من أعمدة الصيام: شواهد وبيان
عندما ذكر الله تعالى آيات الصوم، وبعده رسوله صلى الله عليه وسلم، كان هناك ما يشبه التعليم المنهجي في هذه العبادة الموسمية المباركة، وهو يصل بالنتيجة إلى أنّ من يدخل مدرسة الصوم لتلقّي هذا التعليم المبارك أثره، فليس ذلك بمثابة ترف أو مجرد حب استطلاع، وفضول.
ذلك أن لمدرسة الصيام الكثير الغزير من العلم الوفير في التأثير والتغيير. فما هي أعمدة هذا العلم الذي يتجسد في أيام وليالي رمضان، والذي هو أيام معدودات، وليال محدودات، ولكنه لعظيم ما فيه من خيرات وبركات ونفحات وأعطيات، يكاد أن يتمنى المؤمن العارف بربه ألا يفوته منه ولو سويْعات من الأوقات حتى ينال فيه أعلى الدرجات والعميم من الحسنات.
إن العماد الأول للصوم، إنما هو عماد التقوى، ولباسه الذي يرتديه العبد في صيامه {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ}، وهو أعظم غاية أرادها الإسلام من أهل الصوم، وإذا ما تحقّق ذلك المراد في صوم من صام؛ فإنه ينتج عنه الكثير من النماذج التي تعنيه على التقوى.
وأولها درجة الإحسان: وهي من معناها الذي جاء ذكره في حديث جبريل: "قال فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وليس ثمة عبادة فيها تحقق المراقبة والمحاسبة مثل عبادة الصوم، حيث لا يراك يا من تصوم إلا الحي القيوم ولا يعلم ما سرى في الخفاء وما تحتويه غياهب المعلوم إلا من بيده النواصي، ومفاتح الغيب المكنون، ومن هنا جاء سر الحديث القدسي المصون "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
فهو لعظيم قدر درجة الإحسان فيه له سر بين العبد وربه، لا يشاركه فيه أي عمل آخر من العبادات في الأجر والثواب غير الممنون.
والعماد الثاني للصوم إنما هو في تحقق الصبر في أوسع أبوابه وأعلى درجاته، حيث ذهب بعض أهل التفسير في قوله تعالى {واستعينوا بالصّبر والصلاة}، إلى أنّ المراد بالصبر هنا، إنما هو الصوم وكيف لا يكون كذلك، وليس ثمة أعظم استعانة يستعين بها العبد في حياته التي يعتريها الكبد والكمد الشديد من لواعج القلب، والكمد بعبادة الصوم، وتهذيب النفس، والبدن بالصبر على حرمانهما من كثير من ملذات العيش الرغد.، حيث ليس أحد ينوب عن الصوم ليكن دواء لمن في عينيه عن تلمس الحق رمد، وفي قلبه منة ختم وصد وقفل ورصد.
وأما العماد الثالث للصوم فهو حسن الخلق ورد الأذى باللين من القول، بحفظ اللسان من أشرار القوم والجسد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"، وهو ما يعني أن للصوم قدرته العجيبة في حجب الناس في صومهم عن كثير من أنواع الأذى في شهر صومهم من أشرار الخلق، وما ينتج عنهم من شر وأذية.
وأما العماد الرابع للصوم فهو التحسس بين إخوة الدين بالمشاركة في الإيثار، وحسن الطوية، حيث إنه ليس من شعور بالحاجة لمد يد العون والبذل والعطاء من الذي منع عن نفسه الكثير مما فيه شهوة وشهية، ليشارك بذلك من قدرعليه العيش بشظف وحرمان وموارد دنية فتكن الصدقة من أوسع أبوابها ينفقها الصائم في الغدو والعشية، فيزكي بها صومه وينل بها عند ربه المناقب العلية.
وأما العماد الخامس للصيام فهو القرآن، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولا غرو إن اجتمع اسم الصيام مع القرآن، وهو الشهر الذي نزل فيه كتاب الله الواحد الديّان على قلب نبيه الرسول العدنان عليه أفضل الصلاة والسلام.
فقد اجتمع هنا الخيران والتقى اللؤلؤ والمرجان يجتمعان فلا يفترقان، ليس بينهما برزخ ولا حاجز؛ بل إنهما صنوان لا يفترقان كالشمس والقمر، كل منهما لبعضهما البعض يحتاجان.
فنور الصوم هو نور القمر يستمد ضياه من الشمس الذي هو القرآن، ولا بدّ لأهل الصوم أن يكونوا من أهل القرآن، ولا سيما في شهر رمضان المبارك، الذي جعل الله الشفاعة لأصحابه فيه أمر لازم، والصوم والقرآن للعبد يشفعان.
ولا بدّ لعماد القرآن أن يعلوا أعلى البنيان فيشيّد في قلوب أهل الإيمان صرحًا من الالتزام بنهج القرآن في التربية، والجهاد، ومعرفة الأحكام والوقوف على ما أمر به الرحمان بكل صدق والتزام.
تلك بعض الأعمدة التي يتجسد فيها الصوم بأحسن مزية، أردنا أن نعطي فيها نماذج عملية لغاية هذه العبادة في شهر الصوم في أعلى غاياتها، بلا مراء ولا ظهور بقصد نيل السمعة من الناس وإغضاب رب البرية.
أعاننا الله وإياكم على حسن عبادته في شهر الصوم في أيامه الزكية، لننال شرف الوصول للقبول عند من يملك رقاب العباد ويعلم ما في الصدور في السر والعلانية والحمد لله رب العالمين.
ما دامت السماوات والأرض وما دام ملك الله الواحد القهار إلى أن يصير الناس في حكم الله عليهم بالجنة أو النار عدلًا منه سبحانه بالسوية.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة