بلبلة
جَذَبني مِن يدي بقوَّة، حتى كاد أن يقتلعَها، عضضتُ على شفتي متألِّمة، وكتمتُ صرختي داخلي، وتابعتُ السير خلفه، تارةً فوق الرصيف، وتارةً في طرف الشارع، أتعثَّر بالحصى، أو أدوس على المياه المتجمِّعة أمامَ المحلات المغسولة، أحاول أن أماشيَه في خُطواته السَّريعة، وأتشرَّبَ بعض غضبه، دون جدوى، فقد كان يَغلي مثلَ بُركان، ويُتمتِم بعبارات لم أفهمْها كلها، كان يتحدَّث - دون شكٍّ - عني، وعن وجههِ المسودِّ أمام الناس، وقال شيئًا عن إسراف أمِّي في تدليلي، ولا أدري ما قاله عن جِيلي، ولم آبه، فقد كان الصمتُ سلاحِي الوحيد الذي لجأتُ إليه؛ لأُفهمَه أنني ما زلتُ عند قراري بطلب الطلاق، وبأنَّني لن أعيش أبدًا مع زوج يمتلك لِسانًا بذيئًا.
سحبتُ ذِراعي من بيْن يديه، ووقفتُ أُسند ظهري على سور أحد الأبنية، وألْتَقِط بعضًا مِن أنفاسي المتلاحِقة، وكأنَّه استعاد في تلك اللحظة حنانَه الأبويَّ، فربَّتَ على كتفي، وقال:
• أمَا مِن طريقة تجعلكِ تحتملين ذلك الكائن؟!
أجبتُ بإصرار وأنا أتابع سيري:
• مستحيل!
لجأ هذه المرَّة إلى العقلانيَّة والتفاوض السِّلْمي، فأخَذ يسيرُ ورائي؛ لعلَّه يستطيع اللحاقَ بي، ولم أدرِ مِن أين أتتْنِي القوة والقدرة على السير بعدَ ليلة ليلاء، قضيتُها في البكاء والنّحيب، فبتُّ أعْدو بسرعة، لعلَّ كلماتِ نُصحه تتطاير في الهواء، أو تحملها الرِّيح إلى مكان سحيق، فلا تَصِلُ إلى مسامعي، فلم يكن في قلْبي أيُّ مكان لاستيعابه مجددًا، بعد عمر أضنيتُه بالصَّبر والاحتساب.
قلتُ لأبي: إنَّ محاسنه كثيرة، لكن لديَّ عُقدة تُجاهَ الشَّتائم والكلام البذيء، قلْبي لا يحتمله، ورُوحي لا تُطيقه، وإنَّ ضربي بالسَّوط أهونُ عليَّ مِن كلمةٍ جارِحة يُهينني بها، أو يُصوِّبها إليَّ.
أحسستُ أنَّني كسبتُ شعورَه بالشفقة، وكان قدِ استطاع اللحاقَ بي، وصِرْنا نمشي أنا وهو على مَهلٍ هذه المرَّة، وبحنان غامرٍ سألني:
• أيَّ أنواع الشَّتائم يُوجِّهها إليكِ؟
قلتُ له: كل ما يَخطُر على بالك في عالِم الحيوان والحشرات، فأجاب بدهاء:
• إنَّ في عالَم الحشرات النحلةَ والفراشة، وفي عالَم الحيوان الظبيَ والغزال، فهل هي مِن هذا النَّوع؟!
ابتسمتُ بمرارة، والتزمتُ الصَّمت، فهو يعرِف الإجابة، لكنَّه يحاول تلطيفَ الجو قليلاً؛ لربَّما وجَد سبيلاً إلى إرضائي.
وكنَّا قد نزلْنا إلى الشارع لنفسحَ لعَربة يجرُّها حمار بأن تصعَد مكاننا، وكان صاحبُها يجرُّ الحمار، وينهره قائلاً؛ أسرعْ أيها الحمار، فينهق الحمارُ غاضبًا، ويملأ الدنيا صخبًا.
قلتُ لأبي: انظرْ! حتى الحمير لدَيها إحساسٌ بالإهانة، وإلا فلِمَ يَنهَقُ على هذا النَّحو المريب، لا بدَّ وأنَّه يعترض على بني البشر، وأنا واثقةٌ أنَّنا إذا ناديناه باسمٍ إنسانيٍّ لازداد غضبُه ونهيقه، إنه يتحلَّى بقدرٍ كبير من الإباء وعزَّة النفس، ولا يقبل العيشَ بمهانة!
هذه المرَّة سَكَت أبي ولم أدرِ لِمَ سكت، هل كان يشعر بالغرابة مِن معلومات ابنته الواسِعة عن عالَم الحيوان؟!
تَمْتمتُ قائلة: لا يجبركَ على المرِّ إلا ما هو أشدُّ منه مرارةً.
أخَذ أبي نَفَسًا عميقًا وبحِكمته قال لي:
• لعلَّه تربَّى على الجفاء وغِلظة الألفاظ، فاصطبري عليه، وحاولي تليينَ قلْبه بمحبَّتك، وبطيب تربيتك.
انفجرتُ لحظتَها بوابلٍ مِن الألَم، وأخبرتُه عن رؤيتي له في دكَّانه يَعرِض بضاعةً على إحدى النساء، وعن عباراته التي خرجتْ كالشهد من فمِه، فتَسمَّرْتُ في مكاني غيرَ مصدِّقة، ليس لشعوري أنَّه خائن، ولكن لإمكانية خروجِ كلمات كهذه مِن فمِه!
قال أبي:
• أيُمطِرُها بمعسول الكلام من أجْل دراهمَ معدودةٍ؟!
قلتُ آسفة:
• بل له فيها مآربُ أخرى.
احمرَّ وجهُ أبي هذه المرَّة مِن شدَّة الغضب، وأحسستُ بالبركان يتفجَّر داخلَه، وصرَخ قائلاً:
• لماذا لم تُخبريني إلاَّ الآن؟ كنتُ أوقفتُه عندَ حدِّه.
تلفتُّ حولي لِأَجِدَ عيون الناس ترقُبنا، وأخذتُ أبي هذه المرَّة مِن يده، وسِرتُ به كما أسير مع طفلٍ صغير على الرصيف، وبدأتُ أشعر بالقَلَق عليه مِن سكتةٍ قلبيَّة تفتِك به، فحاولتُ تهدئةَ الأمور قليلاً؛ لعلَّه يتحسَّن.
همستُ بحياء:
• لعلَّه لا يقصد، ولعلَّها مُجرَّد شكوك، (رمزي) رجلٌ طيِّب رغمَ بعض خِصاله السيئة، مَن منَّا كاملُ الصفات يا والدي؟! أشعر أنَّه - رغم كل شيء - يُحبُّني كثيرًا.
تابع أبي الصراخ:
• تبًّا له ولكرمِه ولعواطفه، سأُطلِّقكِ منه اليوم قبلَ الغد، وأُلقِّنه درسًا لا ينساه؛ ليعرفَ كيف يتعامل مع بنات النّاس.
بتُّ موقنةً أنَّ عيون كلِّ أهل الحي مصوَّبة نحوَنا، ولم ألتفت إليهم هذه المرَّة، بل بدأتُ أُدلِّك يدَ والدي، فهذه الوسيلة الأفضل لتهدئته، وطلبتُ منه أن يتنفَّس بعمق، وألاَّ يُفكِّرَ في موضوعٍ تافهٍ كهذا، فكثيرٌ من الأزواج يصدُر عنهم أمور مشابهة، ولا داعيَ لتضخيم الأمور أكثر ممَّا يجب، وأخذتُ أُعدِّد له خِصالَه الطيبة، وأختلق له بعضَ القصص (المفبركة)؛ لأُزيِّنَ زوجي في عينيه وألحظ الهدوءَ الذي اعتراه، وسكون ملامِحه، ويأخذنا الحديث، فنجلس على دَرَج المبنى، فتتحوَّل أحاديثنا إلى مغامرات وضَحِكٍ ونِكات.
رنَّ هاتفي الجوَّال فجأة، أجبتُ باسمة ثم أغلقتُه، سألَني والدي عن المتَّصل، قلت له بأنه رمزي أتى ولم يَجدني، فقلق عليَّ.
نهض والدي والنَّخْوة تشعُّ مِن قَسماته، وقال لي: تعالَي سأوصلكِ إليه، وبكلِّ سرور وافقتُ، لكنَّني نظرت إلى الشارع وسألتُه عن السَّيَّارة، أين هي؟
فضَرَب كفًّا بكف، وقال لي: قاتَل الله الغضب، لقد نسيتُها أمامَ باب بيتِكم!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن