سفينة النجاة.. في بحر الحياة.
لعلّ أفضل وصف يمكن اختياره لهذه الحياة التي نحياها، هو ما وصفها به خالقها عزّ وجل في كتابه العزيز فقال سبحانه: {وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرِّيَٰحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ مُّقْتَدِرًا} الكهف.
فظاهر نزول الماء من السماء إلى الأرض فيه خير وبركة ونماء، ولكن ما إن يختلط الماء الهاطل بنبات الأرض، وقد جاءته ريح عاصف من كل حدب وصوب؛ حتى تراه هشيمًا متناثرًا بعد أن كان خضرًا متراكبًا.
وهذا تشبيه قرآني بديع وبليغ في وصف الحياة الدنيا على حقيقتها، وأنّه من اغترّ لها وخدعته قشورها البالية، ومالت به آمالها الفانية، سوف يجد نفسه بعد حين من الأمر قد خرج منها خالي الوفاض كخروج الأبناء من الأرحام، أجسادًا طرية عارية..
وقد أفاض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التحذير من الدنيا وركون أهلها إليها، ومن تلك الأحاديث الشريفة قوله عليه الصلاة والسلام: "لو أن هذه الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء". وقال عليه الصلاة والسلام: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
ورحم اللّه الشاعر القائل في هذا المقام:
ومن يذق الدنيا فإني طَعمْتُها
وسيق إلينا عَذْبُها وعذابها
فلم أرها إلا غُروراً وباطلاً
كما لاح في ظهر الفلاة سَرابُها
وما هي إلا جِيفةٌ مستحيلةٌ
عليها كلابٌ هَمُّهن اجتِذابها
فإن تجتنبها كنت سِلما لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فطوبى لنفسٍ أُودعت قعر دارها
مُغَلَّقَةَ الأبوابِ مُرخىً حجابها
والسؤال هنا أنه طالما هذه هي الدنيا وهذا شأنها وقدرها، فأي طريق ينبغي سلوكه لعبورها بسلام وأمان..
وهل هذا الطريق هو برّ يابس أو بحر جارف؟
إن ما يناسب حال الدنيا وتقلّبها بأهلها، وصفها بأنها بحر متلاطم الأمواج، تسير بركابّها في سفينة تمخر بهم العباب، وتعلوهم رياح الفتن من الأعناق حتى الركاب، وهم بين صعود وهبوط في لُجج البحر، فمنهم من نجا ومنهم من أدركه الهلاك.
ولما كان قد بعث اللّه تعالى فينا رسولاً منا شفوقًا علينا، رؤوفًا بنا عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد أرشد أمته إلى سبيل النجاة في بحر الحياة، عندما أوصاهم أن يتمسكوا بالكتاب والسنّة ففيهما الخلاص عند اشتداد المحن، وعندما تولّهم الخطوب، ويصبح العبد حائرًا مكروبًا، فقال عليه الصلاة والسلام:" تركتُ فيكم أمريْنِ، لن تَضِلُّوا ما تمسكتم بهما: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ رسولِهِ".
إنّ ربّان السفينة يعلم وحده كم تحتاجه سفينته وهي في عرض البحر إلى تجديد الوقود والزيوت وتأكيد السلامة فيها في هبوطها في لُجج البحر والصمود. فكيف بمن يقطع رحلة السفر إلى الآخرة إنه أحوج ما يكون في رحلته الطويلة إلى تجديد الإيمان. وهل الإيمان يحدّد؟ نعم، ألم يقل رسولنا عليه الصلاة والسلام جددوا إيمانكم، قالوا وكيف نجدّد إيماننا يا رسول اللّه؟ قال أكثروا من قول لا إله إلا اللّه.
إنه مثال واحد على ما فيه معنى التجديد، وهو في دين اللّه يحتاجه العبد ما دام فيه نبض في القلب إلى حبل الوريد.
ثم إن هذا السفر الطويل يحتاج إلى زاد كثير، فاللّه تعالى بيّن خلاصة هذا السفر ويحط رحاله فقال سبحانه: {يا أيها الإنسان إنّك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} الانشقاق.
فلا بدّ من الكدح في هذه الدنيا، ولا بدّ أن يلاقي الكادح عندما يصل إلى ربه في رحلته الطويلة ما قدّمه في حياته إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
ولا بدّ أن يكون زاد المؤمن التقوى، لأنه خير ما يتزوّد به، واللّه تعالى يقول: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} والشاعر المسلم يقول:
تزوّد من حياتك للمعاد.. وقم للّه أجمع خير زاد
ولا تركن إلى الدنيا كثيرًا.. فإن المال مجمع للنفاد
أترض أن تكون رفيق قوم.. لهم زاد وأنت بغير زاد.
ثم ينبغي تخفيف المحل من ركام الدنيا وآثامها، فهي تعيق السير، وتقصم الظهر، وتحول دون الوصول وتكون عقبة كؤود بين العبد وربّه المعبود. وآخر المطاف لا بدّ من إخلاص العمل حتى يسلم الجمل بما حمل، ومن كان له مع عبادة ربه شريك فاصل جاء يوم القيامة بلا زاد ذليل خاسر.
ومن بساتين الحكم نقطف هذه الوصية الزهراء التي أوصى بها لقمان الحكيم لابنه: يا بني إن هذه الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه وحشوها الإيمان باللّه تعالى، وشراعها التوكل على اللّه عزّ وجل لعلك تنجو وما أراك ناجيًا.
ولعلنا فيما كتبنا نكون قد أحطنا ولو يسيرًا بما ينبغي الاهتداء إليه من معرفة سفينة النجاة في بحر الحياة ونكون من أهل تلك السفينة الناجية مردّدين قول الشاعر:
إن للّه عبادًا فطنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
والحمد للّه رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن