متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
أيّ جهل بالدّين وعلومه انتاب الأمّة!
نُشِر نصّ، على الشّبكة الرّقميّة، يشّكّك في كتب الحديث السّتّة المعروفة بالصّحاح..؟ وتناقله، مع إظهار الإعجاب بمحتواه، بعض أبناء الأمّة.
ماذا عن هذا المحتوى؟
يدعم هذا المشكّك رأيه بكون مؤلّفي هذه الكتب أعاجم، فكيف لهم أن يتقنوا اللّغة العربيّة ويحسنوا فهم و نقل الحديث؟ جهل هذا أنّ تأسيس قواعد اللّغة في حدّ ذاته مرتبط بسيبويه واضع الكتاب "الأوّل" في النّحو، وهو من أصل عجميّ، وأمثاله كثيرون كالزّمخشري وابن فارس.. ونسي أو تناسى أنّ أهمّ خاصيّات هذه اللّغة ارتباطها بالقرآن والرّسالة الخاتمة الّتي وحّدت أعتى القبائل تناحرًا وقوامها "لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتّقوى". وقد اعتبر علماء اللّغة كلّ من تكلّم اللّغة العربيّة عربيًّا. ولذلك تسمّى البلاد الإسلاميّة النّاطقة باللّغة العربيّة: البلاد العربيّة. وتبعًا لهذه الخاصيّة ليس بالضّرورة أن نكون ذا نسب عربيّ أصيل ليتسنّى لنا إتقان اللّغة؛ فحجّته مردودة ابتداء.
ثمّ ادّعى، من دون دراية ولا دراسة علميّة جادّة، أنّ الحديث لم يحفظ ولم يقيّد بالكتاب منذ البعثة، وأنّ هذه الكتب ألّفت بعد قرنين أو أكثر من حياة الرّسول ولذا لا يمكن أن تكون مصادر معتبرة.
ماذا عن مراحل رواية الحديث وحفظه؟
وغاب عنه وعن أمثاله من المشكّكين في السّنّة، أنّ الحديث حفظ منذ حياة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وعرف مراحل متتابعة، منذ عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم، إلى عهد الصّحابة ثمّ التّابعين وتابعي التّابعين؛ تميّزت بالتّحرّي في قبول الرّواية وما كتب في الصّحف منذ البعثة، حرصًا على حفظ حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وخوفًا من أن يضيع أو يشيع فيه غير الصّحيح. ووضعت لذلك مناهج تحوي شروطًا لقبول الحديث والعمل به، وضوابط لكيفيّة معرفة السّند المجمع على ثقة رجاله والمتون الّتي لا تتعارض مع القرآن والخالية من "العلل" و "الشّذوذ".
فكان علم الرّجال وعلم الجرح والتّعديل وسائر علوم الحديث.. هذه العلوم الّتي استُنبِطت منها أسس البحث العلميّ المعتمدة في عصرنا الحاضر. فأوّل من وضع قواعد البحث العلميّ الدّقيق هم علماء الحديث في القرون الأولى الثّلاثة ومنذ القرن الأوّل للبعثة. ثمّ كان على رأس المئة الثّانية للهجرة أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث، أضف إلى هذا أنّ العرب حينئذ عُرفوا بالذّاكرة القويّة وحسن التّعويل عليها.
ليس لأيّ منّا أن يتكلّم في علم من العلوم قبل أن يتخصّص فيه ويتقن أسسه وفروعه وضوابطه، ناهيك عن أن يصدر أحكامًا.. والغريب في الأمر أنّ أمثال هؤلاء المشكّكين في السّنّة وصحّة ثبوتها مع ما شملها من تحرّ وضبط علميّ، يتلقّون بيقين ومن دون شكّ في صحّتها كلّ أخبار العهد الجاهليّ وشعره ونثره وأخبار التّاريخ الّتي وصلتنا عبر الرّواية من دون تمحيص.. ويقبلون بلا نقد أو تحرّ لا دراسة كلّ ما يقدّم من أخبار في وسائل الإعلام المعاصرة، والموجّهة لخدمة هذا أو ذاك، مع كونها كثيرًا ما يغيب فيها العدل والموضوعيّة وصحّة الخبر..
مكانة السّنّة في الإسلام
إنّ قول الرّسول يشرح لنا القرآن، ويفصّل عمومه، ويكمل تعليم ما لم يرد في القرآن من كيفيّة صلاة وحجّ وكلّ ما على المسلم من قول أو فعل. والسّنّة هي الّتي وضعت لنا أسس الاجتهاد في مستجدّات الأمور عبر العصور ولا يمكننا اعتماد غيرها. فالّذي يلغي كتب السّنّة السّتّة المتّفق على العمل بها من علماء الأمّة عبر قرون متتالية، هو بصدد إلغاء القرآن. ما من موضع في كتاب اللّه يذكر فيه اللّه الأمر بطاعته سبحانه إلّا وأتبعه بوجوب طاعة الرّسول. فكيف يأمرنا اللّه بطاعة الرّسول إن لم يسخّر لنا من العلماء الثّقات من يحفظ السّنّة!..
وهو سبحانه الّذي قرّر ألّا تكون نبوّة بعده عليه الصّلاة والسّلام.. كيف نستطيع طاعة الرّسول والعمل بتوجيهاته مع نفي إمكانيّة وصولها إلى بني البشر إلى يوم الدّين؟.. اللّه عدل ولا يأمر عباده بما هو مستحيل التّطبيق. ثمّ إنّه يقول سبحانه في كتابه الكريم {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون}، (الحجر 9). ويقول سبحانه في سورة النّحل (آية 44) {وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم لعلّهم يتفكّرون}.
كيف نكون خير أمّة ونحن نجهل أفعال وأقوال ومواقف الرّسول وهو قدوتنا الرّوحيّة والفكريّة ما بقيت الأرض ومن عليها إلى يوم الدّين.. فهو النّموذج في طهارة القلب من الإثم وطهارة العقل من الانحراف. يقول سبحانه و تعالى: {و ما آتاكم الرّسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا}، (الحشر7).
ويقول عزّ وجلّ: {لقد منّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة}، (آل عمران 164) خاطب اللّه الرّسول صلى الله عليه وسلم: {وإنّك لعلى خلق عظيم}، (القلم 4) ووصف مخالفة سيرته بقوله سبحانه: {فسحقًا لأصحاب السّعير}، (الملك 11)
ربط اللّه ذكره عليه الصّلاة والسّلام بمفهوم الوحدانيّة، في كلّ أذان، وجعله متفوّقا في كلّ المجالات مطلقًا..
نصّت كثير من أقوال الرّسول منذ ما يناهز الخمسة عشر قرنا على حقائق علميّة عديدة لم يكتشفها العلم إلّا في هذا القرن..
دراسة شخصيّة الرّسول في مختلف مراحل حياته وتدبّر سنّته وتطويع النّفس إلى العمل بها أمر حتميّ في زمننا الحاضر خاصّة والأمّة حادت عن التّربية الرّشيدة. جهل الشّباب بعلوم الدّين مصيبة، والمصيبة أكبر عندما يتفشّى الجهل في الأمّة، فلا فلاح بغير نهج الرّسول صلى الله عليه وسلم.
فلنحذر التّشكيك في مصدري التّشريع: القرآن والسّنّة. ولنطلب العلم الصّحيح والثّابت قبل التّفوّه بأيّ حكم، ولنتّق اللّه في هديه ولا نتكلّم في الذّكر بغير علم..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة