الهجرة النبوية الشريفة: وقفات ولمحات
لقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، محطة فاصلة في تاريخ الدعوة، والانتقال بها، أي: بالهجرة إلى عصر بناء الدولة، وبين الدعوة في مكة والدولة في المدينة، أمد غير قصير؛ ولكن كان له أثر كبير في تأسيس النفوس، وترسيخ النموذج الإيماني في مكة، قبل الشروع بالهجرة.
لأنه ليست تلكم الهجرة غاية بحد ذاتها؛ بل هي ضرورة فرضتها حالة القهر، والشروع بمؤازرة رؤوس الكفر في مكة، للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} (الأنفال).
فإذًا، هي أقصى غايات المكر لدين الله، والعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر يستدعي الخروج لإعادة لم الصفوف، وشحذ الهمم والنفوس في أرض جديدة، يتولد من أهلها دم جديد في قلب الأمة، تجسد بين المهاجرين والأنصار الذين صنعوا أنموذجًا فريدًا في المؤاخاة والمساواة والتضحية والإيثار، نصرة للرسول والرسالة.
لقد حققت الهجرة غاياتها القريبه والبعيدة، ويمكن جمعها في عشرة أمور:
1- تعليم الداعية، وقدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأخذ بالأسباب كلها في العمل لدين الله، كما يأخذ العبد بأسباب الدنيا؛ بل وفي الدين أشد وأقوم. وقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالًا يحتذى به في الأخذ بتلك الأسباب قبل الهجرة، وحين المبيت، وأثناء الخروج من بين صفوف المسلمين، مع الاستعانه بعون الله العزيز العليم.
2- استعمال كل أساليب التمويه والتعتيم وإشغال المشركين، بما يصرفهم عن معرفة الزمان والمكان، أثناء خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبي بكر بقصد المدينة، مع وضع العيون من الصحابة والإغاثة من الصحابيات، صرفًا للشك والريبة من نفوس الأعداء.
3- أهمية الصحبة الإيمانية في الهجرة، مع ما فيه من مقاصد قريبة وبعيدة، في اختيار الرفيق في الطريق ليكون دلالة على مكانة هذا الصاحب في الائتمان به على الأمة كلها من بعده.
4- إثبات أن الأرض كلها لله، وأن العبد لا يمكن أن يحصر دعوته، ولا أن يقصر حدوده على أرض مهد الدعوة وحدها، فقد يجعل الله للخير أرض جديدة يجد المهاجر إليها فيها مراغمًا كثيرًا وسعة، وأن من الأمور الواجب معرفتها أن المسلم المستضعف في أرضه، المحارب في عقر داره، لا بأس له من الخروج في أرض الله، طلبًا للأمان أولًا في النفس، ولو نتج عن هذا الخروج خسارة الأهل والمال والولد، سيما إذا كان هذا المهاجر قد اختير حمل أمانه الأمة وأصبح لحفظ ذاته، ومن هو أقرب الناس إليه ضروره شرعية.
5- إذا ما خيّر العبد المؤمن بين ما يملك من حطام الدنيا ومتاعها، وما خلفه في أرض مولده، مهما كان عزيزًا عليه نفسيًّا وماديًّا، يترك آثاره العميقة في القلب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، بشرًا قبل أن يكون رسولًا وقد قال في تعبيره عما في قلبه من مشاعر تجاه موطنه الأصلي مكة: (والله إنك لأحب أرض الله إلى قلبي ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)، ومع ذلك كله، فنصرة الدين مقدمة ومتقدمة على كل ما عداها.
6- لا بدّ أن يستفيد المهاجر من الأرض التي هاجر إليها، ولا يكن بمعزل عن المجتمع الجديد الذي انتمى إليه، وأصبح جزء منه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه المهاجرين أنموذجًا حيًّا في ذلك، حيث آخى عليه الصلاه والسلام، بين المهاجرين والأنصار، وتحققت معالم هذه المؤاخاة بالمصاهرة، والتزاوج، وتقاسم الطعام والشراب والمتاع فيما بينهم إلى درجه الإيثار والتضحية. وقد أنزل الله تعالى آيات في تلك المواقف الخالدة، قال تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (الحشر)
7- أهمية المسجد في الإسلام ودوره الدعوي والقيادي معًا، حيث أن أول ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند استقراره في المدينة بناء مسجد قباء، أول مسجد في الإسلام، والذي كان له الدور الريادي في تجميع الصفوف، وتأليف القلوب بما يحققه من جمع إيماني وسياسي وتربوي.
8- أهمية الهجرة في تحقيق العالمية، والانفتاح، ولو كانت في أرض متقاربة؛ لأنها تفتح أبواب مغلقه من الانعزال، والاقتصار على أهل البلد الواحد، مما يضعف انطلاق الدين وفتحه للبلدان والأمصار، من بعد ذلك، والمدينة نموذج قريب في ذلك.
9- أهمية أن يشعر المهاجر أن هناك من ينتظره، أخًا له، وأختًا لها في الدين والإنسانية، مما يعزز الشعور الذي قصدت إليه الآية الكريمة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) } (الحجرات)، وقد كانت الهجرة بابًا عظيمًا لهذا التعارف والبناء عليه.
10- أهمية تاريخ الهجرة كتقويم للسنة عند المسلمين، وذلك من حذاقة وفطانة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في معرفه أهمية الأيام، وأثرها للاستفادة منها في تذكير الأمة بأهم مفاصل التغيير فيها، والاستفادة منه والعظة به والاعتبار فيه على مدى تاريخها الطويل.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن