القبسُ المبين.. مِن وَصايا لقمان الحكيم.
إنَّه لقمان الحكيم، الذي قال عنه العلماء: بأنَّه لم يكن نبيًّا على أرجح الأقوال، بل عبدًا صالحًا أعطاه الله الحكمة، منذُ صغره. وحملَ معه حكمته إلى ولده موصيًّا إيَّاه بوصايا خلَّد القرآن الكريم ذكرها إلى يوم الدين.
والله تعالى يقول: )يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)( البقرة.
وقد تفتَّقت حكمة لقمان وهو صغير عندما أرسله سيِّده يومًا مختبرًا حكمته، طالبًا منه أن يذبح شاة، ويأتِ له بأطيب ما فيها، ففعل لقمان ما أمره به سيِّده، فأتى له بالقلب واللِّسان منها، ثمَّ أمره أن يذبح شاة أخرى، ويأتِ له بأخبث ما فيها، ففعل ذلك، وأتى له أيضًا بالقلب واللِّسان، ولمَّا سأله سيِّده عن سرِّ ذلك، أجاب لقمان: (ليس أطيَب منهما أي: اللِّسان والقلب، إذا طابا، وليس أخبث منهما إذا خبُثا).
يقول تعالى: )وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)( لقمان.
وفي الأثر: "الحكمة ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقّ بها".
وربط الحكمة في الآية بالشكر لله، فيها دلالة على أنَّ كلاهما يحقِّقان في الاجتماع، ما لا يمكن الاستغناء به عن أحدهما، فأن تكون حكيمًا ينبغي لك أولًا: أن تكون شاكرًا لله العليم الحكيم، وأن تكون شاكرًا لله تعالى سبحانه، فأنت قد نلتَ من الحكمة أبلغَ ما فيها.
ولقد كان لقمان الحكيم شاكرًا لربِّه فأعطاه الله الحكمة، هذا في أحد معاني الآية، وفي المعنى الآخر، أنَّه لقاء أن أعطاك الله يا إنسان ولقمان واحد من جنسه، عليك أن تؤدي شكر الله على هذه النعم، وما مرد ذلك الشكر إلَّا نفع صاحبه، وما نكرانه ليضر من يستحق الشكر، فهو سبحانه غني حميد.
يقول تعالى في أوَّل وصيه لقمان لولده: )وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)( لقمان.
فأول واجبات الشكر لله ترك الشرك، فهو ظلمٌ عظيم لأنَّه يساوي العبد بالمعبود، والخالق بالمخلوق.
ثم يحيي لقمان في نفس ولده ملَكة المراقبة، والمحاسبة للنفس، والإخلاص في العمل بعيدًا عن أعين الناس، وعدم الاستهانة بالذنوب، لأنَّه سبحانه، سيأت بها ولو كانت مثقال حبة من خردل، ويجازي صاحبها، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر. فيقول له ما حكاه القرآن عنه: )يَٰبُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍۢ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِى ٱلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)( لقمان.
وهذا يقودنا إلى الحديث الشريف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيَّاكم ومُحقَّرات الذنوبِ؛ فإنَّما مثَلُ مُحقَّراتِ الذنوبِ كقومٍ نزلوا في بطنِ وادٍ، فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ حتى أنضَجوا خُبزَتَهم، وإن مُحقَّرات الذنوبِ متى يُؤخَذُ بها صاحبُها تُهلِكُه». فالعبد لا بدَّ أن ينظر إلى عظيم من عصاه، ولا ينظر إلى صِغَر معصيته.
ثم يوصي لقمان ولده بما أوصى الله به الأنبياء والعباد، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام وهو في المهد: )..وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا(.
وفي أكثر من ثمانين آية أمر الله عبادة بالصلاة، التي هي صلة بين العبد وربِّه، ومعراج قلب المؤمن إلى خالقه. وبعد الصلاة يأمر بذات الشوكة في الدين التي هي صفة المصلحين، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما سيصيبه جرَّاء ذلك. قال تعالى: ).. وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)( لقمان.
وأن تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر، لا بدَّ وأن ينتظرك الكثير من الأذى، ولذا أوصى لقمان ولده بالصبر على ما أصابه، ومن يفعل ذلك فإنَّه من عزم الأمور، أي: ممَّا عزمه الله تعالى وأمر به، ويُفهم من المعنى أيضًا أنَّه من يقوم به ويصبر عليه، يحتاج إلى عزيمة لا توكد، وإرادة لا تلين.
ثم يأمر لقمان ولده، ببعض توجيهات الأخلاق بعد توجيهات الدين، فأخلاق المؤمن برهان على صفاء دينه وصلاح سريرته وعلانيته.
قال تعالى في كتابه العزيز: )وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)( (لقمان).
وتصعير الخدّ للناس، هو من باب الإمالة فيه، أمام من تعجبه نفسه ويستهين بغيره، وهو من باب الكِبر والخيَلاء، والاغترار بالنفس؛ وهو ما ينافي سِمة المسلم السوي الذي ينبغي أن يكون متواضعًا، وفي الحديث الشريف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تواضع لله رفَعَه الله". والتكبُّر من صفات الخالق العلي، لا من صفات الإنسان الضعيف. وفي الحديث القدسي: "الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ".
وآخر ما أوصى به لقمان ولده عندما أمره بغضِّ الصوت، حتى لا يكون صارخًا صاخبًا، وقد اتصف بصفة من لا يأنس الناس ذكرهم، فكيف لهم أن يتصفوا بصفة لهم تلازمهم.
كما في الآية الكريمة: )وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)( لقمان.
وقد جاءت آيات كثيرة تحضّ المؤمنين على غض الصوت في عبادتهم:) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً( الأعراف .
وفي دعائهم: )ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً( الأعراف.
وفي ندائهم لرسولهم عليه أفضل الصلاة والتسليم: )إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)( الحجرات.
فهذه في العبادات فالأولى بما دونها، وبعد فهذه قبسات من وصايا لقمان الحكيم.
نفعنا الله بها وإياكم وهدانا إلى صراطه مستقيم. والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة