط المسلمون بغيرهم، وأصبح الحق والباطل في صراع عظيم، وبدأ أهل الباطل يروّجون لباطلهم وذلك من خلال الإعلام، والقنوات الفضائية، والإنترنت، فأصبحوا يُبرزون للناس أشخاصاً يزخرفونهم على أنهم أبطال وعظماء وقادة ونجوم ليتخذهم الناس قدوات.
يقول ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيِّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده»، ويستطرد قائلاً: انظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، وتأمل في هذا سر قولهم: العامة على دين الملك، فإنه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم. (ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر.. ابن خلدون، ج1، ص 184).
لقد كانت الهزيمة النفسية التي لحقت بالأمة فترات الاستعمار وما بعدها من أسباب أخذنا عنهم بلا تدقيق على ميزان الهوية، بل هو اندفاع بلوثة الانبهار، يقول المنفلوطي: «كأنه صار من المحتم علينا أن نقلد الأوروبيين في كل ما يعملون شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا حجر ضب لدخلناه، أو شربوا نخباً لشربناه، أو صنعوا صنماً لصنعناه، كل ذلك بدا أصرح دلالة على أن الجمود ما برح مستحكماً فينا؛ لأن التقليد الأعمى شأن العاجز الضعيف الذي لا يدري بماذا فاقهُ القوي القادر، فهو يقلده في جميع حركاته وسكناته ظناً منه أنها سر قوته وقدرته» (النظرات، ج2، ص284، المنفلوطي).
إن مشكلة التقليد الأعمى عائق كبير لأي مشروع للنهضة والتقدم وبناء مجتمع راشد متمسك بدينه، وقد حذر المفكر الجزائري مالك بن نبي من نوعين من الأفكار؛ الأفكار الميتة، والأفكار المُميتة.
«الفكرة الميتة» يعرفها ابن نبي بأنها «فكرة خذلت أصولها وانحرفت عن نموذجها المثالي ولم يعد لها جذور في محيط ثقافتها الأصلي»؛ فالتقاليد التي تنافي الإسلام هي موروث ثقافي من العادات والتقاليد لم يتم تصفيته وتنقيته.
و"الفكرة المميتة" هي «فكرة فقدت شخصيتها وقيمتها الثقافية بعد أن فقدت جذورها التي ظلت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي». (مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص202)، أي: الأفكار المستوردة التي تقلد تقليداً أعمى، ولا يمنع الإسلام الأخذ عن الآخرين في الأمور الحياتية وتقدمهم في الصناعات والفنون والعلوم الدنيوية النافعة ونحوه، طالما كانت لا تضر بالهوية الثقافية للأمة.
فهل نجعل لأنفسنا من القدوات أصلحها ومن العادات أحسنها؟ وهل نتخذ من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى لنا؟
المصدر : مجلة المجتمع
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة