قصة كفاح ووفاء
كانت البسمةُ لا تُفارقُ محيَّاه، يحبُّه الصّغيرُ والكبيرُ، يعودُ إلى منزلِه محمّلًا بأشهى الأطعمةِ والحلويات، وبالرّغمِ من بساطتِه.
إلا أنّ الدفءَ والحنانَ يُشعُّ من أركانِه وجدرانِه، يجلسُ يتجاذبُ أطرافَ الحديثِ معَ أفرادِ أسرتِه على مائدةِ العَشاءِ فيشجعُهم على الاجتهادِ في الدّراسةِ والتّفوقِ، ويوصيهم على الالتزامِ بالعباداتِ وطاعةِ والدتِهم، لكنْ شاءت الأقدارُ أنْ يُصابَ العمُّ عدنان بكوفيد 19 المستجدّ لاختلاطِه المستمرِّ بزملائِه في مصنعِ النّسيجِ، بالرّغمِ من الإجراءاتِ الاحترازيةِ بقي في العنايةِ المركزةِ لبضعةِ أيامٍ، ومن ثمّ لحقت به زوجتُه أمُّ خالد المعروفةُ برقةِ قلبِها، وخُلقِها الدّمثُ وحلاوةُ لسانِها. يوقرُها جيرانُها، تاركةً وراءَها خالد، وأخواته الثلاثة فانطفأتْ قناديلُ المنزلِ، وأظلمتْ أركانُه وعمَّ السكونُ ووجمَ الحزنُ وتبدلَ حالُ خالدٍ وأخواته.
انفضَّ العزاءُ وذهبَ الصّحبُ والأحبابُ باستثناءِ زياراتٍ خاطفةٍ من وقتٍ لآخر، ووجدَ خالدّ نفسَه بلا سندٍ، ولا رفيقٍ ولا مُعيلٍ لمواجهةِ المصاعبِ الجمّة التي أحاطتْ به من كلِّ الجهاتِ.
جلسَ خالدٌ مُطرقَ التّفكيرِ، كيفَ له أنْ يُكملَ دراستَه؟ وكيفَ ينفقُ على أخواتِه؟ فقد كانَ مصدرَ رزقِهم الوحيدُ معاشَ والدِهم البسيط.
كانت لحظاتٌ عصيبةٌ للغاية؛ فبدأتْ الدّموعُ تنهمرُ من عينيه، كيفَ السّبيلُ؟ وأين المخرج، إلى أنْ اهتدى إلى فكرةِ العملِ بالّليلِ، والدّراسةِ صباحًا وتدريسِ أخواتِه وقتَ العصر، إلا أنّه معَ الأيامِ أخذَ التّعبُ والوهنُ طريقَه إلى جسدِه النّحيلِ، وما عاد يقوى فساورَه اليأسُ، وأخذتِ الأفكارُ تروادهُ عن حلِمه بأن يصبحَ طبيبًا، وأخذَ يفكرُّ في تركِ الدّراسةِ بالرّغمِ من تفوقِه، والاستمرارِ بالعملِ ليلَ نهار لأجلِ إخوانِه، وتعليمِهم وتوفيرِ العيشِ الكريمِ لهم دونَ العوزِ إلى الآخرين... فركبَ الحافلةَ مسرعَ الخطى إلى جامعتِه، ودخلَ من البوابةِ الكبيرةِ يمشي خطوةً تلو الأخرى، عاقدَ العزمِ على تركِ كليةِ الطبّ إرضاءً لوالديه وحبًّا لأخواتِه، ولكنْ دونَ سابقِ إنذارٍ.
استوقفَه أحدُ مدرّسيه سائلًا إياه عن بحثِ علم الجراثيمِ، ودراستِه عن مستجدّاتِ كوفيد.. فأذعنَ رأسَه.. واغرورقتْ عيناه
بدمعٍ غزير... فربّتَ الدّكتورُ شاكر على كتفَيه مشجعًا له، وأخذه إلى مكتبِه، ثم طلبَ فنجانًا من النعناعِ وبجانبِه قطعةٌ من الكعكِ المحلّى بدبسِ التّمر..
قالَ له: تفضلْ هيا فلتتناولْ معي الكعكَ ثم نتحدث... ردّ خالدٌ عليه بأدبٍ جمٍّ: لا أشتهيه وأعتذرَ منه، واكتفى برشفِ قطراتٍ من كوبِ النعناع... حدّقَ به الدكتورُ شاكر من وراءِ نظارتِه.. وقال خالد أعرفُ ماحلّ بوالديك وما أصابَهم من الداءِ المسعورِ كوفيد المستجد.
لكنْ تذّكرْ أنّ الكثيرَ الكثيرَ حولَ العالم قد توفاهم الله.. تذكرْ انّ الموتَ حقٌّ... وأخذَ يذكّرُه، ويوصيه بالصّبرِ... ثم قامَ الدّكتورُ من مكانِه... وتحرّكَ صوْبَ خالد، ولدي... ولدي.. لماذا سوفَ تتركُ الجامعة؟ هل بسبِ الأوضاعِ الماليةِ وغيرِها؟ أجابَ خالدٌ: نعم، همسَ له بعباراتٍ وربتَ على كتفيه. وقال له أين الوفاءُ لعهدِ والديك؟! أين الوفاء!!.. قد أضعتَ سنواتِ تعبِ وصبرِ والدَيْك في الهواء.
يا أسفاه ثم قالَ له أنا الدكتورُ شاكر رئيسُ كلية الطبّ كأنك أنا فقصتُك مشابهةٌ لقصتي... فقد قاسيتُ الأمريّن.. ولم أضيّعْ حلمَ والدي بل ها أنا الدكتورُ شاكر... هنا بثَّ كلماتِ الأملِ في وجدانِه وانتعشتْ رُوحَه بعزيمةِ الإصرارِ... والاستمرارِ... من جديد .... ومرّتْ سنواتٌ تِلو أخرى في ذلك البيتِ العتيق في بيتِ العمِّ أبي خالد. وقفتْ سياراتٌ وجموعٌ من النّاسِ يتزاحمون على عيادةِ الدّكتورِ الكبير خالد عدنان.
يا ترىُ أتريدُ أنْ أحجزَ لك موعدًا معه، بادر الآن لأنّه يُقال أنّ الدّاءَ المسعورَ كورونا المستجدّ، قد أوقفه الدكتورُ خالدّ باكتشافِ علاجٍ له .
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة
هل تظنُّون؟!
السنوار... رسالة الرمق الأخير