نشأَت الجهود اللُّغويَّة في تاريخنا مدفوعَة بحُزمة منَ الأهداف السَّامية، وأبرزها:
- - صيانةُ القرآن الكريم من الخللِ في النُّطق، أو رسمِ الكلمات، أو ضبطِ حروفها، أو سَبكِ العبارة.
- - تعليم أبناء الأمَم الَّتي دخل إليها الفتح الإسلاميّ، أصولَ اللُّغة العربيَّة، بأساليب مسهَّلة، كي يتمكَّنوا من فهْم الإسلام، وتقبُّل الدَّعوة "على بصيرة".
- - نُصرة العقيدة الإسلاميَّة، من بوَّابة الإعجاز الَّذي يثبتُ صحَّة أنَّ القرآن من عند الله تعالى، عبْر بَلْوَرة مكامن التَّفوُّق اللُّغويِّ للكلام القرآنيِّ على سائر الكلام العربيِّ.
- - وضع معالـم واضحة للاجتهاد في فهْم التَّشريع الإسلاميِّ، عبْر تملُّك مفاتيح تُعيْن على فهْم النُّصوص القرآنيَّة، أو النُّصوص النَّبويَّة، وتضبِط آليَّات استخراج الأحكام منها.
هذه الأهـداف ظلَّت قرونًا تحفُّ بالـتَّصنيف اللَّغوي على اختلاف مستوياته: المستوى الصَّوتيّ، والمستوى الصَّرفيّ، والمستوى المعجميّ، والمستوى النَّحويّ، والمستوى البلاغيّ، والمستوى الإملائيّ... حتَّى أنتَجَت تراثًا عظيمًا في حجمه، وفي منهجه، وفي طرائِق استدلاله، وفي تكامله.
وأفضل دليلٍ من داخل هذه المصنَّفات على حضور الهدف الدينيّ: وَفرَة الآيات القرآنيَّة والأحاديث النَّبويَّة الَّتي تَرِد في معرضِ الاستشهاد أو التَّمثيل على كلِّ فكرة لغويَّة.
إنّـَما بدأتُ بهذه الثَّوابت، لأصلَ إلى مأزق كبير نعانيه في كثيرٍ من الجامعات العربيَّة، إذ يُهمَّش البحث اللُّغويّ بأسلوبٍ مهذَّب، ويُحصَر في قمقمٍ ليس لائقًا به، حتَّى يصبح غريبًا عن جذوره، وخاويًا من الأهداف السَّامية الأربعة الَّتي ذكرتها في مستهلِّ هذه المقالة.
أول مواطن الـخَلل يكمُن في شنِّ الهجوم الصَّاعق على التَّصنيف اللُّغويِّ عند الأقدمين. فهو يُتَّهَم بهيمَنة الفلسفة اليونانيَّة عليه متمثِّلة بالمنطق الأرسطيّ. وقد يُتَّهَم بتأثُّره العميق بالمصنَّفات اللُّغوية الهنديَّة. وقد يُتَّهَم بانغلاقـه في إطار منهج معياريٍّ صارِم يحجر على المتكلِّمين، ويكمِّم الأفواه، ويُصادر الكفاءات.
وكلّ هذه الـتُّهم تولَّى أصحاب الفكر الصَّافي دحضها، بالحجَّة والبرهان، وأبرزوا ألَـقَ البحث اللُّغويّ التُّراثيّ، وحشدوا ما قيل من ثناء عليه، في الدِّراسات العربيَّة المعاصرة، وفي الدِّراسات الغربيَّة المعاصرة أيضًا. ولنا في كتاب الأستاذ أنور الجنديّ (2002م) "اللُّغة العربيَّة بين حماتها وخصومها" خيرُ مثال.
لكنَّ الـمزعِج أن نجد فلولَ هذه التُّهم في ثنايا بعض المحاضرات الجامعيَّة، وأن نُسمِع طلابنا الطَّعن والتَّجريح بالتُّراث اللُّغويّ، وكأنَّ المطلوب أن يهربوا منه، ويتنكَّروا له، وأن ينأَوا شيئًا فشيئًا عـن الـخلفيَّة الإسلاميَّة الَّتي نهضَت به! والمشكلة الكبرى أن يترجم هؤلاء ما لُوِّثَتْ به أذهانُهم، إذا أرادوا كتابة بحثٍ لغويّ!
ولسنا نأْبَى أن يكون هناك نقد علميٌّ جادّ ٌورصين، لـهذا التُّراث اللُّغويّ، نقدٌ تصوغه أقلام بنَّاءة تهدف إلى ترقيَته، وتصويب مساره بالَّتي هي أحسن. بل إنَّنا نحرص على ذلك، وقد كفانا اللُّغويُّون القدامى شيئًا من مُؤْنة النَّقد، على نحو ما نرى من نقد البصريِّين للكوفيِّين، ونقد الكوفيِّين للبصريِّين، وعلى نحو ما نرى من نقد أبي العلاء المعرِّيّ (449هـ) للنُّحاة في "رسالة الغفران" وفي "رسالة الملائكة"، وعلى نحو ما نرى من ردود ابن مضاء القرطبيّ (592هـ) على النُّحاة.
وثانـي مواطن الـخلل أن لا تُولَّى مادة النَّحو وأخواتها (الصَّرف والإملاء والبلاغة..) قسطًا وافرًا من حصص التَّدريس! ولهذا يشكو أكثر الطُّلاب الجامعيِّين أنَّهم لا يتلقَّون عبر سنوات الإجازة نـصف المعلومات اللُّغويَّة الَّتي تؤهِّلهم لتعليم طلاب الحلقة الثَّالثة من التَّعليم الأساسيّ، ولا الحلقة الثَّانية!
وطريقة التَّدريس قد لا تكون بالمستوى الجامعيِّ المطلوب، لأنَّ الأستاذ سيضطرُّ إلى اختصار المباحث، كي يتاح له أن يمرَّ بكلِّ العناوين النَّحويَّة. وهكذا لن يدخل إلى مهارة فهم الشَّاهد والتَّعليق عليه، ولـن يتطرَّق إلى الخلافات النَّحويَّة بالقدر الَّذي ينمِّي الحسَّ النَّقديّ، ويوسِّع المدارك، ولـن يقوم بالتَّطبيقات الوافية الَّتي تعبِّر عن النَّحو الوظيفيّ تعبيرًا وافيًا، ولـن يناقش طلابه في طرائق شرح الدُّروس النَّحويَّة في المدارس، حيث يعلِّمون، أو سيعلِّمون.
وفي المقابل تُحشى المناهج بموادّ كثيرة غير أساسيَّة، لا تمتّ إلى الاختصاص بصلة واضحة، ولا تُوصَف إلَّا بأنَّها ثقافة عامَّة، وكأنَّ الطَّالب الجامعيّ لا يستطيع مطالعتها بمفرده! نعم، هو يستطيع، لكنْ هل يستطيع دخول مغاور النَّحو والصَّرف بمفرده؟
ولنا أن نتخيَّل أيضًا فداحة الأمر حين يتصدَّر الباحثون من طلَّاب الماستر والدُّكتوراه للكتابة اللُّغويَّة، وهـم غير متمكِّنين، فتكثر السَّقطات في سَبك العبارات، وتظهر الفجوات في الثَّقافة الـلُّغويَّة من معرفة بأعلام الـنَّحو، ومصنَّفاتهم، وخلافاتهم، وآليَّات اجتهادهم!
وثالث مواطن الخلل أن نرى طفيليَّات تنبت على جذوع البحث اللُّغويّ، وتنسب إليه، مزاحمة إياه. وأعني هنا الدِّراسات الألسنيَّة!
هذه الدِّراسات تنظر إلى اللُّغات كلّها نظرة واحدة، وتدرسها على نحو وصفيٍّ معيَّن ، وتبحث في الخصائص المشتركة بينها، دون أن تنظر إلى تفوُّق لغة على أخرى. وهي في مجملـها نظريات غربيَّة يُراد لها أن تلقي بظلالها على مناهجنا اللًّغويّةَ، نظريات تصيب أو تخيب، لكنَّها لا تنفذ إلى روح لغتنا العربيَّة، ولا تخدمها بالشَّكل الوافي، بل تنأى بها عـن أن تكون سحرًا يتألَّق، أو مادَّة تُتَذوَّق، أو إعجازًا يتدفَّق، أو فِكرًا يتعمَّق.
إنَّ في لغتنا خصوصيَّات فريدة أشار إلى كمٍّ هائل منها أحمد بن فارس (395هـ) في كتابه القيِّم "الصَّاحبي في فقه اللُّغة". وهذه الخصوصيَّات تستدعي أن تكون الدِّراسات الَّتي تنفذ إلى حقيقتها، دراساتٍ تملك المعرفة الوافية بالنَّحو العربيّ، والصَّرف العربيّ، وأحكام التَّجويد، وقواعد الإملاء والخطّ، وفنون البلاغة. ولا تُغني الدِّراسات الَّتي تُطلُّ على اللُّغة من منظور عام. ولا بدَّ أن نتذكَّر أنَّ التّخصُّص الدَّقيقَ هو الَّذي بات يحكم الفكر والعِلم، ولهذا لا يملك التَّوغُّل الحقيقيّ في البحث اللُّغويّ لأيِّ لسان، إلَّا أبناء هذه اللُّغة، بمعايير لغتهم، لا بمعايير مستوردة، أيًّا تكن هذه المعايير. وقديمًا قيل: "أهل مكَّة أدرى بشعابها".
ولقد اجتهد كثيرون- في تأصيل هذه النَّظريَّات الألسنيَّة، من تراثنا العربيِّ، ومنهم الدُّكتور عماري عزِّ الدِّين في دراسته "أثر البلاغة العربيَّة في الدَّرس اللِّساني الحديث"، والدُّكتور حسام اللَّحَّام في "أثر نظرية النَّظم في الدِّراسات الأسلوبيَّة". وهذا التَّأصيل بيَّن أنَّ نقَّادنا ولغويِّينا وبلاغيِّينا سبقوا إلى كثير من مباحث الألسنيَّة، ومنهم الجاحظ (255هـ) وعبد القاهر الجرجانيّ (471هـ) وحازم القرطاجنِّيّ (684هـ)... فإذا أردنا الاستفادة من روحية الألسنيَّة، فلننشئ نحن ألسنيَّة عربيَّة، تشكِّل امتدادًا لجهود لغويّـِـينا القدامى، مـمَّـن التفتوا إلى نشأة اللُّغة، وتطوُّرها التَّاريخيّ، وعوامل تطوير دلالاتها، وأساليب تعليمها، وقارنوا بينها وبين اللُّغات المعروفة في أزمانهم. وبذلك لا نكون متسكِّعين متسوِّلين، ونحن نملك الكنوز الوافرة. ألم يقل الشَّاعر:
كالعِيسِ في البَيداءِ يَقتُلُها الظَّما
والـمَاءُ فَوقَ ظُهورِها مَـحْمُولُ!
ونحن حتمًا لسنا مع انغلاق الفكر اللُّغويِّ العربيِّ على ذاته، فلا بدَّ أن نتسقَّط النَّظرياتِ الوافدة، ونطَّلِع عليها، ونكتسب منها ما ينفع النَّاس ويمكث في الأرض. لكنَّنا نأنف أن نجعلها رائدةً فوريَّة لنا، تحظى بالزَّعامة غير القابلة للطّعَن، لسبب وحيد، وهو أنَّها غربيَّة. لقد كان أسلافنا ذوي نفوس منفتحة، فأخذوا ما أخذوا من الأمم المجاورة، لكنَّهم حافظوا على شخصيَّتهم اللّغُويّةَ أتمَّ المحافظة.
*****
بعد هذا كلّه نضع أمام الباحثين في اللُّغة، أو المشرفين عليهم، هذه الأمانة مركَّزة في عدَّة نقاط تصلح محاور أبحاث جدِّية:
- - ثـمَّة نـحاة معتبَرون في تاريخنا القديم، وتاريخنا المعاصر، لم ينالوا الإضاءة على مناهجم واجتهاداتهم، فينبغي إحصاؤهم، وتداول أسمائهم، للنُّهوض بعبء إيفائهم ما يستحقُّون من العناية.
- - وثـمَّة مخطوطات لغويَّة ما زالتْ طيَّ الكتمان، أو حبيسة المكتبات العلميَّة، وتستحقّ أن تُنتَشَل من مستنقع الـنِّسيان، ولهذا يجب تشجيع الطُّلَّاب على تحقيقها، ضمن آليَّة علميَّة صحيحة، تبدأ بالإحصاء الدَّقيق لهذه المخطوطات، وتبويب أسمائها، ونشر لوائحها في كتاب جديدٍ يوزَّع على أقسام اللَّغة العربيَّة، في الجامعات العربيَّة والإسلاميَّة.
- - وثمَّة قضايا لغويَّة لم تُشبَع بحثًا. ومن ذلك مصطلحات اللُّغة العربيَّة المترجمة ضمن التَّطبيقات والبرامج في الهاتف والحاسوب ومواقع التَّواصل الاجتماعيّ. ومن ذلك أيضًا نقد المواقع الإلكترونيَّة الَّتي تضع على عاتقها الفكر اللُّغويّ، ومنها معاجم ميَسَّرة ومجامع حديثة. ومن ذلك نظرة لغويِّينا القدامى إلى اللُّغات غير العربيَّة.... ويجدر بكبار الباحثين في كلِّ جامعة معنيَّة بالدِّراسات اللُّغويَّة أن يجمعوا هذه القضايا، ويوجِّهوا الباحثين إليها في رسائلهم وأطروحاتهم الجامعيَّة.
- هذه نظرة موجزة، أرجو أن تشكِّلَ نواةً لـعمل جماعيٍّ، يتدارك البحثَ اللُّغويّ الأصيل، قبل أن يدخل إلى غرفة الاعتقال، فكلّنا مسؤولون عن هذه اللُّـغة الكريمة، ولكنَّ أصحاب الشَّأن، ذوي الـتَّخصُّص اللُّغويّ، أَولى بأن يتحمَّلوا الأمانة هذه، ولعلها جزءٌ من الأمانة الَّتي عُرضَت "على السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ والجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْها"!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن