باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
الاستئثار المرّ.
يزدحم هذا العالم بقضايا كبرى، وتتفرع عنها قضايا بعضها هامشيّ وبضعها آنيّ، وتتباين في هذه القضايا أنواع التفاعلات والاهتمامات، ويتصدر في كل واحدةٍ منها متخصصين ومهتمين ومتابعين.. وتزخر منطقتنا بالكثير من هذه القضايا، بعضها متشابك وبعضها الآخر أقل منها تداخلًا، ولكن جميعها تكتنف قضايا إنسانية بالغة التأثير، وعميقة الأثر. وفي دنيا الانشغال هذه، السعيد حقًا من نذر نفسه لخدمة قضية من هذه القضايا العادلة، فأمتنا تعاني النزف تلو الآخر، وتكثر الجراح الندية –القضايا- التي تحتاج عملًا دؤوبَا ومواقف رصينة، ومتابعة دائمة، وهي خطوات لا يحسنها الكثيرون، ولا يصبر عليه إلا قلة قليلة.
وفي سياق هذه الثلة من السعداء، لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يعملوا على كل قضايا الأمة أو المنطقة دفعةً واحدة، فنجد من تفرغ ليعمل في خدمة بعضها، أو في جوانب معينة من هذا البعض، فمن السعي إلى بلسمة جراح الشعوب الثائرة، أو الدفاع عن ثوابت الدين، أو المضي في رفد المرابطين في ثرى الأرض المباركة بالمؤازرة والدعم، أو الذين يمدون أيديهم بالخير لكل من ضاقت عليه مدن الدنيا، أو حوصر من الجار والقريب، وغير ذلك من جوانب وتفاصيل.
ومن يُمعن بصره وبصيرته في حال من يعمل، يجدهم على أحوال شتى، فمنهم من يعمل بحرص وكد، ومنهم من يقدم على قدره ومؤونته، ومنهم من يتخذ هذه القضايا شعارًا فقط، يستخدمها لمآرب وأغراض، ولا يكاد يعمل لأجلها، فهي بالنسبة إليه مطية لأهدافٍ أخرى. ومع ما في الفئات العاملة الجادة من تضحية وتفان، وما فيهم من سبقٍ وأفضلية، إلا أنهم بشر، فتعتريهم أمراض النفس البشرية، ولكنها أمراض عامة تصيب المنظومة برمتها، فليست حالة فردية، بل حالة عامة، تتحول مع الوقت إلى نموذج متكرر، يخاله الناظر إليهم من بعيد، سمة موروثة وعادة من عادات العمل والتعامل.
ولن أتحدث في هذا المقال سوى عن مرض عاينته وشاهدت كيف ينخر في أجساد كياناتٍ عديدة، وهو مرض "الاستئثار"، وهي من السمات التي تجدها في كل حقلٍ وميدان، بل هو واحدٌ من أساسات القهر التي نعانيها في بلادها، فالاستئثار بالحكم والسلطة وإقصاء الآخرين، وتسلط شرذمة على كل مصادر الدخل والثروة، وإبقاء غالبية المواطنين يتكففون قوت يومهم، ومن السياسة إلى الدين وتحويل المؤسسات التي تنظم شؤون الناس في الإفتاء والقضاء، إلى صورة من "الإكليروس" لم تعرفها الأمة في غابر أيامها، وغيرها من صور الاستئثار التي تكاد لا يخلو مجتمعٌ من بعض صورها.
وأركز هاهنا على من يعمل لقضايا الأمة، أو في أعمال البر والخير، فهم في بداءة الأمر أكثر المعنيين بالانفتاح على مختلف الأطياف، ونشر قضيتهم العادلة، واستقطاب المزيد من المميزين إليها. ولكن الممارسة تختلف عن الحالة المثالية، ولكونهم أرباب "الثغر" الذي يعملون لأجله، وأهل صنعته، فيرون أنفسهم أعلى وأسمى من غيرهم، ليس ترفع التكبّر والأنفة، بل ترفّع التعاون ومد يد العون، فتجدهم يتنحون جانبًا في كل فرصةٍ، مهما كان الحدث أو الواقعة يحتاج إلى تضافر الطاقات، وحشد الجهود، فيكون شعارهم الذي يطبق على أرض الواقع "إما نحن أو لا أحد"، وغيرهم لا يعمل لخدمة هذه القضية أو تلك إلا أن يكون تحت جناحهم وفي مظلة هم تراضوها وصنعوها.
ويمكن أن يقول أخٌ فاضل صاحب نظرٍ وبصيرة، أن الاستئثار هذا سنة دائمة، وسلوك يمارسه الكثيرون من السياسة والاقتصاد، حتى الشركات العملاقة تحاول إقصاء منافسيها والاستئثار بأكبر حصصٍ ممكنة من السوق، وهي من الطبائع المنتشرة.. أقول له هذا وارد في المنافسة على مقاعد البرلمان، أو على حصص السوق وعائدات الأموال، ولكنه غير مقبول البتة في أصحاب الهمم العالية والقضايا السامية، فهنا لا يمكن "للغائية" أن تكون حاكمة التصرفات، والركيزة لإدارة مؤسسات لها أهدافٌ عليا وقيم ومثل رفيعة.
ومن الأمثلة التي سمعتها عن مثل هذا الاستئثار، حاجة الجهات الخيرية في واحدٍ من بلادنا العربية لقاعدة معلومات مشتركة، تسهل على هذه الجهات حصر المحتاجين، ويتلافون بطبيعة الحال أن يأخذ المستفيد من أكثر من جهة، ما يسمح برفع جودة التقديمات الخيرية، وتعميم العطاء على فئات أكثر وأكبر... وعلى الرغم من هذه الفوائد التي لا تُنكر، رفضت أكثر من جهة المشاركة في هذا المشروع متحججة بحجج واهية وبالية، والنتيجة استمرار حالة التخبط والتشرذم على الصعيد الخيري.
وفي محاولة لرصد ما يقوم به المستأثرون، حاولت حصر بعض صفات هؤلاء، فسجلت المشاهدات الآتية:
- الحزبية أولًا: وهو أمر طغى فيهم وفي غيرهم، فلا يقدم إلا من هو معهم ضمن حساباتهم الخاصة، ويُقصى الآخر، فتراهم يحجمون عن التواصل مع فاعلين آخرين إن كانوا خارج المنظومة التي تضمهم، في المقابل يقربون إليهم وإلى منظوماتهم من هو مقربٌ منهم فقط.
- كل الآخر محل تنظير: وهي طامة أن تنظر على الآخرين، وتصبح أي جهود أخرى في سياق "الرياء أو المنافسة"، وإن لم يكن التحاسد موجودًا، فحينها يستدعى "النقد" ليكون السلاح الذي ننتقص فيه من العمل، من حيث الشكل والمساحة والأثر.
- ابتلاع الأعمال المشتركة: على الرغم من أنفة المستأثرين عن العمل المشترك، إلا أنهم في حالات نادرة ينخرطون في أعمالٍ مشتركة، إلا أنهم في هذه الحالات يستأثرون بكل تفاصيل العمل، ولا يجدون غضاضة بأن يطالبوا بما لا يستحقوه وما لا يعرفونه.
- المظلومية والإنكار: يدعي أصحابها أنهم يحاولون التواصل مع الآخرين، ولكنهم يلاقونهم بالصدود المرة تلو المرة، وينكرون أنهم من يرفض ويعرقل أي مشاريع مشتركة.
- الاستئثار المر: وهي حالة متقدمة جدًا، أن يعلنوا للناس أنهم يتفردون في العمل والإنجاز والتضحية للقضية، وأن غيرهم ليسوا إلا متسلقين منتفعين، أو هم ممن شق صفهم وخرج من عباءتهم فهم هنا الأصل، والفرع مشاكس شق العصا، وإما أن يكون "منافسًا" جديدًا، فكيف يمكن أن يُعطى الثقة من دخل على الساحة جديدًا من دون رصيد خبرة وتاريخ حافل بالإنجاز.
أخيرًا، لا أقصد في هذه الكلمات جهة بعينها، فهناك من يقع في هذا الفعل مرة، وهناك من يجمع جميع ما ذكرت ويمضي على هذا النهج طيلة حياته... ولكنني هنا أحاول الإضاءة على أهمية المشاركة والتعاضد، وقد خبرت وشاركت في أعمال كثيرة كان التكاتف فيها سمة نجاحها الأساسية ورفعها والمضي قدمًا بها، خاصة أننا في واقع يحتاج إلى المزيد من تضافر الجهود، فكل قضايا المنطقة والأمة بحالة شديدة التعقيد، وتتطلب منا المزيد من العمل والفكر والجهد.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة