تنهض حروف المعاني في اللّغة العربيّة بدور بارز في الرّبط بين الكلمات الأساسيّة أو الـتّعليق، وتفصّل دلالة الفِعل، أو توضح اتّجاه الجملة بين استفهام ونفي ونهي، فهي تمتلك حيّزًا خاصًّا في دائرة المعاني، وإن كان هذا الحيِّزُ لا يصل إلى الأفق الواسع الّذي تمتلكه معاني الأسماء والأفعال.
وقد تخرج هذه الحروف عن معانيها المرسومة، وتوضع في سياقات جديدة، لتكون دلالتُها تأكيدَ معنًى سابق، لا إنشاء مَعنًى جديد، إنّها إذًا تقوّي المعنى، وتَزيده. ومن هذا المفهوم "زيادة أصل المعنى"، سمّيت "حروفَ زيادة".
ومثال ذلك: ليسَ الرّجلُ بقادِمٍ، حيث الباء زائدة، إذ ليس في أساس التّركيب إلّا ليس والاسم (الرّجل) والخبر (قادم)، وليس للباء أيّ من الدّلالات المعهودة (الإلصاق- الاستعانة- السّببيّة- المصاحَبة- الظّرفية...)، بل لها دلالة "زائدة" أملاها هذا السّياق، وهي التّأكيد.
ومن الأمثلة في القرآن: "ما" في {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ} [آل عمران: 159]، وفي {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155]، و"مِن" في {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} [المائدة: 19]، و"الباء" في {وما رَبُّكَ بِـــظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصّلت: 46]، و"لا" في {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، وفي {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد: 29]، وفي {فَلَا أُقْسِمُ بِالْـخُــنَّسِ} [التكوير: 15]، وفي {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1].... ففي كلّ هذه الأمثلة أفادت تلك الحروف زيادة المعنى وتقويته وتأكيده، وليست زائدةً بمعنى أنّها خالية من الفائدة.
وقد صرّح بأنّها زائدة سيبويه (180هـ)، والفرّاء (207هـ)، والرّمَّانيّ (384هـ)، وابن جنّي (392هـ)، والزّمخشريّ (538هـ)، والمالقيّ (702هـ)، وأبو حيّان الأندلسيّ، (745هـ)، وابن هشام (761ه،).... وإنِ اختار الكوفيّون أن يعبّروا عنها بـ"صلة" أو "حشو". ونقل الزّركشيّ (794هـ) عن نجم الدّين الطّرطوسيّ (758هـ) في "عمدة الحكّام" أنّ جمهور العلماء والفقهاء والمفسّرين على إثباتها في القرآن، وأنّها فيه على وجه لا يسع إنكارُه.
ومع ذلك تجاوَز أقوام هذا الفَهمَ، بدافِع الحرص المسرف على القرآن، وأنكروا أن يقع فيه شيء من الحروف الزَّائدة. وتكاد هواجسهم تتركّز في أمرين: أنّ الزّيادة تعني الخلوّ من الفائدة، وأنّها تعني وجود الـنّقص قبلها، فلولا الـنّقص لما احتاج المقام إلى زيادة. قال السّيوطيّ (911هـ) إنّ على المفسِّر "أن يجتنب إطلاق لفظ الزّائد في كتاب الله تعالى، فإنّ الزّائد قد يُفهم منه أنّه لا معنى له، وكتاب الله منزَّه عن ذلك. ولهذا فرَّ بعضهم إلى التّعبير بَدَله بالتّأكيد والصّلة، والـمُقحَم...".
ولسنا في إزالة هذه الهواجس ذاهبينَ إلى الرّدّ على تفاصيل حروف المعاني، وتتبّع ما هو زائد منها في القرآنِ، لإثباتِ جَودة ما قدّمه من دلالات إضافيّة، ولكنّنا نسرد الثّوابت التّالية في أساسيّات الـتّفكير اللّغويّ حول هذه الهواجس:
1- في العودة إلى المعاجم، نجد أنّ دلالات (زاد) اللّازم، و(زاد) المتعدّي، تتّفق على نموّ الكمّيّة والفيضِ والكفاية. فمن استخدامات اللّازم: زادَ معي هذا المبلغ بعد عودتي من السّوق، وزادَ مالي بعد التِّجارة. والمعنى الأخير حريّ به أن يوصف ما جاء من حروف المعاني للدّلالة على نموّ المعنى وتقويته. وأمّا (زاد) المتعدّي فيفيد أن الفاعل قدّم للمفعول به جديدًا ، كأن يقال: زادَ العِلمُ مكانتي. وإذا أردنا هذا المعنى للحروف، نقول: زادت هذه الحروف المعنى، فهي زائدة، وهذا لا يعني أبدًا أنّها خالية من الفائدة.
2- قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبراهيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحيِي الـمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤمِن قَالَ بَلَى وَلكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فأظهر بذلك أنّ إيمان إبراهيم عليه السّلام- ولا يصحّ أن نتصوّر أيّ نقص فيه- لم يمنعه من طلب الزّيادة، لتأكيد الأصل، وترسيخ الطّمانينة.
3- وقد عبّر الله عن هذا المفهوم في أماكن متعدّدة بألفاظ مشتقّة من "الزّيادة"، نحو: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، ونحو: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]، ونحو: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]...
4-وقال الله تعالى: {للَّذِينَ أَحْسَنُوا الْـحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس: 26]، فجعل لفظة "الزّيادة" بعد اسم الـتّفضيل المحلّى بـ"أل"، ومعلوم أنّ اسم الـتّفضيل على هذا الـنّحو يدلّ على ما هو أعلى في أبناء جنسه، لا يعتريه نقص، ومع ذلك جاءت لفظة "الزّيادة" لتؤكّد أنّها ليست لرأب الـنّقص، وأنّها ليست كذلك شيئًا خاليًا من الفائدة، وإلّا فما قيمة أن يَعِدَ الله بها المحسنين، وأن يمنّ بها عليهم؟
5- وفي القرآن ألفاظ كثيرة وردت بمعنى الـزّيادة، ومنها "الفَضْل": {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ} [الـنور: 22]، والفضل هنا ما زاد من مالك، بعد قضاء حوائجك الأساسية. وهذه الزّيادة لم تنسب إلى أصحابها نقصًا إذ حُرِموها، ولا سبّبت لهم تهمة الخلوّ من الفائدة إذ امتلكوها! ومنها "العَفو": {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، أي ما زاد عن نفقتك على نفسك، وعلى آل بيتك مِمّن تعول. وهذه الزّيادة هي أفضل ما في المال، لأنّها تزكّيه.
6- وفي المنظور الصّرفيّ للكلمات، نجد ما هو مجرّد، مثل الاسمين "عين" و"أرض"، والفعلين "مَلَكَ" و"قسَم"، ونستطيع أن ندخل على كلّ منها حرفًا أو أكثر من حروف الزّيادة المجتمعة في "سألتمونيها"، فنقول: "عيون" و"أراضي" و"امتلك" و"اقتسم". والكلمة المجرّدة لا نقص في معناها، ولكن الحروف الزّائدة تنوّع وتقدّم تحويرًا أو توجيهًا للمعنى. وقد ورد في القرآن فيضٌ غزيرٌ من الكلمات المزيدة، ولم يرفض أحدٌ تسميتها بذلك. ومن الأمثلة سورة الفاتحة: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}، فالكلمات المتّفق على أنّها مزيدة هنا: رحمان- رحيم- العالمين- مالك- نستعين- المستقيم- أنعمت- المغضوب- الضّالّين.
7- وفي منظور علم المعاني تتكوّن الجملة من ركنين أساسيّين هما المسند إليه (المبتدأ أو اسم الـنّاسخ أو الفاعل أو نائب الفاعل..) والمسند (خبر المبتدأ أو خبر النّاسخ أو الفعل...). وباقي الكلمات (الأفعال النّاقصة والـنّعت والمضاف إليه والظّرف والمجرور بحرف الجرّ وكلّ حروف المعاني...) فضَلاتٌ، أي زيادات. ولم يعترض أحد على هذه الـتّسمية. ومثال على ذلك سورةُ الكوثر: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} فضَلات كثيرة: إنّ- ك- الكوثر- فـ- لـ- ربّ- ك- و- إنّ- ك- هو. وكلّها ذات فوائد دلاليّة كاملة.
ولنا أن نستضيء بآية بلور فيها حرف الزّيادة المعنى، وأخرجه من الشّبهة، وهي {وما رَبُّكَ بِـــظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصّلت: 46]. لقد نفى الله عن ذاتِه شدّة الظّلم، إذ لفظة "ظلّام" من أمثلة المبالغة، فهل يعني ذلك أنّه يجوز في ذاتِه الظّلم القليل!؟ تعالى الله عن ذلك. سنجد أنّ الله ذكر عبر "ظلّام" أمرين: مفهوم الظّلم، وكَثرته. وجاء الـنّفي مضاعفًا لمواجهة الأمرين، فكان الـنّفي بـ"ما"، وكانت الباء الزّائدة لتوكيد هذا الـنّفي. الظّلم نفته "ما"، وشدّة الظّلم (بصيغة المبالغة) نفتها شدّة المعنى (بالحرف الزّائد).
وأخيرًا، لا بدّ من أن نهتمّ بالمعنى الاصطلاحيّ للكلمة، ولا نتمسّك بمعناها المعجميّ، فالسّابق ينسخه اللّاحق إنْ خالَفه.
وإلّا فإنّ علينا أن نرفض القول بوجود حروف علّة في القرآن، لأنّ العلّة أساسًا تعني الـنّقصَ والـتّشوّه والمرَض والعَيب! وكذلك علينا أن نرفض القول بوجود كلمات مهموزة في القرآن، لأنّ المهموز في أساسه المعجميّ يعني "الـمَعيب"! وربّما نرفض إطلاق مصطلح "حرف" أصلًا، لأنّ الله ذمّه في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحجّ: 11]! وكلّ هذا لا يرضى به عاقل.
ولقد أجاز كثير من علماء البلاغة لأنفُسِهِم إطلاق مصطلح السّجْع على توافق الفواصل القرآنيّة، كما في أواخر الآيات الأولى من سورة التّين: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)}، على الرّغم من أنّ أصل السّجْع في اللّغة ترديد الحمامةِ أو الـنّاقةِ الصوتَ على طريقة واحدة. ومن هؤلاء العلماء أبو هلال العسكريّ (395ه) وابن سنان الخفَاجيّ (466ه) وضياء الدين بن الأثير (637ه)...
ولقد أرشدَنا القرآن الكريم أيضًا إلى توسُّع كبير في الأفق اللّغويّ حين نسب إلى الذّات الإلهية صفاتٍ وأفعالًا، وهي في أصلها اللّغويّ لا تليق، ووجّهها العلماء بأنّها من باب المشاكلة، وهي ذكر معنى بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير وقوعًا محقَّقًا أو مقدَّرًا. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، وقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}.
وفي كلّ حال، قال العلماء: "لا مُشاحّة في الاصطلاح". ومعنى ذلك أنّ الخلاف إذا كان واقعًا في الأمور الاصطلاحيّة (الـتّسمية واللّفظ)، فإنه لا ينبني عليه حكمٌ، ولا اعتبار به، لو حصل الاتفاق على المعنى. ألا نرى أنّ كلّ العلماء متّفقون على أنّ هذه الحروف تفيد الـتّأكيد، وليستْ خالية من الدّلالة؟ نقول ذلك مع ما سبق أن أشرنا إليه من أنّ الدّلالة المعجميّة للزّيادة لا تدعو إلى القلق، ولا تسبِّب أيّ أرَق.
نسأل الله أن يهبنا "زيادة" في تلاوة القرآن، و"زيادة" في تدبُّرِه، و"زيادة" في الطّمأنينة، ونسأله أن يكتب لنا الـحُسنى.... و"زيادة".
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة